أصداء

فيل الرّهان الخاسر.. مسودة للخراب

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حسناً. لقد أنتجت وزارة الداخلية فيلمها العظيم "الرهان الخاسر" عبر دائرة التوجيه المعنوي. الفيلم هو من مقاولات د. فضل العلفي، من الفكرة حتى التشطيب "تأليف، سيناريو، إخراج". في البداية، سيكون عليك أن تتجاهل ما يُقال عن التخصص، تحديداً في هذه الألفية الرهيبة حيثُ تكون فيها اليد العُليا لأصحاب الميكروسبشلتي، أو التخصصات الدقيقة. ستتجاوز، إضافةً لذلك، تلك القاعدة المعرفية: بطلُ كل الفنون هو الممثل الفاشل. وستقبل بالحقيقة الأولى في الفيلم: هُناك شخص واحد فقط هو الذي كان عليه أن يعمل ثلاث مرات. في المرة الأولى سيؤلف القصة، في المرة الثانية سيعمل كسيناريست، وأخيراً، سيقوم بدور المخرج.

أزعم أني لا أعرف شكل المؤلف، لذا فلا أستبعد أن يكون، أيضاً، أحد أبطال الفيلم.

أعمال شاقّة، ظهرت نتائجها في الفيلم على شكل ترهّلات وحلقات مفقودة وتسطيح ممل. فضلاً عن لجوء صنّاع الفيلم ، وهو شخص واحد في الظاهر، إلى الاعتماد على الصور النمطية الرائجة في الدراما المصريّة، بالتحديد عند معالجة قضايا الجماعات الإسلاميّة " الإرهابي، طيور الظلام، .. إلخ"؛ كحيلة لمضطر لم يسبق له أن خاض لجج الصناعة السينمائية، فلم يجد أيسر من " الهبش" من المعلوم، للحديث عن المجهول. فجلب لنا تلك الصورة السطحية عن الإرهابي التي سادت في فترة اهتزاز الدراما المصرية على النحو الذي استمر فيما بعد بوتيرة ملحوظة.

في الرهان الخاسر، الطبعة اليمنية لنسخة قديمة معوربة، يأخذ الإرهابي هذه الهيئة: دشداشة بيضاء (ثوب) ، غترة على رأسه، شارب محلوق، لحية كبيرة، ثم هو يتحدث بلغة عربية فُصحى. هذه التشكيلة تذكر بالطرفة المصرية حول بائع متجوّل ينادي في الشارع : لبن، سمك ، تمر هندي. فلا توجد نماذج بشرية يمنيّة يمكن تركيب هذه المواصفات الإعلانية عليها. فالذي يحلق شاربه ويعفي لحيته هو المتصوّف المصري، لا اليمني، أو المتديّن المصري عموماً؛ ومنهم السلفيون المصريّون الذين أعلنوا في الانتخابات الرئاسية المصرية : منافسة الرئيس في الانتخابات هي خروج على إجماع المسلمين! كما أنهم يدعون لوزير الداخلية بالتوفيق في خطبة الجمعة. أمّا المتدينون اليمنيّون فهم يسخرون من تفسير المصريين لحديث" جزوا الشوارب". بقية الصورة الكاريكاتورية الواردة في النسخة اليمنية يمكن تكييفها بصورة شاقة وعسيرة لتناسب الصورة النمطية لأعضاء التيار السلفي اليمني، والسعودي. وهو تيّار مهادن، قوطي - بتعبير الراحل العظيم عبد الوهاب المسيري- يبايع الجهات الأمنية على السمع والطاعة، وعدم منازعة الأمر أهله، ويسدي لها خدمة جليلة في التشهير بغيره من التنظيمات الإسلامية المدنية، والتيارات الوطنية الليبرالية واليساريّة. لقد أُعلن ذلك صراحة عبر " أبو الحسن الماربي" في المهرجان الانتخابي للرئيس صالح ، في مأرب.

