ملحمة جلجامش النص النقدي النموذجي لحضارة وادي الرافدين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كلما أعدنا قراءة ملحمة جلجامش كلما زاد من إدراكنا لعظم القيمة والمعاني التي تحملها ليس لكونها نصا نموذجيا قديما وحسب بل وأيضا لأنها تعد إحدى أهم مصادر معرفتنا بالفكر الإنساني القديم عموما والعراقي خصوصا 0
و الملاحظ أن المفكر العراقي القديم لم يضع أثناء تأمله لما يحيط به افتراضات عاطفيه تخيليه كما جرى مع مفكري بعض الحضارات الأخرى والسبب لأنه كان يعيش في واقع يغلب عليه العنف والشدة ما يستوجب جمع خبراته وتوثيقها لتكون ذخرا لتجارب جديدة الأمر الذي مكن من إرساء فكر واقعي نابع من صميم الحياة ذاتها تم توثيقه شفاها ثم في رقم طينية مختلفة بلغ عددها عشرات الآلاف مما عد اكبر تدوين لمعارف الأقدمين عرفه العالم وإذا كانت حضارة وادي الرافدين هي الحضارة الأكثر أثرا من بين حضارات العالم القديم فان ملحمة جلجامش الأكثر قيمه من بين ما قدمته هذه الحضارة للعالم والسبب في كونها خلاصه لمجمل تراث هذه الحضارة وتعبيرا عن حيويتها في الواقع القديم لذا لاتمثل من حيث المضمون نصا ميثولوجيا خالصا ولا فكرا واقعيا تاما إنما تمثل وسطا بين الأمرين يوفر سبيلا لدراستها ميثولوجيا وفكريا 0
أن محاولة تفحص مضمون ملحمة جلجامش سوف يفضي إلى محاوله للتعر، على شخصية كاتب الملحمة الذي يبدو من خلال ما طرحه من مضامين فكريه هامه ذا عقليه حرة وصادقه يهدف إلى تقييم الفكر الموروث من خلال مقارنته بالحقائق الذهنية والواقعية مما يعد محاوله رائده لنقد الفكر الإنساني تسبق أقدم الأطروحات جرأه ومتانة (فلسفه الإغريق ) بما يزيد على عشرين قرنا 0
وفيما يلي عرض لأهم الأطروحات الفكرية والملحمية الناقدة التي تتيح اعتبار هذه الملحمة نتاجا نقديا لحضارة وادي الرافدين :
(1)نقد الموروث الديني
تعرض ملحمة جلجامش نوعا من الصدام بين جلجامش والمؤسسة الدينية حيث بين كاتب الملحمة وباسوب حيادي أسباب هذا الصراع محاولا بذكاء عدم التصريح بنتيجته التي هي لصالح جلجامش دائما فظلم جلجامش للناس وعبثه بمقدراتهم ومصائرهم أدى إلى نشوب معارضه شعبيه اتخذت التذمر والشكوى سبيلا لها ولان المؤسسة الدينية هي أكثر الأطراف تضررا من أعمال جلجامش الهمجية الرعناء فقد عملت بالخفاء على إيجاد منافس قوي يردع جلجامش ويمنعه من المضي قدما في عبثه وظلمه فكانت الاستجابة الالهيه سريعة وجديه خلقت الرجل المنافس قي الوقت المناسب 0
لقد طرح كاتب الملحمة تناقضا اجتماعيا معروفا يتمثل في مقابلة البداوة للبراءة والحضارة للفجور والفسق الأمر الذي يعكس واقعا اجتماعيا تتصارع فيه قيم الحضارة مع قيم البداوة انكيدو الرجل البدوي :
لا يعرف الناس ولا العباد
ويلبس لباسا مثل سموقان (اله )
ومع الظباء يأكل العشب
ويتدافع مع الوحش عند مساقي الماء ( 1 )
لكنه مع هذا الوصف :
أقوى من في البلاد
وهو في شدة باسه وقوته مثل عزم انو
