أصداء

جمهوريات الصوت العالي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يذكر زملائي في مجلس إعادة الإعمارIRDC (غفر الله ذنوب قاتليه) أن أول لقاء جمعنا، لأول مرة، بالسفير بول بريمر كان في بغداد في أواسط شهر أيار/ مايو 2003 في القصر الجمهوري، وتحديدا في عرين القائد الضرورة نفسه. القاعة بهرتني أكثر من بريمر ومن الاجتماع. فقد كانت واسعة جدا، وعالية السقف بصورة غير اعتيادية لم أشاهدها في جميع القصور التي دخلتها في حياتي، جمهورية أو ملكية. وكانت محاطة بجدران مرمرية ضخمة ولامعة. وعلى كل جدار ثلاثة أعمدة رخامية مهيبة. وفي نهاية كل عمود تماثيل أو تمثال. والغريب أن القائد الضرورة المعروف بعشقه لذاته، وبكثرة تماثيله التي دخلت في كل شيء حتى في المطاعم والبارات، لم يكن له نصيب من كل تلك التماثيل. لكنها جميعا جميعها تصور شخصيات مختارة من جماهيرنا المناضلة، عسكرية ومدنية، نساء ورجالا، شيوخا وشبابا وحتى أطفالا، وهي تقاتل من أجله وباسمه الميمون.

كان الحر شديدا في القاعة، وكان بريمر لا يكف عن تجفيف عرقه وتهوية وجهه بورقة جدول أعمال الاجتماع، لأن بغداد كانت يومها بدون كهرباء ولا ماء، وكان واحدنا يدخل حمامامات القصر الجمهوري ومعه قنينة أو مجموعة من قناني المياه المعدنية لكي يغتسل بها أو يتشطف.

لكنني رغم حرارة الجو وحرارة إيماني بعدالة بريمر وقواته الضاربة وحلفائه العراقيين فرسان النظام التحاصصي العتيد، كنت سارحا شارد الفكر والنظرات، أتأمل هذه الجموع المرفوعة على أعالي الأعمدة الرخامية. أشخاصها جميعا كانوا يصرخون. يهتفون. يقاتلون. هذا بالسيف، وذاك بالبندقية، وتلك الماجدة بذيل عباءتها، والأخرى بمنجل زوجها، وآخر بمحراث، وحتى الرايات والأعلام واللافتات كانت تقاتل هي الأخرى وتعارك الرياح وتهتف بحياة القائد العظيم. صراخ لا يتوقف. حتى تخيلت نفسي في مسيرة جماهيرية صاخبة، كتلك التي عودنا عليها زعماء نضالنا القومي، عند كل حفلة إعدام لأحد أعداء الوطن بتهمة التجسس لإسرائيل أو السي آي أي أو مخابرات جيبوتي أو الصومال، أو عندما يطفح كيل المجتمع الدولي بأحد قوادنا الأشاوس فتضطر الأمم المتحدة إلى التجني على أحدهم، وتتجرأ وتتهمه بخرق حقوق إنسانه العربي أو المسلم في بلاده المحروسة بالعدل الإلهي وبحكمة القائد الإمام. في بعض اللحظات كنت أحس بدوخة من عنف ذلك الضجيج. حتى أن بريمر ضبطني مرة وأنا أدور بناظري في السقف والجدران، فابتسم ابتسامة عتب، معتقدا بأنني لا أريد سماع صوته الهامس الرقيق.


في تلك الساعة بالضبط تذكرت رئيس بنما الأسبق مانويل نورييغا حين شق عصا الطاعة على العمة أمريكا عام 1989، ورفض الانصياع لتعليمات مخابراتها بشأن عمليات تهريب السلاح والمخدرات إلى دول أمريكا اللتينية الأخرى. أنذرته فرفض إنذارها. هددته فسخر من تهديدها. وطلبت منه الرحيل عن بنما فأعلن من على شاشات التلفزيونات العالمية كلها أنه باق صامد رغم أنف بوش وأهله وعشيرته.