هُنا سيبدو الفيلم تنكّراً لصنائع المعروف التي يقدمها السلفيون للحكومة اليمنيّة، ولا يمكن أن يُفهم - بالسطحية المخيفة التي اتّسم بها - إلا أنه عمل درامي مناوئ للتيار السلفي، ويهدف إلى تحريض المجتمع ضد هذا التيار، بطريقة ستجعل أعضاء وجميعات هذا التيّار عرضة لابتزاز رجال الأمن، واللصوص والشخصيات النافذة، فالعصا موجودة : وراء لحيتك يرقُد قاتلٌ مخيف في الجبل، إمّا أن تستجيب أو سوف"نفبرِك" قصة مسلّحة تتحمل أنت لوحدك تبعاتها!

إن أخطر ما في الفيلم أنه عرض هيئات مختلطة من النماذج البشرية تقترب إلى حدّ ما من المشترك العام بين الهيئة الصوفية والسلفية ويمين الإصلاح ونماذج متدينة محايدة في الساحة اليمنييّة، يمثّلون نسبة معتبرة لا يجوز قانوناً وأخلاقيّاً تحت أي دعوى أن توجّه إليهم سخرية أو إهانة. ثم قفز الفيلم بجرأة إلى افتراض وجود نموذج عنيف كامن وراء هذه الأشكال، سرّي ويهدف إلى هدم الاجتماع اليمني وتدمير صلاحيته للوجود. وراء كل لحية يوجد قاتل، إرهابي، هناك في الجبل البعيد، لا يعرفه أحد سوى وزارة الداخلية التي تراقبه عن كثب، كما يحاول الفيلم أن يقول. النتيجة المتوقّعة: خلق حالة من فقدان الثقة بين مكوّنات المجتمع اليمني، وتعريض عدد كبير من مواطني الدولة اليمنية لابتزازات محتملة وغير مسؤولة قد يقوم بها رجال الأمن وخلافهم. فضلاً عن خلق شعور عام متسامح مع أجهزة الأمن في أي عمل قد تقوم به في المستقبل ضد " أي أحد" لا يروقُ لها، بالذريعة ذاتها : ارتباطه بمجموعة عسكرية تسكنُ في الجبال، والدليل : هيئته، ولكنته التي تميل إلى الفصحى أحياناً. فقد شاهدنا في الفيلم أن أحد "الإرهابيين" حين تاب من ضلاله فإن أول شيءٍ فعله هو أنه تكلّم بالعامية وترك الفصحى .. قبل أن يفعل أي شيء آخر!

لقد حاول الفيلم، بصورة رديئة، أن يُحدّد هيئة الشخص الإرهابي، تلك الهيئة التي ستفصح في الأخير عن نفسها : أنا السلفي، الإرهابي المقصود بفيلم الرهان الخاسِر؛ باعتبار الهيئة السلفية هي أقرب الهيئات إلى النموذج المسوق في الفيلم. أفهم الآن لماذا ثار السلفيّون ضد هذا الفيلم، لكن ما لا أفهمه هو كيف فهم إعلام المؤتمر الشعبي العام أن السلفيين المحتجّين على الفيلم هم "الإخوان المسلمون" في اليمن! هُناك في اليمن الكثير مما يثير الإحباط ويفقد الثقة في المستقبل، أشياء كثيرة غير الفقر والمرض.. أشياء تشبه الاستعباط ، لكنها تتفوق عليه بدرجة مبالغ فيها.

تبقى خصيصة مضافة، وهي : من هم أولئك الذين يتحدّثون بالعربيّة الفُصحى في المجتمع اليمني؟ مبدئيّاً، هذه السقطة في الفيلم تستحق الإدانة بكل وسائلها. لقد تجاوز صانع الفيلم فكرته حول مكافحة مظاهر"العُنف" إلى مناوءة الذات العربية، من خلال عرض اللغة العربيّة الفُصحى بوصفها إحدى أهم خصائص النشاط الإرهابي، وأن العودة إلى الصواب تقتضي التنصل عن اللغة الفصحى أولاً، كما أشرت سابقاً. إنه اعتداء سمج، وهمجي على الذاكرة والذات والشخصية اليمنية - العربيّة. حسناً : كان لدي مدرّسان في الثانوية، يتحّدثان الفُصحى. الأول يعمل مدرّساً للعربية، وقد أطلقنا عليه لقب سيبويه، والثاني يدرس مادة الإسلامية، وكنّا قد عممنا على المدرسة اسمه الجديد : بُحيرى. فهل يريد الفيلم من طلبة مدرستي، ورجال الجيش الذين يمرّون أمام المدرسة من وقت لآخر، قتل "سيبويه وبُحيرى" إذا لاحظنا أنهما يتحدثان العربية، ويرتديان الدشداشة والغترة، ولهما اسمان حركيّان مغرقان في القِدم، وهما فوق هذا من "ذوي اللحى"؟

