لماذا العودة إلى الأممية الأولى؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في مواجهة انهيار مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية وما كان قد استدعى من تشكيل أحزاب شيوعية في سائر بلدان العالم كبديل للأحزاب الاشتراكية الديموقراطية التي شكّلت الأممية الثانية، الأحزاب الشيوعية التي هي اليوم في طور الانهيار نظراً لانهيار مشروعها الذي هو مشروع لينين خاصة وأنها لعبت دوراً هاماً في انهياره وانتهت إلى التخلي نهائياً عن أي مشروع للثورة الاشتراكية العالمية التي نادى بها ماركس، في مواجهة كل هذا كنت اقترحت أكثر من مرة على الشيوعيين الخلّص تشكيل أممية رابعة كنسخة ثانية عن الأممية الأولى التي شكلها كارل ماركس في العام 1864 ثم قام هو نفسه بحلها عام 1873. تساءل العديدون لماذا استنساخ الأممية الأولى وليس الأممية الثانية أو الثالثة؟ ـ للإجابة على مثل هذا التساؤل الشرعي المتعلق بصلب اقتراحنا يلزم أن نشير إلى وجوه الإختلاف بين الأمميات الثلاثة والذي يكاد يكون اختلافاً نوعياً بالرغم من أنها اشتركت بذات الهدف المعلن وهو تحقيق الاشتراكية مثل تلك التي نادى بها كارل ماركس وفردريك إنجلز في بيانهما الشيوعي (المانيفيستو) 1848، إختلافاً في الشكل وفي المحتوى لكل منها.
الأممية الأولى
تشكلّت الأممية الأولى في لندن في العام 1864 إثر إجتماع شاركت فيه منظمات اشتراكية عديدة من عدة بلدان أوروبية وحّدها هدف واحد هو تحرير الطبقة العاملة مما تعانيه من قهر واستغلال في الأنظمة الرأسمالية بصورة خاصة. لكن ما هو مشترك بينها لم يفض ِإلى توحيد رؤاها فمعظمها لم يحمل الرؤى الماركسية التي انطوى عليها البيان الشيوعي. فمنها من كان من أتباع الإشتراكي الألماني فرديناند لاسال وأخرى من أتباع الإشتراكي الفرنسي برودوين وثالثة من أتباع الإشتراكي الإنجليزي روبرت أوين ورابعة من أتباع الفوضوي الروسي ميخائيل باكونين، وخامسة من أتباع الإشتراكي الفرنسي أوغست بلانكي. ونظراً لتنوع الرؤى انتفى من الأممية الأولى أي بعد قومي أو وطني (National) فقد تجد فيها منظمة من هامبورغ وأخرى من ميونخ من ألمانيا دون أن تربطهما أية علاقة أخرى باستثناء الهدف الأخير العائم للأممية وهو تحرير الطبقة العاملة، ولكن ليس الشيوعية وهو ما من شأنه أن ينعكس في تباين أشكال النضال وربما تعارضها. انتفاء البعد القومي أو الوطني بين صفوف الأممية الأولى كان ما ميزها عن الأمميتين الأخريين الثانية والثالثة وهو ما سنشرح أهميته فيما يلي.
في آخر مؤتمر للأممية الأولى في لاهاي- هولندا في العام 1872، قيل أن كارل ماركس قد قرر نقل مركز الأممية من غرب أوروبا إلى شيكاغو في الولايات المتحدة توطئة لحلها في العام التالي 1873 حيث كان ذلك هو الإجراء الوحيد الكفيل بالتخلص من الفوضويين برئاسة الفوضوي الروسي ميخائيل باكونين وهو الأكثر إثارة لغبار الإيديولوجيا الرنانة الحمقاء. مثل هذا القول لا يخرج عن السياق الحقيقي لحلها وهو أن النهاية المفجعة التي انتهت إليها كومونة باريس عام 1871 كشفت عن حقيقة مرة في فم كارل ماركس وهي أن البروليتاريا الأوروبية، وهي الفصائل المتقدمة في جيش بروليتاريا العالم، لم تكن قد ارتقت بعد إلى مستوى الثورة الإشتراكية. ذلك كان السبب الرئيسي الذي حدا بماركس إلى حلّها في العام 1973، وليس أدّل على ذلك من أنه لم يكرر التجربة مرة أخرى خلال السنوات العشرة التالية في حياته. إذاً تشكلت الأممية الأولى من منظمات اشتراكية وأفراد اشتراكيين بهدف تحرير الطبقة العاملة أو الأحرى تحسين أحوالها دون أن يكون معظم الأعضاء ماركسيين يؤمنون بالإشتراكية العلمية.