صورة نورييغا التي هجمت على خاطري في تلك الساعة، وأنا أراقب تماثيل قاعة اجتماعات صدام حسين، هي تلك التي رأيته فيها يحمل سيفا، نعم سيفا، ويشهره أمام كاميرات التلفزيون، هاتفا صارخا مهددا بقطع رقبة بوش وتمريغ كرامة أمريكا بالتراب. ولم تمض سوى أيام قليلة على تلك الصورة التلفزيونية لنورييغا حتى فاجأه بوش بإنزال صاعق لم يترك له فرصة للاختباء في حفرة في مزرعة، مثلما فعل غيره فيما بعد، فهرب متخفيا من قصر الرئاسة، وتسلل إلى مبنى مقر البعثة البابوية، طالبا اللجوء السياسي. ولم تشأ القوات الأمريكية الغازية اقتحام سفارة الفاتيكان لإلقاء القبض على الهارب من وجه عدالتها، فعمدت إلى استخدام سلاح الصوت العالي نفسه الذي شهره هو بوحهها. فوجهت مكبرات صوت عملاقة على غرفته في مبنى السفارة، بعد أن غادرها جميع موظفيها، وراحت تبث موسيقى الروك أند رول بأعلى ما يمكن من الضجيج، إلى أن فقد أعصابه، واضطر للخروج من مخبئه وسلم نفسه، طائعا.

الآن، وبعد كل تلك السنين، أتذكر صورته وهو مستسلم بهدوء ويمد يديه لجندي أمريكي لكي يقيده أمام عدسات التلفزيون، تماما كما يحدث دائما مع جميع زعماء الصوت العالي الآخرين.

هل رأيتم أسدا يزأر إلا حين يقرر الهجوم الكاسح على فريسته لالتهامها؟ أما نحن فنزأر دائما، ليلا ونهارا، ولا نتوقف عن الزأير. وحين تحين ساعة الجد، ونواجه خصمنا وجها لوجه، نجبن ونبلع أصواتنا العالية ولا نستحي.

إبراهيم الزبيدي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رائع وجميل
الجيزاوي -

يعجبني أن أقرا ما يكتبه زميلنا الزبيدي. عرض ناعم ورقيق وفريد يخلط الجد الجارح بالضحكة الساخرة الهادئة، وعبارات مختارة بدقة وتسلسل أفكار جميل. شكرا لزميلنا وشكرا لإيلاف.

الزبيدي والامريكان
وسام سعد -

ابراهيم الزبيدي كان دائما يقول ان ليس له علاقة بالامريكان وان ما كتب وذكر من علاقته بالامريكان والاحتلال هو كلام الهدف منه تشويه سمعته ,,, هذا المكتوب الان هو اعتراف من الزبيدي نفسه بانه كان ضمن الجمع الذي جاء لغزو العراق ... شكرا يازبيدي على المقال الرائع جدا

أريد رأي السيد المعل
عدالة -

فعلا كل ما قاله المعلق هو الكلام الذي نحب أن نقوله عن هذا المقال الجميل. الزبيدي يذبح بسكين باردةكما نقول في لبنان. لكنه يضحك ويجعلنا نضحك معه. إضحك تضحك لك الدنيا. الله عليك يا إبراهيم. يا ريت يكتب عن واحدة من مصائبنا في بيروت. أرجو أن يزودني بعنوانه بالانترنيت وأرجو إيلاف أن تتكرم علي به مع الشكرalmaaloof@yahoo.com

المزيد المزيد
الياسري -

هذا الفترة من تاريخ العراق التي عاشها الزبيدي عن كثب مهمة. ومثلما أبدع في كتابة مذكراته عن فترة حكم عبد الرحمن عارف وعن صداقته لصدام نرجوه أن يتفرغ لكتابة ما شاهده في فترة احتلال العراق وخصوصا الأيام الأولى وتشكيل مجلس الحكم والوزارة برعاية بريمر وتصميمه وإخراجه. نطالبه بذلك للتاريخ. أكيد ستكون كتابات ممتعة وموضوعية كما عودنا.

الزبيدي الرائع
سيف الخياط -

تحياتي لك منذ اخر لحظة رايتك فيها وحتى اخر كلمة قراتها لك.. ما زلت يا ابراهيم تحاول تحريك هذا الماء الراكد.. وصدق البيير كامو حين قال الصحفي مؤرخ اللحظة.. وحان الوقت لتوثيق كل تلك اللحظات.. اشتاقك اطلاقا

سلاسة السرد
الغرباوي -

أتحفنا رعاك الله بمقالاتك و مواضيعك و ذكرياتك فنحن لها من المنتظرين !