على أيّة حال، فالسلفيون لا يتحدثون الفُصحى ويحبّون أكل الكبدة ويتباهون بالفحولة ويعشقون حديث"فمن رغب عن سنّتي فليس منّي"، كما ينظرون بشجن بالغ إلى حديث" حُبّبَ إليّ من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة". أقول " بشجن بالغ" لأنهم أدركوا، بشكل متأخّر، أن صحّة هذا الحديث ليست على ما يُرام، وكم تمنّوا لو أنها كانت بأحسن حال. وبالطبع فإن تنظيم القاعدة لا يعرف أحدٌ عن أفراده شيئاً، هل يشبهون "النمر المقنع" أم "بقرة بني إسرائيل" أم "الرجل الوطواط" أم الحيوان الإغريقي الشهير"البهيموث" أم هم مزيج من ذلك كلّه! هذا إذا صحّ فعلاً أن هناك تنظيماً حقيقيّاً اسمه القاعدة. لقد شاهدتُ برنامجاً تلفزيونيّاً على البي بي سي مع قائد القوات البريطانية في معركة "تورا بورا". سأله المحاورُ: الآن، بعد أن انتهت المعركة هل أمسكتم بأي من أعضاء التنظيم؟ - لا. هل تعرّفتم على أشكالهم؟ - لا. هل تستطيع أن تقول أنهم يوجدون في مكان ما وأنه بإمكانك التعرف عليهم؟ - لا. إذن فمن هم أولئك الذين كنتم تتوعدون بسحقهم في تور بورا؟ - لا أدري.

أمام يدي وثائق ودراسات وأبحاث غزيرة باللغة الإنجليزية تتحدث عن التنظيم بوصفه أسطورة محضة صنعها اليمين الأميركي، الهمجي. نعم، هناك أسامة بن لادن، ومعه جماعة مسلّحة تقاتلهم أميركا، لكن ما يرفضه كثيرون في العالم هو أن تكون هذه الجماعة المعزولة في جبال الهندوكوش "معولمة"، كما أن أحداً لم يسمع باسم "القاعدة" قبل أحداث سبتمبر، وهو ما يجعل الكثير من المحللين الأمريكيين يعتقدون بأن اليمين الأميركي الإمبريالي صنع هذا العنوان الكبير، وأن الجماعة المسلّحة استساغت الأمر لأنه يصب في مصلحة إدارتها للصراع مع الأميركان. إنهم، أي القاعدة، أشبه بعفاريت الفانوس، لا وجود مادي محسوس لهم، فقط يتم جلبهم إلى الفضاء الأرضي من خلال تسريبات أمنية تهدف في الأخير إلى تأصيل "سلطان الخوف" في قلوب الناس. الخائفون سيتقبلون أشياء كثيرة غير معقولة، كما سيتنازلون عن حقوق بالغة الأهميّة بغية الحصول على حماية معقولة، أو الظفَر بقدرٍ ما من الأمن. وهذا هو أقصى ما يمكن أن يحصل عليه اللصوص، سارقو الأوطان.إنها كلمة السر، اخترعها عبقري مجيد، تلعنه الملائكة.