الأممية الثانية
بعد رحيل ماركس بست سنوات، أي في العام 1889، رأى رفيقه وقرينه فردريك إنجلز أن يكرر المحاولة بعد أن أضحى البيان الشيوعي (المانيفيستو) الدليل اليومي للبروليتاريا الأوروبية، وأن قصورها الذي تسبب في حل الأممية الأولى لم يعد ملموساً، كما وقد أضحى بالإمكان التغلب على التشتت الفكري والإيديولوجي الذي ساد في الأممية الأولى، فنادى إنجلز إلى تشكيل أحزاب اشتراكية ديموقراطية تتبنى المانيفيستو والفكر الماركسي كأحزاب مستقلة في بلدانها. اجتمعت مثل تلك الأحزاب في العام 1891 في بروكسل- بلجيكا وأعلنت عن تأسيسها أممية تضم الأحزاب الإشتراكية الماركسية في أوروبا وحزباً من الإمبراطورية العثمانية وحزبين آخرين من أميركا اللاتينية أحدهما من الأرجنتين والآخر من أوروغواي. طبعاً ما كان إنجلز لينتبه إلى أن تحرير الأممية من عيب التشتت الفكري والإيديولوجي قد حل محله عيب آخر أشد وطأة وأفدح ضرراً ألا وهو التمثيل القومي إذ أن كل حزب عضو في الأممية الجديدة مثل أمة بحالها وبلداً بعينه.
في مؤتمرها العام في شتوتغارت - ألمانيا 1907 وبسبب وحدة الرأي الماركسية اتخذت الأممية الثانية قراراً تاريخياً يقضي في حالة قيام حرب استعمارية تثيرها الدول الرأسمالية في أوروبا بأن تهب الطبقة العاملة في تلك البلدان بقيادة أحزابها الاشتراكية وتستولي على السلطة كإجراء لازم لوقف الحرب أولاً ثم لتتحقق بذلك أيضاً الثورة الإشتراكية العالمية التي طمح إليها كارل ماركس. وعندما بدت نذر الحرب واضحة في الأفق عقدت الأممية الثانية مؤتمراً استثنائياً في نهاية 1912 في بال - سويسرا لتلغي قرارها في شتوتغارت بشأن وقف الحرب، ولتقرر أن حماية الوطن والأمة هي أيضاً من مسؤولية الطبقة العاملة كما الطبقات الأخرى، وهو ما يعني أن تواجه البروليتاريا الألمانية بالسلاح البروليتاريا الفرنسية في تقتيل متبادل. وهكذا تغلّبت العصبية القومية على العصبية الطبقية وما كانت لتتغلب لو لم تكن البورجوازية الوضيعة بكل خبثها ونفاقها قد تسللت إلى داخل تلك الأحزاب واستولت بالتالي على قياداتها. رفض البلاشفة بقيادة لينين ذلك القرار الهجين والمستهجن وأعلنوا إنسحابهم من تلك الأممية الخائنة للبروليتاريا وللتراث الماركسي. السنوات الأولى للحرب أثبتت صحة موقف البلاشفة فبعد أن شارك عمال ألمانيا بقتل عمال فرنسا والعكس صحيح أيضاً ونظراً لحالة التفكك والتحارب التي استولت على الأممية الثانية بأحزابها المختلفة وجدت هذه الأممية نفسها في العام 1916 في حالة انحلال تام. وعندما حاولت بعض الأحزاب الإشتراكية الأوروبية إعادة إحياء الأممية الثانية بعد الحرب (1922) بدأ ذلك بالتخلي عن الماركسية جملة وتفصيلا. وبرز مثالاً لخيانة قضية الطبقة العاملة الحزب الإشتراكي الألماني سواء في هجومه على الجمهورية السوفياتية في بافاريا عام 1919 أم في تواطئه مع النازية في انتخابات 1933 وتمهيد الطريق بالاشتراك مع الاستخبارات البريطانية لوصول هتلر إلى الحكم. وبرز خائن آخر فيما بعد وهو الحزب الإشتراكي الفرنسي الذي شن حرباً استعمارية قذرة على الشعب الجزائري ولعب دوراً رئيساً في العدوان الثلاثي على مصر. ولم يبزهما في الخيانة سوى حزب العمال البريطاني.
