سألوني: شو صاير؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في كل مرة أسمع فيروز تغني للبنان،أستميحها والرحابنة العذر فأتصورها تغني للعراق مع لبنان فتكون الأغنية هكذا أيضاً:
سألوني شو صاير في بلد العيد
مزروعة علداير نار وبواريد
إلتلهن بلدنا عم يخلق جديد
عراق الكرامة والشعب العنيد!
ورغم إدراكي أن المزاج العاطفي الرومانسي لا يصمد كثيراً أمام معايير ومنطق العقلانية الصارمة، إلا إنني أسرح مع جو الأغنية لا كمحطة استراحة وحسب، بل كمنصة انطلاق للأمل!
وأسأل ترى لماذا لم توجد لدينا أغنية تتمثل معاناة الحاضر ومخاضه الأليم وتدعو لمستقبل أفضل؟ولماذا معظم أغانينا نواح وعويل وصراخ؟ ولماذا لم يظهر في العراق الكبير مغنية كبيرة بحجم فيروز،أو أم كلثوم أو محمد عبد الوهاب؟ مع كل ما زخرت به الساحة الغنائية العراقية من حناجر امتازت بالقوة والعذوبة،والجواب بسيط وواضح: انعدام الاستقرار السياسي! فمنذ انطلق نشيد ( الله أكبر فوق كيد المعتدي ) من إذاعة بغداد صبيحة 14 تموز 1958 وحتى اليوم، والعراقيون لا يسمعون سوى الأناشيد العسكرية، وقعقة السلاح والانقلابات والحروب ودوي القنابل والصواريخ تتفجر فوق بغداد وتحتها والجزمات الثقيلة تجوس في الشوارع، وتحطم الأبواب، ليل نهار!
ولكن هل كان إتلاف كل موهبة غنائية نسائية أو رجالية واعدة،وإحالتها إلى ابتذالات الملاهي والمواخير منفصلاً عن نهايتنا المأساوية؟ : ننوح على قتلانا يتناثرون أشلاءً،وبيوتنا وقد أضحت خرائب تخشى حتى الغربان أن تحط عليها!
في صيف عام 2004 كنت بين الحضور في حفل غنائي أقامه مجلس إعادة أعمار العراق في حدائق القصر الجمهوري بمناسبة انتهاء أعماله،كان أحد المدعوين مسؤول كبير في وزارة الثقافة،وكانت فتيات الفرقة القومية الجميلات يقدمن رقصات على وقع أغان تشدو للعراق وأهله،مال المسؤول الكبير في وزارة الثقافة على رجل يجلس بجانبه وسأله: (من أين تلك الفتيات؟) قال له (إنهن موظفات في وزارتكم! )،بهت المسؤول وقال مفتعلاً ضحكة ( زين قلت لي حتى أعدمهن ) بالطبع إنه كان يمزح وبسماجة، لكن ما قاله له جذر حقيقي في عقله الباطن!
هذا المسؤول ما يزال يصول ويجول في وزارة الثقافة و هو محسوب على المجلس الإسلامي الأعلى،وهو كمتعصب للدين وللطائفة لا يمكن له ألا أن يكون هكذا معادياً للمرأة بين الرجال أولاً،وكمغنية ثانياً،وهو لم يستطع أن يرقى بالحزن على الحسين ليجعله يتجلى بأغنية جميلة،وبموسيقى راقية وليس باللطم والبكاء وشج الرؤوس والقلوب!
وقبل أيام أقامت أمانة العاصمة في بغداد معرضاً للزهور في بغداد شاركت فيه دول عديدة،وقد كتب الصديق الشاعر علي عبد الأمير في إيلاف مقالاً شعرياً جميلاً حيا فيه المهرجان واستذكر من خلال عبير زهوره روح شقيقه شهيد الثقافة العراقية الكبير قاسم عبد الأمير عجام عاشق الزهور والسينما،فانبرى له بعض القراء مستخفين بفكرته الحضارية وتسائلوا بشكل مفزع : هل يجوز لبغداد المنشغلة بالجثث أن تحتفي بالزهور؟
عقول هؤلاء الملتوية هي دائماً في حالة رفض واحتجاج وتعارض،دونما هدف سوى العدمية المطلقة،فهم إذا رأوا الجثث تساءلوا : أما كان الأجدر أن تكون هناك زهور؟ وهم على حق طبعاً ولكن إذا جيء لهم بالزهور تساءلوا، لماذا نسيتم الجثث وجلبتم الزهور؟جمود مرضي لا يسعك إلا أن تقول أمامه: فالج لا تعالج! أو أن لا يصيبك اليأس منهم فتدعو إلى إعادة التربية والتأهيل!