لاجئ
مسيحي -

ألمانيا للاجئي العراق: مرحبا للمسيحيين فقط تجمع آلاف من اللاجئين العراقيين في غضون ساعات قليلة أمام مكتب وكالة غوث اللاجئين التابع للأمم المتحدة بالعاصمة السورية دمشق بمجرد أن نشرت الصحافة العربية خبرا عن استعداد ألمانيا لاستقبالهم على أراضيها. هل أستطيع أن أتقدم بطلب؟ أين يمكن أن أسجل اسمي؟ كانت هذه الأسئلة تتردد على ألسنة اللاجئين الذين تباروا فيما بينهم لينضموا إلى قائمة الـ187 شخصا المسموح لهم باللجوء إلى ألمانيا وقد لاح أمام أعينهم أن حلم البداية من جديد على الأراضي الألمانية سيصبح حقيقة هذا الأسبوع. المعروف أن أغلب هؤلاء اللاجئين مروا بتجربة مرعبة هددت حياتهم الأمر الذي جعلهم يتركون منازلهم وأعمالهم خوفا من تهديدات عناصر تنظيم القاعدة أو الميليشيات الشيعية لاسيما وأنهم كانوا شهود عيان على عمليات القتل والاختطاف والتفجيرات التي راح ضحيتها أقاربهم في العراق. وتجدر الإشارة إلى أن مكتب غوث اللاجئين التابع للأمم المتحدة أعطى أولوية اللجوء لألمانيا للعراقيين الذين ما يزال يتهددهم الخطر داخل وطنهم حتى بعد تحسن الوضع الأمني في العراق نسبيا، وهم يعيشون حاليا ومنذ سنوات كلاجئين في سوريا والأردن حيث يلتزمون هناك بتجديد تصاريح الإقامة من وقت لآخر. وعلى الرغم من أن أحدا من هؤلاء اللاجئين لا يقيم في خيام إلا أن بعض عائلات هؤلاء اللاجئين يعانون ظروفا معيشية صعبة خاصة بعد نفاد مدخراتهم الأمر الذي جعلهم يتقاسمون أماكن الإقامة مع عائلات أخرى حيث يعيشون على الكفاف نظرا لعدم السماح لهم بالعمل. وبلغ من سوء أحوال اللاجئين، بسبب عدم السماح لهم بالعمل، أن الأجر اليومي للطبيب العراقي الذي يعمل في الأردن بشكل غير شرعي لا يتجاوز العشرة دينارات أردنية ;أي أقل من 11 يورو ;. ومن المنتظر أن يصل عدد اللاجئين العراقيين القادمين من عمان إلى 65 لاجئا ضمن قائمة من سيسافرون إلى ألمانيا. ويتوجه 122 لاجئا عراقيا الخميس من دمشق إلى ألمانيا من بينهم 94 مسيحيا أغلبهم من العاصمة العراقية بغداد. أما بالنسبة لبقية اللاجئين الذين تم قبولهم من المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين في ألمانيا فينتمي أغلبهم إلى الأقليات الدينية الأخرى في العراق مثل الصابئة والمندائيين. في الوقت نفسه ستتوجه سيدتان عراقيتان من هؤلاء اللاجئين بمفردهما إلى ألمانيا حيث ستقيمان عند أقارب لهما مقيمين في ألماني

آن الأوان
رعد الحافظ -

شكرا للكاتب على مقالته الرائعة.وأود تنبيه بعض القراء الكرام , الى أن علاقة بعض الكتاب بالاميركان أو حبه ومدحه لبعض عمالهم الانسانية في تحرير الشعوب من طغاتها ’ ليست عيبا ولا سبة في حقهم .صدام والخميني وأمثالهم أقنعونا بالشيطان الاكبرالامريكي , لكن الحقيقة على الارض ,أن تحرر العراق من صدام ماكان ليتم بمساعدة العرب والعجم ولا حتى بثورة شعبية نخسر فيها الملايين .الاسطوانة المشروخة بعداوة أميركا للشعوب أصبحت ممجوجة , ولا يصدق بها حتى دعاتها , لاتعني هذه الاسطوانة غير الكذب على النفس والانفصام والشيزوفرينيا.آن الاوان لكسر تلك الاسطوانة.