ولان الكاتب رجل حيادي لم يحاول أن يميل إلى واقع دون أخر بل حاول وصف كلاهما بتجرد تام لكنه لم يتغاضى عن حقيقة ميل الناس إلى المدينة التي أخذت تزحف نحو البداوه0
ففي المدينة كما تصف الملحمة :
يلبس الناس أبهى الحلل
وفي كل يوم تقام الأفراح كالعيد
حيث الفتيان الحسان
ينفح منهن العطر والطيب ( 2 )
وفي المدينة يحاول كل إنسان أن يثبت جدارته ويحقق طموحه فالبدوي الذي يعيش بلا هدف اجتماعي سيكون في واقعه الجديد متفاعلا وحيويا لذا كان لانكيدو طموحه الذي يتناسب مع قبلياته الجسدية 0
لقد انتقل انكيدو إلى حياة المدينة من خلال الإغواء الذي حصل بواسطة بغي مدربه أرسلتها سلطات المدينة لغرض استدراج انكيدو إلى حياة المدينة ويتخلص الصيادون من عبثه وبعد أن نجح المسعى وتم جلب انكيدو ليعيش مع الصيادين قابله وفد من أهل المدينة عرضوا عليه شكواهم من أعمال جلجامش الجائرة مما يمثل أقدم محاوله للثورة في تاريخ العالم ولان القوه هي التي تحكم عالم ذلك الزمان فلابد أن يرشح الرجل الأقوى ليثبت جدارته في ميدان النزال وأمام الناس لكن انكيدو الذي خلق ليكون ندا لجلجامش غدا صديقا له بعد أول صدام جرى بينهما الأمر الذي يعني فشل تخطيط الالهه وهو ما هدف إلى إظهار كاتب الملحمة بدون أن يثير حفيظة المتدنين 0
أما الصدام الثاني لجلجامش مع المؤسسة الدينية فقد جرى هذه المرة مع( آيتانا) راعيه الوركاء التي طلبت الزواج منه تعبيرا عن ارتباط المؤسستين الدينية والدنيوية وهو تقليد دأب على القيام به ملوك وادي الرافدين من اجل إحلال الخصب والهناء في البلاد حيث استمر طقس الزواج المقدس قائما إلى أخر عهود حضارة وادي الرافدين 0 لقد جاء رد جلجامش على الطلب شديدا وقاسيا قاذفا عشتار بوابل من الكلمات الجارحة 0
أي خير سأناله لو أخذتك زوجه
أنت كالموقد الذي تخمد ناره في البرد
أنت كالباب الخلفي لا يصد ريح ولا عاصفة
أنت قصر يتحطم في داخله الأبطال
أنت فيل يمزق رحله
أنت قير يلوث من يحمله
أنت قربه تبلل حاملها
أنت حجر مرمر ينهار جداره
أنت نعل يقرص منتعلة (3)
وهي جراه ووقاحة صارخة لم يقم بها احد من قبل ناهيك عن كونه محاوله لمنع طقس مهم من طقوس البلاد الدينية لذا أقدمت (اينانا) في محاولتها معاقبه جلجامش على دفع ثور الإلهي ليقوم بمهاجمه جلجامش بعد أن استحصلت موافقة (انو) اله السماء لكن جلجامش تمكن بمساعده انكيدو من قتل ثور الإله مما زاد من غيض ايناتا التي وقفت تدعوا بالويل والثبور على جلجامش فما كان منه إلا أن قذفها بفخذ الثور الإلهي لتهرب مذعورة لائذة بحرم المعبد مقيمه العزاء والنواح على فخذ الثور الإلهي 0
لقد كانت نتيجة المعركة انتصارا ماحقا للإنسان الممثل بجلجامش على الالهه الممثلة باينانا وهي النتيجة التي أراد إظهارها كاتب الملحمة 0
(2)تجاهل الموانع النفسية والموضوعية
