أصداء

متعة اوربية للمصريين على ايقاع الزجاجات الفارغة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

انهم الاوربيون يبادرون الي منح المصريين "جرعة متعة"، والاقتراب منهم عبر البوابة السينمائية، بعد سنوات من الاحتقان المتواصل بين ضفتي المتوسط ودعاوى العنصرية والصور السلبية لدي كل طرف عن الاخر، خاصة مع سياسات اغلاق الابواب هناك، وقوارب الموت هنا.

ولا شك ان مهرجان "نادي السينما الاوربي" الذي تواصل في القاهرة على مدى شهر كامل وشاركت فيه دول الاتحاد الاوروبي مجتمعة بعروض سينمائية،يعد مبادرة جيدة وسط عشرات او مئات المبادرات التي يجب ان تتواصل، لاستبدال خطاب الصراع الحضاري ورفض الاخر، بخطاب الحوار والبحث عن المشترك الانساني.

ولعل الادب والفن، والثقافة بشكل عام، المدخل الصحيح لجسر الهوة وترميم الجسور المنهارة بين الجانبين، خاصة ان العرب المشاطئين للاوروبين شركاء في ذات "البحيرة الثقافية" حسب توصيف عميد الادب العربي طه حسين، والمشتركات بينهم اكثر من المتناقضات التي تأتي فحسب من تباين بعض المصالح والميراث الاستعماري.

وهذا التحرك الاخير في ظل رئاسة التشيك لدورة الاتحاد الاوروبي،يوحي بان هذه الدولة الصغيرة تتمتع بديناميكية ورؤية ذات ابعاد ثقافية، وربما ما لا يعرفه الكثيرون عن التشيكيين انهم من صناع السينما الجيدين.

ومن خلال مشاهدة اكثر من فيلم تشيكي خلال السنوات الاخيرة ترسخ لدى هذا الانطباع الايجابي، وربما اهم ملامح هذه المدرسة السينمائية، ان جاز التعبير، المزج بين الفنتازيا والكوميديا لمعالجة هم انساني يبدو بسيطا في شكله، لكنه عميق في مغزاه، ويتسع ليشمل البشر في كل زمان ومكان، مع ايقاع سريع للاحداث ولحركة الكاميرا، مع كادرات واسعة مليئة بالتفاصيل التى تصنع صورة مدهشة وتحتفظ بانتباه المشاهد بترقب واستمتاع.

ولعل فيلم " الزجاجات الفارغة" الذي جرى به تدشين المهرجان الذى انتقل فيما بعد الي عاصمة مصر الثانية الاسكندرية يعبر بدقة عن هذا التوجه السينمائي التشيكي، وقد جاء اختياره موفقا بشدة،الى جانب فيلمي الختام الاسباني " البحر الداخلي" والسويدي " مدهش ومحبوب من الجميع"، ليعبروا معا، عن معاني انسانية عميقة نحتاج ان نتوقف عندها جميعا، سواء كنا في شمال او جنوب المتوسط او اية بقعة على وجه الارض، والاهم من ذلك انها، الى جانب تقديم المتعة الفنية والتعريف بتجارب سينمائية مختلفة، لا تنسى الرسائل القيمية ذات الدلالات المهمة بشكل غير ممل ولا ساذج ولا اشبه بخطاب الوصايا او الرطانة الايدلوجية، للدرجة التي يمكننا معها ان نعطيها عنوان مشترك من قبيل "سينما الانسان" او بالاحرى "سينما الحياة".. الانسان بانكساره وانتصاره وتحديه وسعيه للبحث عن الذات، وحياة يجب ان تعاش حتى لو كانت مأهولة بالصراعات الصغيرة والكبيرة.. صراع من اجل التحقق او حتى من اجل اسعاد الاخرين وعمل اضافة ما، لانفسنا او لمن حولنا.. الصراع البناء وليس الشرير الذي حسب تعبير كارل ماركس، نضال فيه سعادة.