في الرّهان الخاسِر، يقول القائد لأحد أتباعه: لا تجادل ولا تناقِش. إنه يكررها بصورة مملّة، وأنتم ربما تتذكرون أين سمعتم هذه الجملة قبل ذلك، في فيلمي طيور الظلام والإرهابي. لقد بادر كاتب السيناريو إلى نحت كل شيء، تقريباً، من السينما المصريّة. فشكل الإرهابي هو نفسه الذي تجده في أفلام عادل إمام، واللزمات اللفظية ، مثل لا تجادل ولا تناقش، واللكنة العربية، قام باستيرادها على نحو مثير للإحراج. أما القضية الإرهابيّة التي شكّلت الجهاز العظمي للفيلم فهي "قتل السّيّاح" وهي قضية راجت إلى حدّ ما في أفلام التسعينات، تحديداً عقب مجزرة الأقصر التي جاءت بوزير الداخلية الحالي، حبيب العادلي.

أعترف، للمرة الألف، أن ذاكرتي ضعيفة. ولذلك فأنا أسأل : منذ أواخر التسعينات حتى الآن تجاوزت حوادث اختطاف السياح الأجانب في اليمن 200 حادثة ، طبقاً لإحصائية نشرتها قناة الجزيرة مؤخّراً، مقابل أقل من 10 حالات تأكّد فيها اعتداء مجهولين بالسلاح الناري على السيّاح الأجانب، في عمليات غريبة لم تقُل لنا فيها الجهات الأمنية من هو الفاعل، وكيف تعرّفت عليه حقّاً. طبعاً، لا أحد بمستطاعه أن يقبل تلك المرويّات العظيمة من قبيل : وجدنا بطاقة في محل الحادث، وقرأنا عليها اسم مرتكب الجريمة واسمُه: سعيد بامسعد سعدون، طالب في طب جامعة حضرموت! هذا الاستخفاف لا بُد أن يتنحّى جانباً لمصلحة سؤال أهم: إذا كانت نسبة الاختطاف إلى الاعتداء المباشر، وكلها قطعاً تمثّل عملاً إرهابيّا، هي كالتالي : 200 اختطاف: 10 إطلاق نار، فلماذا تجاهلت عدسة وزارة الداخلية ما يقوم به الخاطفون المعروفون ضد الأجانب في اليمن، وهو إرهاب مؤكد وكثيف ومسيء لليمن اقتصاديّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً؟ بينما ذهبت بعيداً في الجبال، لتخلق المجهول ثم تحاربه؛ ذلك المجهول الذي يذكّرنا بوصف وحيد القرن في رحلة ماركوبولو إلى بلاد الصّين، في القرن الثالث عشر!

من زاوية أُخرى: أنا لا أتعامل مع الفيلم بوصفه وثيقة تاريخية، لكني مضطّرٌ للنظر إليه بحسبانه منشوراً أمنيّاً، لا أبعد من ذلك، فهو لا يتحمّل التعاطي الفنّي معه. لقد حرص الفيلمُ، نفسه، على أن يبدو كذلك. فنحنُ نجد المناظرات على طول مسار الفيلم : في المكتبة، في الشارع، على سرير النوم، أثناء نشر الغسيل، في المهاتفات، أثناء الصّراع المسلّح بين الأمن والجماعة الإرهابية، خلال عملية الاختطاف .. إلخ. لقد كان الفيلم، بامتياز، عبارة عن مجموعة من المقولات الفكرية التي تغالبُ وتتغلب على مقولات أخرى، مناوئة وعدوانيّة. في حين بدت " القصّة" مجرّد ذريعة هشّة لسوق مثل هذه المقولات التي كان يمكن قولها بأي شكل آخر لا يكلّف خزينة الدولة مئات آلاف الدولارات. ورغم حرص وزارة الداخلية، من خلال تدخلها في كتابة سيناريو الفيلم عبر الثلاثي العلفي والحبيشي والأشموري، على الحِوَار مع" الإرهابيين" في محاولة مخاطبة أولئك الذين يقطنون في الجِبال، خارج الفيلم .. إلا أنها لم تدّخر وسيلة عدوانية لإثارتهم والتحريض عليهم وقطع سبل التواصل معهم. فهم الشياطين، الأغبياء، قساة القلوب، قتلة السوّاح والمسلمين والأطفال، وهادمو البيوت والأسر .. إلخ ثم عمدت إلى السّخرية من علامات وخصائص واختيارات شخصية تنتمي إلى السلوك اليمني المدني العام، كاللباس وإطلاق اللحية واختيار الشخص لطريقة تروق له في الحديث.. إلخ. كان السيناريو، الذي لم يُكن سيناريو في الواقع فقد كان مجرّد خطب إعلامية عصماء، يقول كل ما في جعبته لحشر الآخر في زاوية الشيطان الصّرف، وبعد كل هذا يقول له : تعالَ نتحاور.