الأممية الثالثة
كانت الأممية الثانية قد اتخذت في مؤتمرها الإستثنائي في بال - سويسرا في العام 1912 قراراً يطلب من الإشتراكيين الروس القيام بالثورة البورجوازية في روسيا القيصرية وتطويرها حتى النهاية وذلك نظراً لضعف البورجوازية الروسية التاريخي. في فبراير شباط 1917 قامت البورجوازية الروسية بقيادة الحزب الاشتراكي الثوري (حزب بورجوازي) بالثورة البورجوازية وبدعم وتأييد من البلاشفة. واستند البرنامج البورجوازي لثورة شباط على ثلاثة محاور رئيسة وهي السلام بإعلان الإنسحاب من الحرب، ثم تأميم الأرض كخطوة ضرورية تمهيداً للإصلاح الزراعي ـ والإصلاح الزراعي هو من شروط الثورة البورجوازية وليس الإشتراكية ـ والمحور الثالث هو إنتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للجمهورية. سرعان ما تأكد عجز الحكومة البورجوازية عن تحقيق أي من بنود برنامجها بل عجزت أيضاً عن اتخاذ أية تدابير رادعة بحق كبار ضباط القيصر بعد أن قاموا بمحاولة إنقلاب فاشلة لاستعادة القيصرية في شهر آب أغسطس. مع بداية خريف 1917 ثبت لكافة الطبقات الثورية أن هناك فراغاً هائلاً في السلطة وأخذت تناشد البلاشفة بما في ذلك فئات واسعة من حزب السلطة نفسه، الحزب الإشتراكي الثوري، تناشدهم الاستيلاء على السلطة كونهم الحزب الوحيد القادر على ذلك خاصة وأن الأمور لم تعد تحتمل الإنتظار إذ أن الجبهات الروسية أخذت بالتفكك وتتكبد أمام الألمان هزائم مذلة وخسائر جسيمة، كما تواردت آنذاك إشاعات كثيرة حول مفاوضات سرية بين الإنجليز والألمان تستهدف تقسيم روسيا بين الطرفين. رافق تلك المناشدات في الصحف المسكوفية تحذيرات تقول أنه بعد استيلاء البلاشفة على السلطة ستتجمع كافة الأحزاب الأخرى في تحالف يعلن الحرب على الشيوعيين بهدف إبادتهم ؛ فكان أن ردّ لينين على مثل تلك التحذيرات قبل انتفاضة أكتوبر بأسابيع قليلة مؤكداً أنه إذا ما استلم البلاشفة السلطة فلن تستطيع أية قوى في الأرض استردادها من أيديهم وهم القادرون على قطع كل يد معادية تمتد إليهم. انتفض البلاشفة في 25 أكتوبر (6 نوفمبر غربي) واستولوا على السلطة بهدف تطوير الثورة البورجوازية حتى النهاية وكان أول مرسومين أعلنهما لينين صبيحة الثورة هما مرسوم الأرض ومرسوم السلام استناداً إلى برنامج الثورة البورجوازية، كما ضمّت وزارة لينين الأولى عدداً من الوزراء البورجوازيين ؛ وبعد أسابيع قليلة عقدت انتخابات الجمعية التأسيسية لكن لينين بادر إلى حلّها بعد جلستها الأولى حيث كانت أغلبية المندوبين من حزب الإشتراكيين الثوريين الذي فشل فشلاً ذريعاً في التقدم بالثورة البورجوازية خطوة صغيرة واحدة إلى الأمام. وما يجدر ذكره في هذا السياق أن مجلس الدولة اتخذ قراراً بحل الجمعية التأسيسية وفيه ثلاثة وزراء من الحزب الاشتراكي الثوري صاحب الأغلبية في الجمعية التأسيسية.