و" الزجاجات الفارغة" للمخرج جان سفيراك يجسد هذا المغزى بقوة من خلال تناول حياة مدرس عجوز وصل الي سن التقاعد،رغم انه مازال قدرا على العطاء، لكن احدا ممن حوله لا يعترف بذلك، ويحاول ان يشغل وقته بتنظيف البيت او الطبخ او حتى الجلوس في الحدائق العامة، الا انه يشعر باكتئاب وبعدم جدوى، فيقرر الخروج من هذا الاحساس القاتل بالسعى للحصول على اي عمل مهما كان بسيطا او غير ملائم لمرحلته العمرية، ويبدأ بالعمل في توزيع الطرود البريدية رغم انه يتطلب مواصفات خاصة مثل قيادة دراجة فيبدأ في اصلاح دراجته القديمة ويلبس الخوذة كما لو كان شابا مراهقا ويتجول بالدراجة بتهور ومرح.

ويواصل عمله رغم اعتراض زوجته التقليدية النمطية التي توحى اليه في كل لحظة ان دوره انتهى عند هذا الحد وعليه ان يقبل بالامر الواقع ويراعي تقدمه في السن، لكنه مستمتع بهذا العمل الذي اعاده الي الحياة بنفس روح الشباب الى ان تصدمه سيارة فيترك العمل، لكنه لم يستسلم لهذا الحال، فمجرد ما يلتئم الكسر في ساقه يبدأ في البحث عن عمل اخر، فكان في متجر يبيع الجعة، رغم ان العمل شاق ويتطلب جهدا بدنيا الا انه يقبل وينجح في اقناع المدير بقدرته وخلال عمله في المخزن المهمل والقذر يسعى لاكتشاف الحياة من جديد والعودة الي استعادة روح الشباب، على العكس يحول عمله البسيط والمكان الضيق المهمل الي شئ يحقق له متعة من خلال التلصص على اجساد المترددات علي المتجر من خلال شباك صغير في المخزن وتخيل نفسه معهن في حالة حب تماما كما يفعل المراهقون.

وفي الوقت الذي يبحث فيه العجوز الذي جسده الممثل زدينيك سفيراك عن الحياة من خلال العمل واستعادة شبابه ولو على المستوى التخيلي وبمغامرات مراهقة وحس ساخر ومواقف كوميدية لا تنتهي، يقدم لنا المخرج اكثر من شخصية ممن حوله تستسلم للكآبة وتنهزم امام احداث الحياة مثل زوجته (الممثلة دانيلا كولاروفا )التى تبدو متجهمة طول الوقت وتعبر عن احباطها بافتعال المشاكل معه بدون داع وتفكر طول الوقت في الموت ومصير ابنتها التعس، ونفس الاحساس او بالاحرى عدم الاحساس بالحياة تعيشه الابنة( الممثلة تاتيانا فيلهلموفا ) التى اغلقت كل النوافذ والابواب علي نفسها بعد طلاقها وانفردت بحزنها.

ومن خلال هذا التناقض فى تعاطي الشخصيات مع الحياة تبرز شخصية العجوز التى تمتلك نظرة تفاؤلية وروح التحدى والشجاعة، الذى ما ان يتخلص من الفراغ ويتحقق انسانيا من خلال العمل يسعى لتصدير هذه العدوى الى من حوله ومحاولة اخراجهم من شرنقة الحزن والتسليم للواقع السئ او لمرور الزمن، فيلفت نظر مديره السابق الذي صار صديقه الي ابنته، ولما لاحظ منه اعجابا بها يتفقان على كتمان سر ان اباها هو من يقف وراء وجود رجل من جديد في حياة هذه السيدة الشابة، وبعد محاولات مستميتة تقع فى حبه فتنقلب حياتها الى متعة وسعادة. رغم انها غضبت للحظات مما فعله ابوها الا ان غفرت له هذا "الخطأ الجميل" الذي لون حياتها بالفرح.