في نفس الدائرة من الضجيج والتخبّط، يتذكّر صنّاع الفيلم أن البطالة بالإمكان أن تصنع من العاطل إرهابيّاً. يقفز الفيلم فوق أسياسيات التناول الدرامي، ويزج بمجموعة من العاطلين بين جماعة مخيفة من الإرهابيين. ومع أن الفيلم أراد أن يتعاطف معهم من خلال مراعاة الأسباب التي قادتهم إلى هذه التنظيمات السرّية العنيفة، إلا أنه سرعان ما شيطنهم بصورة خالِصة، نازعاً عنهم كل عناصر الإنسانية. فإذا كانت البطالة طريقاً إلى قتل السيّاح، وهذا غير مؤكّد، فإن المؤّكد هو أن غياب العدالة هو الذي يدفع القبائل لاختطافهم وإرهابهم. لقد تحاشى الفيلمُ التعامل مع هذه الأرضيات، التي تقترب من مستوى البديهيّات، واستمرّ في الركض نحو صناعة مشهد درامي عديم الحيلة، يقوم على مجموعة من المصادفات غير المبررة دراميّاً ولا تنتمي إلى الصناعة السينمائية بتاتاً. فصاحب القصّة اقترح على السياق أن يقوم شخص إرهابي بتفجير أتوبيس سياحي يقوده رجل يمني، شاءت المصادفة أن يكون هو نفسه والده! هذه حيلة سينمائية تنتمي إلى شاشة القرن التاسع عشر، بل من الممكن أنها تنتمي إلى ما هو أبعد من ذلك.. الشاشات الحجرية!

تصعد الأحداث بصورة عجيبة، لتصل لبيت القصيد، وهو هنا : صورة لرجال الأمن وهم يجرُون واحدة من تدريباتهم على مكافحة الإرهاب.. لكن هذه المرة بمساعدة أبطال الفيلم، في واحدة من العمليات الناجحة التي لم تحدث في الواقع بصورة مؤكّدة وموثوقة إلى الآن. كان المشهد غريباً، فقد كان من اليسير فهمُه بحسبانه رسالة مفادها : لدينا أجهزة تتمتع بعضلات قويّة، بينما فشِل في تقديم نفسه كمشهد درامي، إنساني،فنّي. حتى ذلك المشهد الذي يتحاور فيه قائد العملية مع حامل المتفجّرات والرشاشات مصوّبة من كل جانب فقد كان عدميّاً ومثيراً للإرباك. فالضابط يظهر فجأة في مرمى نيران الإرهابيين الذين لم يوجهوا طلقة واحدة باتّجاهه، ثم يتحاور مع حامل المتفجّرات بشكل مطوّل مليء بالتنظيرات والحجج والكبسات الفكرية والنقدية والاستشهادات والاقتباسات ... كما لو كانوا في اختبار شفوي، لا في حرب!