أعلن لينين مرسوم السلام والانسحاب من الحرب إلا أن الألمان لم يقبلوا بذلك بغير اقتطاع مساحات واسعة من أوكرانيا وبلروسبا. لم يكن أمام لينين من خيار آخر سوى القبول باشتراطات الألمان خاصة وأنه لم يعد لدى الروس أي قدرة على الوقوف بوجه الجيوش الألمانية الزاحفة باتجاه بتروغراد وموسكو. بأمر شخصي من لينين وقع وزير الخارجية ليون تروتسكي اتفاقية صلح بريست ليتوفسك (Brest-Litovsk) في مارس آذار 1918 بشروطها الجائرة بحق روسيا. انسحب إثر ذلك وزراء الحزب الاشتراكي الثوري من الحكومة إحتجاجاً على المعاهدة وشروطها الجائرة وقام تحالف واسع إثر ذلك ضم سائر أطياف البورجوازية ومنها الحزب الإشتراكي الثوري والمنشفيك وكل القوى الرجعية القيصرية والإقطاعية، وشن حرباً مسلحة هدفها إبادة البلاشفة. لقد جرى فعلاً ما كانت قد حذرت منه الصحافة المسكوفية في أيلول سبتمبر 1917 وتحقق أيضاً ما توعّد به لينين وتم سحق عصابات الردة بالإضافة إلى جيوش أربع عشرة دولة أجنبية دخلت الأراضي الروسية بهدف سحق الشيوعيين. انتصر البلاشفة في الحرب الأهلية ثم في حروب التدخل 1918 ـ 1921 انتصاراً تاريخياً كاسحاً لكن ليس قبل خسارة عشرات الألوف من خيرة كوادرهم البلشفية. الحقيقة البلجاء وسط كل هذا الركام من الأكاذيب والدعايات ضد البلاشفة هي أن من سدّ الطريق أمام تطور الثورة البورجوازية هو البورجوازية الروسية نفسها وليس البلاشفة بقيادة لينين كما يدّعي المغرضون. بعد إلحاق الهزيمة الساحقة بأحزاب وتنظيمات كل الطبقات البورجوازية والإقطاعية من كبار ملاّك الأراضي على أيدي البروليتاريا وصغار الفلاحين الروس لم يعد في آفاق روسيا أي فرصة لتطور الاقتصاد الحر أو الرأسمالي وتهيأت الآفاق مفتوحة للثورة الإشتراكية العالمية بداية من روسيا كما كان كارل ماركس قد تنبأ في العام 1882 لدى كتابته مقدمة ترجمة البيان الشيوعي إلى اللغة الروسية.
بناءً على دعوة من لينين اجتمع في موسكو في الثاني من آذار مارس 1919، 52 مندوباً يمثلون 34 بلداً. وبعد تداول استمر أربعة أيام أعلن هؤلاء المندوبون قيام الأممية الثالثة أو الأممية الشيوعية (Comintern) من أجل نشر الثورة الإشتراكية ونجاحها في كل بلدان العالم. لقد مثل هؤلاء المندوبون 52 منظمة اشتراكية تتبنى جميعها الماركسية كمرشد لها في العمل السياسي. الهوية الفكرية الماركسية كانت شرطاً لعضوية الكومنتيرن دون النظر إلى وحدانية التمثيل القومي فكان من بين الأعضاء خمس منظمات من إنجلترا مثلاً وثلاثة من الولايات المتحدة وثلاثة من روسيا الإتحادية واثنتان من فرنسا. لقد غاب التمثيل القومي في الأممية الثالثة لدى تشكيلها بصورة عامة لصالح الوحدة الفكرية والعقائدية. في الخامس عشر من أيار عام 1943 صدر قرار بحل الأممية الشيوعية بحجة أن التداول بمصائر الأمم لم يعد مفيداً حيث ستقرر الحرب مثل هذه المصائر وهي حجة لا تقبل الطعن وخاصة أن جميع البلدان المنضوية إلى الأممية تقريباً كانت مشاركة في الحرب بحكم أنها أوروبية. وهناك من يؤكد حجة أخرى تقول أن حل الأممية جاء بقرار من ستالين بهدف توثيق التحالف ما بين الاتحاد السوفياتي، الدولة الاشتراكية الوحيدة في العالم، من جهة، والدولتين الرأسماليتين الكبريين، الولايات المتحدة وبريطانيا، من جهة أخرى، وهو تحالف حيوي في الحرب على النازية الهتلرية ؛ وهذه أيضاً حجة يصعب رفضها أو إنكارها. ولعل البعض يعتبر سياسة ستالين في تعميق التحالف مع أكبر دولتين رأسماليتين، بريطانيا والولايات المتحدة، واستمرار تلك السياسة في تكريس التعايش السلمي معهما وإطلاقه نداء السلم العالمي الشهير بوجه حمى النشاط العسكري للدول الغربية وتشكيل حلف الأطلسي عام 1949، بالقول.. " يصان السلم ويوطد إذا ما أخذت الشعوب قضية السلم بأيديها وذادت عنه حتى النهاية "، وهو النداء الذي أسس لقيام مجلس السلم العالمي بقيادة العالم الفرنسي الشهير فردريك جوليو كوري، لعلهم يعتبرونها سياسة خاطئة وخاصة أن مساهمة كل من بريطانيا والولايات المتحدة في القضاء على دول المحور الفاشي والنازي ومنها ألمانيا واليابان كانت مساهمة رمزية ولم يكن بمقدورهما شن الحرب على الاتحاد السوفياتي الذي كان قد أظهر قوة جبارة في الحرب، وأن تهديدات ترومان وتشرتشل لستالين في مؤتمر بوتسدام بالقنبلة الذرية إنما كانت من ألاعيب (جيري) الصغير تشرتشل أمام (توم) القوي لكنه المسالم ستالين. كان لستالين كل الحق في أن يخشى الحرب كونها المعاكس تماماً للتنمية الاشتراكية لكن ليس إلى حد السماح لهتلر بمفاجأة الإتحاد السوفياتي بعدوان مجحفل بمائتي فرقة عسكرية. وثمة من يؤيد بالمقابل تلك السياسة بدعوى أن ستالين كان واثقاً من أن الإشتراكية ستحقق نصراً عالمياً على النظام الرأسمالي في وقت قصير عن طريق المنافسة السلمية.