ولكى يسعى العجوز لكسر الروتين واستعادة حبه لزوجته بعد توتر شديد وجفاء لسنوات، لدرجة ان كلا منهما بدأ يبحث عن رفيق اخر خارج البيت، يتفق مع حبيب ابنته الجديدة على مغامرة اخرى تخصه وحده هذه المرة، اذ يصحب زوجته المترددة الخائفة دائما من اي تجربة جديدة في رحلة بالمنطاد الذي يفقد مساره ويسقط في البحر، وفي لحظة فارقة ذات دلالة تعبر عن ان الخطر او الاقتراب من الموت قد يكون دافعا للانسان ان يرى ما لا يراه من قبل او تناساه في مشوار الحياة الطويل ويشعر حينئذ بقيمة ما يملك ويسعى لاستعادة المفقود، تسقط الولاعة من حقيبة زوجته فيبادران الي الامساك بها معا،واشعال المنطاد الذي يحلق من جديد وهما في احضان بعضما البعض، مستعدين لحظات الحب الضائع ومشوار الحياة المشترك الذى يجب ان يكملاه.

ولم يكتف المخرج بهذه النهاية الرومانسية الرائعة، لكنه يعود ليؤكد لنا من جديد ان العمل قيمة في حد ذاته وان تحقق الانسان الحقيقي ليس في الحب فقط ولا في جو الالفة والتماسك الاسري وانما في العمل الذي يعطي للحب وللترابط الاسري قيمتهما ويحافظ على استدامتهما، فينهي بلقطة للرجل العجوز وهو يعمل كمساريا في احدى القطارات واسرته بصحبته.

واذا كان العنوان" الزجاجات الفارغة" يبدو غريبا بعض الشئ الا ان يتم استيعابه تدريجيا من خلال متابعة الفيلم، لنكتشف فيما بعد انه الاوفق والمعبر بدقة عن المغزى المقصود الا وهي حياة الانسان التى يمكن استعادتها او ملؤها وتجديدها من خلال العمل والعطاء المتواصل، مثل زجاجات الجعة الفارغة التى تسترد ليعاد تعبئتها من جديد، بدلا من ان تلقى في المهملات.

محمود عبد الرحيم
*كاتب صحفي مصري
Email:
mabdelreheem@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
المقالة
ranafwz -

السلام عليكم هذة المقالة جدآ رائعةوانا اقول للكاتب استمر على هذا الطريق ومن مقالة الى اخرى

زجاجة فارغة
مجرد رأى -

جميل إسم الفيلم و معبر و جميل ما يمتلكه هذا العجوز من طاقة متجددة وعدم استسلام فأنا مع هذه النوعية لكن الأجمل كان مقدرته على تغيير حياة من حوله ليستطيع هو الآخر ان يحيا بنشاط أنا مع القول بأن السعادة مثل العطر تفوح و يستنشقها الجميع فتدخل البهجة و الانتعاش الى النفس شكرا للكاتب

وكانني رايت الفيلم
شيماء صلاح -

التعليق اكتر من رائع وبه رؤية نقدية مدروسة الواقع جعلتني اشعر وكانني رايت الفيلم وليس مجرد اقرا القصةمقالك رائعارجو من ادارة الجريدة ان تمتعنا دائما بمثل تلك المقالات الممتعة القيمة ذات المغزي

النقد السينمائى
علاء -

انها الكتابة التى تقدم امتاعا وتحريضا على المشاهدة وكشفا لسينما لا نعرفهاوهى ترسخ لكاتب من قلائل يقدمون السينما من مدخل ثقافى واع بالسياسة والشعوب واعتقد ان الصحافة العربية لا ترحب بمثل هذا الموهوب بكتابته التى تزيح من امامها كتابات عن السينما لا تتجاوز انطباعات عابرة مغلفة بالسطحية ..شكرا للكاتب وارجو منه الا يستغرقه المضمون فى رؤية السينما على حساب قراءة الصورة وفضاء الضوء واللون

3an el mkal
radwa -

bgad nta kateb kter 7alw rban ywfa2k w tb2a mshhor