رغم أن فكر حضارة وادي الرافدين هو فكر مادي واقعي إلا انه لايحوي نظره متطرفة نحو كل المضامين الروحية التي سارت في تطورها بشكل متلازم مع النظرة المادية كونها تمثل المعادل الموضوعي الذي يحقق توازن المعادلة الفكرية لذا وجدنا أن إنسان وادي الرافدين لن يتجاهل المعادل الروحي بل حاول مسك جميع الخيوط بيده والقيام بواجبات يحتمها الإيمان بوجود قدر من الروحية داخل هذا الإطار المادي المتين أما بطل الملحمة كما يصوره كاتبها فقد اندفع في تطرفه إلى حد التشكيك بحقيقة الموروث الديني وبحقيقة رموزه كما صورت لنا الملحمة تصرفاته العامة بشكل لايخلو من مغزى مبينه التناقض الحاد بين إرادة الالهه المتمثلة بالأوامر والحدود الدينية الموضوعه من قبلها والتي يطرحها الموروث ويبين سلوك جلجامش وتصرفاته الوقحة الطائشة ولأنه كان طائشا متحررا من أي قيود رادعه فقد غدا في حاله صدام مع المطلوب العام للمجموع (التوازن الجمعي ) الذي يلزم جلجامش بالتقيد رغم انفه بالقيود الاجتماعية وإلا سوف ينفرط عقد الجماعة وينحل المجتمع الذي يتربع على قمته ولقد جاءه هذا الهاجس بعد أول صدام له مع المجتمع ( معركته مع انكيدو ) لذا تحول نحو البحث عن خلود الذكر من خلال المغامرات 0
لقد أراد كاتب الملحمة إيضاح تجاهل جلجامش للموانع النفسية والموضوعية واتجاهه الدائم لتقرير حاله بنفسه 0
(3) انتهاك ميثولوجيا الموت
من المواضيع التي أراد كاتب الملحمة مناقشتها موضوع ميثولوجيا الموت التي صورت وجود علاقة بين الموت والالهه زاعمة انه يمثل احد الأقدار المسلطة من قبل الالهه وذلك لتفريق البشر عن الالهه وللحد من تزايدهم 0
حينما خلقت الالهه العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة الابديه
لكن هذا قدرا مسلطا من قبل الالهه قدر على البشر لأجل أن تستأثر هي بالحياة فهو إذن قدر مجحف لابد من مقاومته بأي وسيله ممكنه فإذا كان الإنسان مقاومه بعض المخاطر التي تؤدي إلى الموت إلا أن يكون بمقدوره دفع خطره نهائيا 0 لقد صور لنا كاتب الملحمة فجيعة جلجامش بصديقه وبكاءه الشديد عليه بشكل يدفع على الاعتقاد بعدم إيمان كاتب الملحمة بأي حقيقة أخرى للموت عدى الفناء الأمر الذي يخالف أكثر فروض الفكر التقليدي تشاؤما كفرضية الحياة السفلية (العالم الأسفل ) والبقاء المشروط ورغم محاولة كاتب الملحمة التوفيق بين نظرته المتطرفة والنظرة السائدة المتفائلة قسطا إلا أن نتيجة محاولته كان الأشد تشاؤما من كل مامضى الأمر الذي يعكس قدرة الكاتب الفائقة على الإيحاء والتوصيل وبذكاء غير مسبوق 0
لقد صور لنا كاتب الملحمة محاوله جلجامش قهر الموت بأنها تعبير عن إدراكه استحالة أن تعطي الصرامة التي تحكم الكون أي ضمانه للإنسان التواق للاستقرار لذا لم يركن جلجامش لهذه الرتابة ولم يقبل بما قدر له محاوله انتزاع حقوقه المصادرة وفي مقدمتها (حق الحياة الابديه )بجهده وقدراته الخاصة ليوضح لنا كاتب الملحمة تلك المحاولة في رحله قد لاتكون فكريه وحسب خصوصا وان اكتشاف (ارض الحياة )يمثل هدفا تجاريا أيضا 0 لقد صورت لنا الملحمة وجود زعم بامتلاك احد الناس للحياة الابديه بقرار تكريمي أصدره مجمع الالهه جزاءا لإنقاذ ذلك الإنسان (اوتو- نبشتم ) لبذره البشرية وحفظها من الفناء