في الخامس من مارس آذار 1946 وقف عجوز الرأسمالية الإمبريالية ونستون تشرتشل في جامعة ويستمنستر في مدينة فولتون من ولاية ميسوري في أميركا يخطب خطابه الشهير ليقرّ بعظمة الشعوب السوفياتية ويفاخر بصداقته للمارشال ستالين لكنه مع ذلك يحذر من الخطر الشيوعي ومن الطابور الخامس، الحزب الشيوعي، في البلدان الغربية، ويدعو إلى تشكيل قوى عسكرية من أميركا وأوروبا الغربية ضد الشيوعيين. وفي ذلك الخطاب العدواني المشؤوم كان أسطون الإمبريالية أول من تفوّه بتعبير " الستار الحديدي " (Iron Curtain). لم تمض سنة على ذلك الخطاب الحاقد والناكر للجميل حتى عقدت بريطانيا تحالفاً عسكرياً مع فرنسا توسع بعد عدة أشهر ليضم هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ وهو ما شكّل النواة لحلف شمال الأطلسي الذي قام بجهود ملحوظة من حزب العمال البريطاني وخاصة وزير خارجيته "اليساري" إرنست بيفن. حين تأكد ستالين من السياسة العدوانية لدى حلفائه الغربيين راح يبحث عن إعادة الحياة للأممية الشيوعية فدعا عدداً من الأحزاب الشيوعية في أوروبا لتشكيل ما سمي " مكتب تبادل المعلومات " (Cominform)، وما زاد عن تبادل المعلومات لذلك المكتب، الذي حلّه خروتشوف في العام 1956، هو علاقة الحزب الشيوعي السوفياتي، وهو مركز الثورة الاشتراكية العالمية، بالأحزاب الشيوعية الأخرى، وهي الأطراف، إذ كان يتم الإعتراف بحزب شيوعي واحد فقط في كل بلد من بلدان العالم فيُدعى مندوبوه إلى مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي الدورية. وهكذا أعيد التمثيل القومي للأحزاب الشيوعية، فكان هذا مكمن الداء.
