سياحة العشوائيات وفيلم المليونير....
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عالمان مختلفان يتجاوران، ولكن لا يمتزجان. ينظر سكان كل عالم إلى سكان العالم الآخر باندهاش وكأنهم مخلوقات من كوكب غريب. يتعاملون معهم بشك وريبة، إن لم يكن بعداء وكراهية. وربما كان الفضول هو أحد العوامل التى تدفع الكثير من سياح العالم المتقدم إلى الرغبة فى إزاحة القشرة اللامعة البراقة للبلاد المزارة، والغوص فى قاع مدنها، لاكتشاف العوالم الغامضة المسحورة القابعة فيها. وهذا بالضبط ما قدمه لهم هذا الفيلم؛ فقد كشف بصدق، وبدون تجمل؛ ولكن بحساسية فنية، وإخراج رائع، عن واقع الحياة والأحياء فى عشوائيات مومباى. أما بالنسبة لأمثالنا من أبناء العالم الثالث؛ فإننا يمكن أن نتماهى مع هذا الفيلم، حيث أننا نرى فيه نسخة، تكاد تكون طبق الأصل، مما يجرى فى الأحياء المشابهة فى بلادنا. ولكنه كان رحيما بنا؛ فقدم الواقع المرير ممتزجا ببسمة وتشويق وإبهار، خففوا من وقعه القاسى. ولعل كل هذه الأسباب مجتمعة هى التى جعلت فيلما rsquo;ينتج بميزانية متواضعة، ولا تتضمن قائمة ممثليه أى نجوم شباك، ومعظم أبطاله أسماء غير معروفة فى عالم الفن، يحصد العديد من الجوائز فى كل المسابقات التمهيدية للحدث الأكبر وهو الأوسكار، الذى بات حصوله على عدد محترم من جوائزه فى حكم المؤكد. يكشف الفيلم عن الكثير مما يجرى، ليس فقط فى ممباى الهند، بل فى أى مكان مشابه فى مختلف بقاع الأرض: أناس يعيشون فى ظروف أبعد ما تكون عن الآدمية، ومع ذلك نجدهم يتحركون ويتبادلون أطراف الحديث، يقعون ثم ينهضون، يمرضون ولكن يتعافون، يحبون ويتناسلون، بل أحيانا يمزحون ويضحكون، يلهو أطفالهم ويلعبون كباقى الأطفال، وقليلا ما ينجحون فى الخروج سالمين من هذه البؤر، ليصيبوا قدرا من التعليم والنجاح، ونادرا ما يصير منهم النابغة أو المليونير( كما حدث فى هذا الفيلم ). جحافل من الأطفال المشردين، قد لاتنجح الأسمال التى تكسوا أجسامهم الهزيلة، ولا أكوام القاذورات التى تلطخهم، فى أن تخفى تماما ملاحة وجوههم السمراء، ولا ومضة الشقاوة و"الفهلوة" التى تلمع أحيانا فى العيون السوداء الواسعة، التى يغلف نظراتها أحزان القهر والحرمان. العصابات التى تجد فى أطفال الشوارع كنزا هائلا للعمالة الرخيصة التى تقترب من العبودية، وللاستغلال فى تجارة الجنس والمخدرات، وفى النشل والجريمة، ولا تتورع عن إحداث العاهات البشعة فى أجسادهم الصغيرة، بغرض استجداء العطف، عندما يطلقونهم فى الشوارع للشحاذة لصالح المعلم الكبير. صور مؤلمة تستدعى إلى الذاكرة الشخصية التى لاrsquo;تنسى: "زيطة صانع العاهات"، فى رائعة نجيب محفوظ:" زقاق المدق". ما يجرى فى أقسام البوليس من تعذيب وانتهاك لآدمية المقبوض عليهم، بغرض انتزاع اعترافات عن جرائم لم يرتكبوها. الفساد والغش الذى يتمدد كالأخطبوط فى كل الأصعدة، والعلاقات المشبوهة التى تختفى وراء المظهر البراق لنجوم المجتمع. موجات العنف والكراهية التى تدفع بحشود الغوغاء والرعاع للانتقام ممن يخالفهم فى المعتقدات، وتدمير مأواهم وكل ما يمتلكون من حطام الدنيا؛ بل وقتلهم بلا رحمة، وحرقهم وهم أحياء. النموذج الشائع للشخص الذى يرتكب كافة الموبقات، ومع ذلك يمارس طقوس العبادة، ويردد العبارات الدينية، دون أن تهتز له شعرة. ورغم أن أحداث الفيلم تدور حول الفقر والتعاسة، فإنه لم يخلو من إشارة أمل، وومضة نور، ولمحة بهجة: جمال وسليم شقيقان، ولدا وكبرا فى نفس ظروف الفقر واليتم والتشرد. وبينما انجرف سليم - كما هو متوقع- فى عالم الفساد والجريمة، استطاع جمال أن يحتفظ بنقاء روحه، رغم العفونة المحيطه به من كل جانب. وحتى سليم الشرير لم يخلو من جانب