هل هي مصادفة أن يلتقي اليوم مسؤول الثقافة الكبير وأناس عاديون من مجتمعنا على موقف متشنج عدائي للأغاني وللزهور معاً، هل هذا من الفطرة العراقية الأصيلة المعروفة ومنذ القدم بحبها للأغاني وللزهور والجمال بكل ألوانه؟ ألم تكن بغداد هي التي أهدت للعالم ألف ليلة وليلة وأغانيها وأحلامها وزرياب وعوده وزهت بحدائقها وزهورها وعيون المها بين الرصافة والجسر؟
منذ مجيء الحكام الجدد لم تقم لا وزارة الثقافة ولا أية جهة حكومية أو حزبية أو حتى شعبية حفلاً منظماً ينقل عبر فضائيات العراق الكثيرة تغني فيه نساء أو رجال،للعراق ومستقبله المنتظر،تركوا فقط الأربيجي والهاونات والعبوات الناسفة تكون صوت العراق الوحيد،نسوا أو جهلوا أن الموسيقى والغناء والزهور يمكن أن تكون أعظم رد على الإرهابيين وأشباح الموت والدمار!
في الحرب العالمية الثانية وكان الجيش النازي يطوق ليننغراد ( بطرسبرج ) ويكاد يحتلها والجيش السوفيتي أيامها يقاوم ببسالة لكنه كان منهكاً وجائعاً فأتي الموسيقار الروسي الكبير شوستاكوفتش مع فريقه الموسيقي الشجاع ونصبوا آلاتهم الموسيقة قريباً من مدافع الجنود في الخطوط الأمامية وأخذوا يعزفون سيمفونية شوستاكوفتش السابعة الشهيرة، فراحت موسيقاها تسري في عروق الجنود كاللهب تستحثهم لكسر حصار الجيش الغازي لمدينتهم ولوطنهم،وبالطبع لم تكن هذه الموسيقى وحدها هي التي حققت النصر على جيش هتلر، لكنها بالتأكيد كانت قوة إسناد كبرى!
ماذا حدث؟ في العهد الغابر طغت العسكرة وشملت كل شيء من الاقتصاد إلى العمران إلى شق الطرق والجسور العسكرية ومن ثم القصور الرئاسية المتغطرسة إلى الثقافة والفن خاصة، ولم يلتفت لبناء مترو لبغداد مثلاً، في هذا العهد جاءت إلى العراق موجات سوداء أخرى قادمة من إيران بالذات،حيث يشيع اليوم تقليد الثقافة الإيرانية وأساليب النظام الإيراني في سوق الناس وتحويلهم إلى ركع سجود في طقوس يومية متشحة بالسواد والرعب والبكاء المنافق! وإضافة إلى شيوع ثقافة البكاء والعزاءات والمناحات المتلاحقة يجري اليوم مسخ الثقافة العراقية لجعلها التوءم المنغولي للثقافة الإيرانية!
فالبصرة التي كانت الحاضنة الكبيرة للثقافة العراقية والفن والغناء والموسيقى وكل مواسم الإبداع والجمال يجري اليوم (تطهيرها) من معالمها الثقافية، حيث أطيح بكل تمثال أو نصب تذكاري فيه لمحة لجسد امرأة أو هيئة جمال سافرة غير محجبة ولا نستبعد أن يطاح فيها بتمثال السياب قريباً،أو تفرض عليه عباءة وعمامة! وهي اليوم مدينة مغلقة بوجه السينما والمسرح تنوس فيها العمائم واللحى وتلاميذ يفتتحون دروسهم ببكائيات وعزاءات ومراسيم موت ورثاء! بينما تسمى عاصمة الثقافة لذر الرماد في العيون، ولا أدري كيف يوافق المسؤولون في اتحاد الأدباء وهم طليعة الثقافة العراقية اليوم وضميرها النابض بشجاعة على المشاركة في هذه اللعبة ويذهبون ليزكوا الحالة الرسمية هناك، كان الأجدر بهم أن يشترطوا فتح سينمات ومسارح البصرة في الأقل قبل المشاركة في مربد البصرة!
سيبقى دعاة الكآبة والتحجر والموت المعششين في الظلام، يكرهون الأغاني والزهور كما يكرهون الفجر والتغيير والتجديد،هذا شأنهم!
من حقي أن أحلق مع صوت فيروز:
ألتلهن بلدنا عم يخلق جديد
عراق الكرامة والشعب العنيد
نعم إن شعبي عنيد قوي في صلبه وروحه ونواته، وسيركل كل عناكب الظلام ويبني العراق كما يحلم وكما يريد هو،وسيكون جنة الأغاني والزهور في هذا العصر!