نذكر أن الأممية الثانية ولدى مواجهة أزمة الحرب، الحرب العالمية الأولى 1914، تشتت شملها وانقلبت أحزابها إلى أحزاب قومية تشارك في الحروب الاستعمارية لصالح الاحتكارات الرأسمالية في بلدانها ؛ وما كان ذلك ليكون لو لم تكن تلك الأحزاب ممثلة لبلدانها بقومياتها المعروفة ـ هذا طبعاً بالإضافة إلى استيلاء البورجوازية الوضيعة على قيادات تلك الأحزاب. ذات الإنقلاب حدث مع جميع الأحزاب الشيوعية بعد انهيار معسكر الاشتراكية. كل حزب من هذه الأحزاب إنقلب إلى حزب وطني دون أن يحتفظ بأية علاقة بالعمل الشيوعي بعد أن تخلّى عن العمل على مسار الثورة الإشتراكية العالمية ولم يعد له بذلك أي حق بالاحتفاظ باسم "الحزب الشيوعي". راحت هذه الأحزاب ترفع شعارات وطنية شعبوية أولها التنمية والديموقراطية. الشيوعيون هم الذين اشتهروا بالقول باستحالة التنمية والديموقراطية تحت مظلة الرأسمالية الإمبريالية الدولية بغير الخروج من تحت هذه المظلة وإقامة علاقات وثيقة مع معسكر الإشتراكية. فما الذي تغيّر اليوم؟ انهار المعسكر الإشتراكي الذي كان يحمي حركة التحرر الوطني وغدا الإنضواء إلى منظمة التجارة العالمية شرطاً أوّلياً للتبادل التجاري لا مناص منه أو عدم الانصياع لشروطه حتى بالنسبة لدولة كبرى " مستقلة " مثل الصين. كيف يمكن بناء اقتصاد وطني مرتكز على ذاته بينما الاندغام في الإقتصاد الدولي شرط أولى لا مهرب منه؟ والشيوعيون هم أول من كان يرفض أي وجود للديموقراطية اللاطبقية باعتبار ذلك مجرد خديعة بورجوازية ! فأي ديموقراطية طبقية ينادي بها الشيوعيون اليوم !؟ أم أن الديموقراطية غدت بلا هوية طبقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي !!؟
حُلّت الأممية الأولى في العام 1873 لكن الأحزاب والمنظمات التي كانت منضوية إليها لم تبدل إستراتيجيتها ولا تكتيكاتها ؛ اللاسالية ظلت لاسالية والفوضوية ظلت فوضوية والماركسية ظلت ماركسية وكان ذلك بفضل غياب التمثيل القومي لأحزاب ومنظمات الأممية الأولى. أما حل الأممية الثانية في العام 1916 فقد نجم عن تحول الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية فيها إلى أحزاب قومية تحارب دفاعاً عن مصالح الطبقات الحاكمة في بلدانها بالعكس تماماً من مصالح العمال. ما سهّل مثل ذلك التحول الخياني ليس هو فقط تسلل البورجوازية الوضيعة إلى تلك الأحزاب والاستيلاء على قياداتها بل هو أيضاً اعتماد البعد القومي في تمثيل تلك الأحزاب لبلادها. أما الأممية الثالثة فبالرغم من حلّها بصورة رسمية في العام 1943 ثم العودة إلى تشكيل الكومنفورم في العام 1947 من عدد محدود من الأحزاب الأوروبية وإعادة تكريس البعد القومي سواء بتشكيل الكومنفورم أم بالعلاقة الثنائية المنفردة بين المركز، الحزب السوفياتي، وأي حزب طرفي، بالرغم من كل هذا إلا أن الحركة الشيوعية العالمية ظلت قوى متماسكة وكتلة صلبة عصية على الاختراق وليس أدل على ذلك من العزلة التامة التي أحاقت بزمرة تيتو المنحرفة في يوغوسلافيا في الخمسينيات، عزلة دفعت بها إلى الدخول في حلف البلقان العسكري الرجعي والإمبريالي مع الولايات المتحدة وتركيا واليونان. ظلت الحركة الشيوعية كتلة صلدة إلى أن وصل خروشتشوف إلى رأس السلطة السوفياتية وبدأ بالإنحراف عن مبادئ اللينينية في الثورة الإشتراكية. إذّاك أخذ التفتت يفكك الحركة الشيوعية فانفك بداية أكبر حزب شيوعي في العالم وهو الحزب الشيوعي في الصين وسبق ذلك تعفن الحزب الشيوعي في المجر 1956، وتلاه تعفن الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا 1968 ثم ظهور ما سمي بالشيوعية الأوروبية التي لا تتسم بأي سمة شيوعية. حدث كل ذلك قبل انهيار الاتحاد السوفياتي 1991. عندما لم يعد الحزب الشيوعي السوفييتي حزباً شيوعياً حقيقياً وتخلى عن الماركسية اللينينية، يشتم ستالين وهو باني الإتحاد السوفياتي ويتهجم على لينين وهو مؤسس الإتحاد السوفياتي ورائد الثورة الإشتراكية التي عرفها العالم في القرن العشرين، عندئذٍ فقط بدأت الأحزاب الشيوعية الطرفية تتفسخ وتنقسم إلى فرق شتّى. كان ذلك رد الفعل الطبيعي على انحراف الحزب الشيوعي السوفياتي مهما أنكر ذلك مريدوه.