طيب، تبدى فى تحمله للمخاطر فى سبيل حماية أخيه الأصغر. جمال، الشاب الذى فاز بعشرين مليون روبية، فى النسخة الهندية من البرنامج التلفزيونى: " من سيربح المليون؟" ( رغم أن مقدم البرنامج المتأنق "المرسوم"، قد حاول أن يخدعه و يقوده إلى الإجابة الخاطئة على السؤال النهائى الحاسم )، rsquo;يقبض عليه وrsquo;يحقق معه بتهمة الغش؛ لأنه كان من الصعب تصديق أن ابن حوارى مومباى، الذى لم يحظ بأى قدر يذكر من التعليم، يمكنه الإجابة على أسئلة المسابقة. ولكن الفيلم يرينا بحرفية عالية كيف أن ذكائه الفطرى، وملاحظته الدقيقة، قد مكناه من اكتساب معلومات ومعارف متنوعة، وقدرة على فهم طبيعة البشر، واكتشاف خداعهم، من خلال التجارب والمواقف الغيرعادية التى مر بها خلال طفولته وصباه، فى صراعه المستميت من أجل البقاء وسط أصعب وأقسى الظروف. وطبعا كان لابد أن لا يخلو الفيلم من حكاية رومانسية؛ فنجد قصة حب الطفولة البرىء، الذى عاش واستمر رغم الأهوال التى مر بها الحبيبان، ليلتقيا فى النهاية، وفى جيوبهما 20 مليون روبية، كفيلة بأن توفر لهما سنوات طويلة من العسل. وطبيعى أيضا أن يظهر نجم محبوب كأميتاب باتشان فى لقطة قصيرة كضيف شرف، وأن لا ينتهى الفيلم بدون الرقصة والغنوة، المصحوبة بالموسيقى المرحة والألوان المبهرة، التى اعتدناها فى الأفلام الهندية من أيام "سانجام" و"سوراج" وغيرهما من الأعمال الشهيرة. وفى النهاية، فإن هذا الفيلم قد قوبل بموجة من الاحتجاج من قبل سكان عشوائيات مومباى، اعتراضا على عنوانه الذى شبههم بالكلاب. وأيضا اتهم منتجوه بأنهم دفعوا لأطفال الشوارع (وهم فى الواقع الأبطال الحقيقيون للفيلم ) أبخس الأجور. وكرد على هذه الانتقادات، أوضح المسئولون عن الفيلم أن التسمية تمت بحسن نية، ولم يكن مقصود بها أى نوع من الإهانة؛ فهى لم تخرج عن الوصف المتداول لحياة أى شخص يعانى من الفاقة بأنه "يعيش عيشة الكلاب". ودافعوا عن التقتير فى أجور أطفال الشوارع، بأن إغراق أطفال صغار بلا ولى أمر، بأموال طائلة، سيربك حياتهم أكثر، ويعرضهم للأخطار والاستغلال. وكنوع من التعويض، ولتحسين صورة الفيلم، أعلنوا أن قسما من أرباحه الهائلة، سيخصص للمشاريع النافعة فى مناطق مومباى المهمشة. ولن يكون من المستغرب أن تظهر نسخة مصرية منقولة نقلا حرفيا عن هذا الفيلم ( كما حدث مع الكثير من الأفلام الأجنبية الشهيرة، دون أن يكلف أحد خاطره مجرد الإشارة إلى الأصل )؛ ولكن لا بأس، لو كانت الطبعة المحلية ستسهم، ولو بالقليل، فى تحسين نوعية الحياة فى عشوائيات مصر. lailawatani@hotmail.com
التعليقات
موديلات الفقروالبؤس
إنجي -خارج حدود الإنسانية هو عندما يتحول الإنسان لموديل للفقر والجوع أو موديل للموت!!--وهناك فرق بين الزيارة الإنسانية لشخصيات سامية وبين سياحة من قبيل (الفرجة)والإستمتاع بعروض حياتية بائسة!!--أما عن سينما العشوائيات فهي سلاح ذو حدين--فهي إما أن تصبح عامل ضغط على الحكومات(وكأنها لا تعلم بوجودهم)!!--أو أنها ستصبح مفهوماً عن تلك الدول!!--منذ وقت قصير..كان هناك مسلسل تركي دفعني الفضول لمشاهدة بعض منه--وما دفعني إليه هو كثر الحديث عنه وليس لعبقرية نصه!!--فوجدته مسلسل بسيطاً جداً..ولكنه نجح بذكاء لجذب المشاهدين واللعب على أوتار مفقودة لديهم--والأكثر أن السياحة لتركيا زادت بعد عرضه--حيث كانت صور المسلسل تتعمد إظهار أجمل ما لديها من أماكن وكأن تركيا كلها كما تبدو بمسلسلهم!--العشوائيات وقاطنيها قهراً هناك من يشعر بهم..لكـــن هل يشعرون بهم لإدراكهم بمدى خطورتهم..أم لإصرارهم على منحهم الحق في الكرامة الإنسانية--أي خوفاً منهم أم رفضاً لما عليهم؟؟لا يهــــم أيهما الحاصل ولكـــن الأهم أن هناك من يشعر