إبراهيم أحمد
التعليقات
مقالة رائعة جداً
ليلى سعيد -إنها مقالة رائعة جداً ،تبعث فينا الأمل ، وسؤال الكاتب لمماذالم تظهر مغنية عراقية بحجم فيروز يستحق نقاشاً طويلاً ،وقد كتبت في هذا الاتجاه أكثر من مقال ،إن عدم الاستقرار السيسي هو السبب الرئيس ،وكون المجتمع العراقي مجتمع ذكوري وعنيف سبب آخر ، ونظرة المرأة العراقية للفن فيها شك وخوف وازدراء هذا سب آخر ، ليت أيلاف تفتح ملفاً حول الأغنية في العراق وفي عموم العالم العربي شكراً للكاتب الذي عودنا على مقالة جريئة وجديدة وشكراً لإيلاف حاضنة هموم المثقف العربي !
بريدك ؟؟
رعد الحافظ -تحية للكاتب الكبير وأنا اشكرك دوما على مقالاتك الرائعة , خصوصا عندما تفضح الغربان الناعقة , مثل هذا المسؤول الاسلامي في وزارة الثقافة , ولا أفهم أي ثقافة تنفع مع هؤلاء , ألا تعسا لها إن جاءتنا منهم ..على كل سيدي ,إضطررت هنا للتعليق لشكرك أولا وطلب كتابة بريدك الالكتروني كي نرسل مباشرة آرائنا لك , علما أنها تخلو من التهجم على شخص معين لكنها تركز على الافكار, وأشكر إيلاف إن نشرت ...الوداع
بريدي
إبراهيم أحمد -إلى أخي رعد الحافظ تحية طيبة أشكرك كثيراً على اهتمامك بمقالي ويسرني أن تكتب لي على عنواني :ibrahimhit@hotmail.com
سيعود اللحن عراقيا
هندي حامد الهيتي -مقالة جميلة تنشر الفرح وتريد زرع الجمال في زمن تتعالى يسود الحزن في كل زاوية من زوايا الوطن .. ورغم كل هذا يبقى العراقيون خالقي الفن والفرح وطالبي الحياة ينبتون الاصوات الدافئة ويبعثون الفن الاصيل الممتزج بحزن عراقي اصيل .. انا على ثقة سيعود رضا علي وناظم الغزالي ووحيدة خليل وسيتا وانوار يرقصون على الفضاءات الخضراء لكورنيش ابو نؤاس كما صدح صوت فؤاد سالم في ملعب الشعب بالامس و((سيعود اللحن عراقيا ))يا ابو عادل نقضي امسياتنا في بيت رضا علي على الحب نلتقي
شكرا لك
إخلاص -مقال رائع جدا يمنحنا ثغرة امل في افق العراق المظلم .... استاذ ابراهيم نحتاج المزيد من هذا النمط المعرفي من الكتابات التي تعبر عن رقي ونقاء كاتبها .... اتمناك بخير
تحية
حسين الجبوري -تحية لك ويبدو انك انت كنت احد رجال ثقافة هذه الوزارة في مرحلة ما بعد 2003 وكنت اقرا مقالاتك في جرية الصباح وكنت متفقا معك لاسيما عن ثورة تموز الاولى وعبثها وكذلك قرات لك قصة قصيرة جميلة عن احد المغتربين في السويد بعد وفاته اتمنى ان اعرف قصصك القصيرة وادبك،كما اتمنى ان اعرف رحلتك مع عامر عبدالله مع اختلافي فكريا معك ومعه تحياتي وتقديري الكبير لرؤيتك الفكرية الواضحة
وردة لقلبك الرحيم
علي عبد الأمير عجام -اخي الحبيبالاستاذ ابراهيم احمداسعدتني جدا حين جعلت مقالي في الوفاء لبغداد وزهورها وعطرها والوفاء للمعلم والنبيل اخي قاسم عبد الامير عجام، سببا من اسباب مشاعرك المنسوجة في مقال مشع آخر منك.
موطن الفن والأدب
عراقي غيور -أحسنت قولآ ياأستاذنا العزيز على هذا المقال الأكثر من رائع وأنا أرفع صوتي معك ومع كل الأخيار من العراق موطن الفن والأدب والشعر وكل مظاهر الحضاره العريقه ومؤسسها متى يتخلى هذا الشعب العظيم عن لغة الحزن والأسى والبكاء والعويل وينشروا ثقافة الفرح والحب والجمال في بلد أكثر مايحتاجه هو الحب بكل ماتحمل هذه الكلمه الصغيره من معاني كبيره.