في أجواء تحلل الحركة الشيوعية وتفسخها، ونظراً للتمثيل القومي في الأممية الثالثة انقلبت أحزابها أوتوماتيكياً إلى أحزاب وطنية قومية تبني استراتيجياتها على أهداف قومية لا تمت لطبقة بعينها بصلة كالتنمية العامة والديموقراطية. وهذا نفاق مفضوح حيث لا تنمية ولا ديموقراطية بدون هوية طبقية، والأحزاب التي ما زالت تحتفظ باسم الشيوعية لا تجرؤ على إعلان أية هوية طبقية سواء للتنمية أم للديموقراطية المزعومتين في استراتيجياتها الكاذبة. ما معنى أن تتهرب الأحزاب الشيوعية من فلول الأممية الثالثة من تحديد الهوية الطبقية للتنمية والديموقراطية المستهدفة من قبلها !!؟ أو بالمقابل الإعلان للملأ أن التنمية والديموقراطية لم تعودا طبقيتين !!؟ ما معنى ذلك سوى أن هذه الأحزاب أمست عصابات تحترف التضليل والنفاق؟ ومن منها تعفف عن ممارسة التضليل والنفاق استبدل اسم "الشيوعي" باسم آخر لا يوحي بالشيوعية مثل حزب الشعب في فلسطين وحزب الشعب الديموقراطي (رياض الترك) في سوريا.
تشظّي الأحزاب الشيوعية خلال النصف الثاني من القرن الماضي كان قد جرى كما أسلفنا كرد فعل على انحراف الحزب الشيوعي السوفييتي، لكن ذلك ما كان ليجري أيضاً بغير هدف البحث عن الخط الماركسي اللينيني المستقيم كما كان يجب أن يستمر بغير انحراف خروشتشوف وطغمته. كان ذلك هدف مختلف الشظايا حتى وإن لم تعلنه. ليس من فصيل يرضى لنفسه حالة التشظّي دون أن يكون مبرره اكتشاف ما ضيعه الحزب الشيوعي السوفييتي والالتزام بالماركسية اللينينية الصحيحة خاصة وأن تراجع الثورة الإشتراكية في مركز الثورة، الإتحاد السوفياتي، كان قد بدأ مع بداية الإنحراف في العام 1957. وهكذا يمكن القول بأن التشظي كان لصالح الحركة الشيوعية والبحث عن مسارها الصحيح وليس ضدها كما يبدو للوهلة الأولى. الخطوة الثانية التي تؤكد هذا المعنى ـ البحث عن المسار الصحيح ـ هو العمل على تجميع هذه الشظايا في أممية رابعة، أممية تضم منظمات متباينة الرؤى في الوصول إلى الثورة الاشتراكية وليس أحزاباً تدعي تمثيل العمال في بلادها فيقتصر التمثيل عليها منفردة، ولها أن تضم التروتسكيين مع الإنكار الكامل للدور الخياني لأمميتهم الرابعة. تبحث هذه الأممية في رص الصفوف في مسيرة شيوعية تطرح بعيداً عنها كل الشوائب الفكرية التي جلبها التحريفيون وأدعياء تحديث وتطوير الماركسية الغرباء على عملية الإنتاج البروليتارية. لكن هذا لن يكون قبل تصميم مشروع بديل عن مشروع لينين. المشروع البديل لا يمكن أن يكون مثيلاً لمشروع لينين بسبب اختلاف الزمان والمكان، فالنظام الإقتصادي في عالم اليوم ليس هو النظام قبل مائة عام. تصميم المشروع البديل لمشروع لينين هو دون شك الإسعاف الأولي للحركة الشيوعية، الإسعاف الذي بدونه ستخسر كل الإنسانية مستقبلها وليس الحركة الشيوعية فقط. نحن لا ندعو لإسعاف الحركة الشيوعية من بواعث حزبية وإيديولوجية ولا حتى من بواعث طبقية بروليتارية، ما يدعونا لذلك قبل كل هذا هو الوعي الحقيقي والتام بأن لا مستقبل للإنسانية جمعاء إلا في الحياة الشيوعية ؛ وما التلّهي ببعض القضايا التافهة الصغيرة من قبل بعض الجماعات الشيوعية المفلسة سوى مخاطرة بمستقبل الإنسانية وببقاء البشرية. لن ينقذ البشرية من الكارثة الكونية التي تنتظرها سوى الشيوعيين الخلّص والماركسيين المحيطيين الأمناء لتراث ماركس.