بعد قرار انليل المتعجل بإحداث الطوفان حيث نقل ليعيش خالدا في ارض الحياة الواقعة في وسط بحر الموت وراء البحر الأسفل ولأنه يمكن التحقق من هذا الزعم الميثولوجي بالمشاهدة والبحث فقد شرع لنا كاتب الملحمة قيام جلجامش برحله ميثولوجيه وهي في الحقيقة رحله فكريه لكاتب الملحمة ذاته ووسيلته لطرح رؤيته الخاصة حول الحياة والموت حيث وصف لنا (اوتو- نبشتم ) بكونه مجرد رجل يقطن جزيرة بعيده لسبب من الأسباب ربما لسبب تجاري وان حالة جسده لاتبين انه يملك ميزه خاصة تجعله خالدا بذاته في وسط الفناء لذا ليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأمكانيه الخلود بهذا الجسد العاري 0 وليس هناك ضمانه لتطابق الكلام مع الواقع لذا من العبث الاتكال على الموروث في معالجه هذا الموضوع الملغز وهذه إحدى النتائج التي كاتب الملحمة يريد الوصول إليها وإيضاحها لعامه الناس 0
الخاتمة
وأخيرا لابد أن نقر بغرابه ملحمة جلجامش واختلافها عن سواها من الملاحم سواء مما وجد في ارض الرافدين ذاتها أم في مناطق أخرى وذلك لان الأطروحات التي حملتها هذه الملحمة هي من النوع النقدي الذي يحمل بين طياته محاوله جامحة لتغير ما انطبع في الأذهان من رؤية خاطئة حيث استخدم كاتب الملحمة لأجل إسناد طرحه بادله استقاها من واقع تجربته الفكرية الفريدة 0
باسم محمد حبيب
الهامش
طه باقر 0 ملحمة جلجامش 0 بغداد 0 1986
1-ص 79
2-ص84- 85
3-ص 109-110
4-ص 135
التعليقات
يا أهل الفكر
خوليو -1- قرر انليل الإله السومري ومجمع الالهة معه إغراق البشرية لعصيانها ماعدا الإنسان الصالح -أتونبشتم- أمطرت السماء أربعون يوماً وليلة ولم يبق سوى الصالح أتونبشتم الذي عمل مركباً وصعد إليه مع عائلته وأزواج من الحيوانات وتم المحافظة على النسل البشري.(ملحمة جلجامش)2- قرر إله السماء -الله - الواحد بدون مجمع آلهة،أن يغرق البشرية لفسادها في الأرض فأمر الصالح نوح أن يعمل مركباً يصعد إليه هو وعائلته وأزواج من الحيوانات وأمطرت السماء أربعون ليلة وأربعون نهاراً وغرقت كل المخلوقات التي كان قد خلقها الله نفسه ماعدا الصالح نوح(التوراة تكوين).3- ملحمة جلجامش كتبها مؤلفها من حوالي 3000 ق.م. التوراة بدء بكتابتها 500ق.م. (عزرا).4- يا أهل الفكر اقرأوا وفكروا واستنتجوا.5- باقي القصة تعرفونها.
لا تتعجب
عراقي علماني -...(أكيد فهمت ما أقصده) حيث سيستشهد بالكلمة الفلانية واللتي تعني في ذلك الزمن عند العرب (أوتونبشتم)!!!، مثلما استنتجوا من قبل، بأن بوذى وزرادشت والاسكندر انبياء ايضا!!!
وادي الرافدين
shams -كلي فخر وأعتزاز بولادتي في بلاد وادي الرافدين العظيم مهد البشرية والحضارة . شكرا ً لكاتب المقال باسم محمد حبيب .
الرحلة الميثولوجية
كركوك -لجلكامش أقتبستها الزرادشتية !!..وأيضا ........؟؟!!..أحسنت ياخوليو كالعادة
الملحمة
انكيدو -جهد مشكور وتحليل دقيق. الاديان التي ظهرت في المنطقة كان اعتمادها الاساس على الميثالوجيا العراقية.بدءا بالتورات ..............