أمّا قمة السطحية، والتخلّف، فهي اللحظة التي تفتق فيها ذهن صاحب القصّة عن اكتشاف رهيب، غير مسبوق، وهو كيف يفكّر الإرهابي وكيف يسلُك، في بيته، حتى يمكن التعرّف عليه؟ فالإرهابي: يكسر المسجّل والتلفزيون، ويحرّم العمل والدراسة، ويطلب من شقيقته أن تحتجب منه، ويحرّم خروج البنات الصغار إلى السوق، ويكفّر الرسم والفن إجمالاً... إلخ. لقد سمعت هذه الحواديت في مطلع التسينعات، حين كنتُ في الابتدائية؛ كنتُ في القرية، وكنّا نعتقد أن "الآخرة" تقع خلف الجبل مباشرة، لذلك كان بمقدورنا أن نصدّق هذه الترّهات. لكن يبدو أن صنّاع الفيلم ما زالوا غاطسين في "أيامنا الحلوة" و"حلاوة زمان". نحنُ الآن، في العام 2009، هذه هي الحقيقة الغائبة عن صنّاع الفيلم، وهو الغياب الذي انعكس على كل شيء في الفيلم؛ في هذا الزمن الجديد أصبح الصراع بين الإسلاميين المدنيين وخصومهم هو حول موقفهم من قضايا غاية في التشابك والتعقيد، على صعيد الاستشراق، والبراجماتية السياسية وأسلمة المعرفة.. في حين لا يزال الإخوة في وزارة الداخلية، ومعهم المخرج الطيّب، يعيشون في ترّهات " الإسلاميّون يحرّمون التلفزيون!" ولا أدري كيف أراد صناع الفيلم أن يقولوا كل شيء مرّة واحدة. فمن جهة، هم يريدون النيل من حزب الإصلاح بطريقة ساذجة كشفت خروجهم من واقع المجتمع اليمني الراهن. ومن جهة ثانية، يريدون أن يحاربوا عدوّهم الذي لا يشاركهم الاعتقاد بوجوده أحد، وهو الإرهاب. لأن الإرهاب، كما قال بوتين، هو الفساد.. وهذا هو ما يهدد الأمن القومي لأي بلد. ومن جهة ثالثة حاولوا بناء أسطورة جديدة للقوات الأمنية بعد فشل الجيش اليمني في خمسة حروب داخلية متتالية. باختصار: تكاثرت الظباء على خراش، فلم يدرِ الخراشُ ما يصيدُ. وعاد "خراش" من المولِد بلا حُمّص.

بالمناسبة، فُهِمت هذه التّرهات باعتبارها موجّهة ناحية التيار السلفي. وبدورهم أبدوا استياءهم، خاصة أنهم من أكثر التيارات اليمنية التي قدمت خدمة جليلة للدولة والحكومة اليمنية، آخرها عشرة ملايين دولار في 2008 عبر جميعة الحكمة اليمانيّة. أتصوّر أن صنّاع الفيلم لم يقصدوا إهانة السلفيين، ولا التحريض عليهم، لأن التحريض على السلفيين سيعني التحرّش بسلفيي اللمملكة العربية السعودية.... كما سيعني عض اليد التي امتدّت إليهم بالنفع، خاصةً في حربهم الأخيرة ضد "المسلمين" في صعدة. هنا يبادرني سؤال: فضد من إذن، كل هذه الشنشنة التي نعرفها من أخزَم، كما يقول الأعراب؟ هي، بكل طمأنينة، هرطقة لا تنال من حزب الإصلاح وليس معنيّاً بها، كما أنها تحرّض ضد التيار السلفي عن غير قصد على هيئة نيران صديقة. وبعدت تماماً عن الحوثيين؛ أما اقترابها من المُراد، خيال مآتة تنظيم القاعدة، فقد كان مكشوفاً ومليئاً بالسطحية والسذاجة واللاتحديد. في الواقع، هي جلبة ضد " لا أحد ". ضد عدو افتراضي، يتم تأهيله حالياً لأجل تمكين سلطان الخوف من قلوب الرعايا، ثانياً. أما أولاً، فهي دليل صارخ على غياب المشروع لدى النخبة الحاكمة، مما يدفعها إلى ابتكار مشروعات وهمية على الصعيد الأمني - ميدان احترافها الأساسي- لقتل الوقت، والجهد، وإلجام أفواه الخصوم .. ها نحنُ نؤدي عملاً مجيداً، فمن يقدر منكم على أن يشكك في قداسة عرَقنا!

مروان الغفوري

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
وتبقى هنـاك نقطة ضوء
رزاز -

(هُناك في اليمن الكثير مما يثير الإحباط ويفقد الثقة في المستقبل، أشياء كثيرة غير الفقر والمرض.. أشياء تشبه الاستعباط ، لكنها تتفوق عليه بدرجة مبالغ فيها.)مروان......ماذا عساني ان اقول الا ان احيي فيكنــــــــــــور عـــقـــلك.