فـؤاد النمـري
التعليقات
أمميات إنقرضت
عبد البا سط البيك -يذكرني مقال الرفيق النمري بمثل مشهور جدا عن طبقة التجار ..و هو أن التاجر المفلس يفتح دفاتره القديمة يبحث عن دين ربما نسي أن يقبضه من زبون .. الرفيق النمري بعد أن أمضى معظم حياته و هو يقرأ و يكتب بإيمان عز نظيره ,وجد ضالته أخيرا في الرجوع الى الأممية الأولى التي أسال الرفاق القدامى الكثير من المداد في إنتقادها و الغوص بنواقصها و خروقها التي كانت الأقرب الى الطوباوية .و لم تفلح كل التعديلات التي أدخلها الرفاق عليها , فتركوها و تحولوا إلى أممية أكثر تطورا و إنفتاحا حسب زعمهم . و حتى تلك الأممية الثانية التي طبل لها الماركسيون و زمروا سقطت عند أول مواجهة مع الواقع حيث نسي البروليتاريون أمميتهم الجوفاء و رجع الجميع الى ولائهم الوطني , و حملوا السلاح و كانوا وقود الحرب في ساحات الوغى و خلف الالآت ينتجون السلاح و العدة و العتاد لتغذية هذه الحرب التي يزعم الماركسيون بأنها لم تكن تهم الطبقة الكادحة و ليس لهم فيها ناقة و لا جمل , و إن هذه الحرب هي بين الرأسماليين من جنسيات مختلفة يسعى كل طرف لزيادة أرباحه و مكاسبه . بالطبع لم يكن هنالك التحريفون من أمثال خروتشوف الذي يطيب للرفيق النمري أن يحمله جبال الأخطاء و الإنكسارات التي عرفتها الأممية الثالثة التي هوت من غير أن يذرف على سقوطها دموع صادقة . و نحن لا ننسى دموع المرتزقة التي كانوا يقتاتون من هبات موسكو فإنحبس ذلك الزاد عنهم . نقطة مهمة جدا يتغاضى عن ملاحظتها أو أن الرفيق النمري يتجاهلها رغم أنه يعيش في بلد عربي و المفروض أن يفهم العقلية السائدة في بيئته و محيطه الإجتماعي . لا يمكن أن يتحول الولاء الوطني و القومي الى ولاء عالمي مهما كانت المبررات و الفوائد التي يوعد بتحقيقها . و على من يريد أن يحقق هذا الوهم أن يبيد مئات الملايين من أبناء هذه الأمة . ربما الرفيق النمري يوافق على هذا الحل لأنه يدخل في إطار الصراع الطبقي و ثورة البروليتارية الدموية . هذه الفكرة في حد ذاتها جنون و ضرب من الخيال المريض . السياسي العاقل هو الذي يفكر بما يمكن تحقيقه من خلال ما هو موجود فعليا من إمكانيات و موارد بين يديه , و لا يخطط لسياسات تنبني على ما قد سيكون كما هو عليه الحال في الفكر الماركس بكل فروعه و روافده . الشيوعيون يضيعون المال و الجهود و يزرعون الموت بسفك الدماء طبقات إجتماعية تشاركهم العيش في نفس الوطن , ليصلوا ال
أمميات إنقرضت
عبد البا سط البيك -تعليق مكرر
الشيوعية ماتت
عربي مقيم في امريكا -واخيراً اعترف كاتبنا العزيز بالحقيقة التي يجاهد معظم الشيوعيين في اخفاءها وهي ان ابو الفكر الماركسي هو نفسه من سحب نظريته بعد ان ثبت له من التجارب الاولى انها تعني على الارض مذابح وفوضى وتسليم مقاليد الأمور للفوضويين والفاشلين من مختلف الاختصاصات. فعلى سبيل المثال: لا ننكر ان النظام الرأسمالي حول مهنه مقدسة مثل الطب إلى تجارة. ولكن من المستفيد من تأميم المشافي؟ الجواب هو الطبيب الفاشل فقط وليس الشعب بأي حال. بالمحصلة: لا ينكر الا احمق ان الطب في الدول الرأسمالية متقدم بمراحل عن نظيره الشيوعي . كما ان الوضع الصحي العام افضل بعشرات المرات دون ان يعني هذا بأي حال ان الرأسمالية هي جنة الله على الأرض ولكنها بالمشاهدة العينية المنصفة افضل بمرات من الشيوعية. نحن لسنا بحاجة الى احياء الشيوعية لأنها ماتت سريراً منذ زمن ثم شيع جثمانها رسمياً في 1988 وتقبل اهلها العزاء وسجلت في قوائم الموتى. ما نحتاجه هو اليات علمية تكبح جماح الرأسمالية وهذا هو الشغل الشاغل لعلماء اليوم... انصح الكاتب بدعم مكتبته ببعض الكتب والمقالات الحديثة مع الاحترام