أصداء

كل مابقي في النهاية هو ذلك الوميض "كيبوش"

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أدناه مقالة مترجمة للكاتب والأديب والصحفي أحمد آلتان. وكنت قد أشرت في مقال سابق بأن السيد آلتان وافق على أن أترجم مقالاته الى اللغة العربية. ومهما كانت الترجمة دقيقة، فإنها لا يمكن أن تضاهي الأصل روحاً و رونقاً ونضارة، لاسيما في هذه القصة التراجيدية.

الترجمة:

فجأة ظهر أمامي كجني....هذا الصغير. رفيع،نحيف وطويل القامة قياساً الى سنه...شعره الأشقر المتجعد....قميصه الملوث وأقدامه العارية المتسخة السوداء. أول ما تلمحه عند التطلع الى وجهه هو ذلك الضوء المشع النافذ من عيونه.

ــ هل لديك ليرة؟ قال الصغير.
ــ تطلعت إليه وقلت: ماذا ستفعل بها؟.
ــ سأتناول الطعام.

كنا عدة أشخاص في طريقنا الى مبنى الصحيفة للتحضير للنشر، ولكن قررنا البقاء معه.

ــ هل أنت جائع؟.
ــ نعم.
ــ تعال...

دخلنا مطعماً فيه مقاعد بلاستيكية.

ــ هل يمكنكم الجلوس معي إذا كان لديكم وقت؟ قال الصغير.
جلسنا...

ــ ماذا تريد أن تأكل؟.
ــ معكرونة.
طلبنا من النادل معكرونة وكذلك هامبورغر.
ــ ماذا تشرب؟.
ــ كولا....لتكن ساخنة.....الجو بارد في الخارج.
ــ ما أسمك؟.
ــ كيبوش.
ــ أين تسكن يا كيبوش؟.
ــ في حي الغجر.قالها مبتسماً.
ــ كيف أتيت الى هنا؟.
ــ مع أختي آجر، أنها هناك، قليلاً إلى الأمام.....
ــ هل أنتم إثنين من الأشقاء؟.
ــ لا....نحن سبعة......آجر، محمد، زليخة، أنا، برهان، عادل...
توقف وضحك
ــ ماذا كان إسمه....يسائل نفسه...وأخيراً قال نعم إنه آدم.

جاؤوا له بالمعكرونة.....كان يجد صعوبة في تناولها بالشوكة...أحياناً يدفعها الى فمه بأصابيعه، وأحياناً يسحبها من خلال شهقات عميقة.

ــ أنتم تشعرون بالإشمئزاز...أليس كذلك؟.
ــ لا يا كيبوش...لا.
ــ أرجوكم أن لا تنزعجوا من سؤالي...من أين تأتون بهذه النقود؟. وتأتوا الى مثل هذه الأماكن وتأكلون؟.
ــ نحن نعمل
ــ تنهد من أعماقه وقال"أنا أيضاً أعمل".
ــ ما هو عملك؟.
ــ أنا شحاذ...
ــ ما هو مقدار ما تكسبه؟.
أخرج النقود من جيبه وعدها. كانت خمسة عشرة ليرة.
ــ أقف هنا يومياً من الظهر حتى المساء. أحياناً أكسب مئة ليرة في اليوم، قال كيبوش.

توقف مرة أخرى عن الكلام ثم قال: الله لا يحب الكذابين، أنا لا أكذب أبداً.
ــ نعم يا كيبوش أن الكذب عادة سيئة.
ــ في مرة من المرات أعطتني جماعة خمسين ليرة لقاء الرقصة التي رقصتها لهم.

بدأ الرقص وهو على كرسيه. يتطلع إلينا. نحن أيضاً كنا ننظر إليه صامتين. وفجأةً توقف عن الرقص. إحساسه كان يوحي إليه بأننا سنعطيه نقوداً كثيرة...

لقد شعرنا بأنه كان يعاني من التردد بين طلب الحصول على مزيد من النقود أو أن يخسر هذه "الصداقة"الحميمة التي حصلت بيننا.
لقد رجّح في قرارة نفسه عدم طلب المزيد من النقود.
ــ هل أفتح لك علبةالكولا؟.
ــ لا... أنا سأفتحها.
كان شغوفاً بفتح العلبة بنفسه، وتمكن بفتحها بعد جهد بسيط.
ــ كم هو سنك؟
ــ ثمانية...............
ــ الهامبورغر يبرد هل تريد أن ألّفها{أي على شكل صندويتش} لك؟.
ــ نعم.

كان يأكل المعكرونة بتؤدة، ويتنهد بين الفينة والأخرى.
ــ هل من الممكن أن تلّف المعكرونة أيضاً؟.
لففت له العكرونة ودفعت الحساب
ــ كم دفعت؟ قال كيبوش.
ــ عشرين ليرة.
ــ أف....إنه كثير.

أعطيته عشرين ليرة. وقف مشدوهاً وتنهد من الأعماق. أغمض عينيه نصف إغماضة كأنه يقوم بعملية حسابية في ذهنه وقال: ــ صار عندي الآن خمسة وثلاثون ليرة. هذا يكفي لهذه الليلة
خرجنا سويةً وقبّلنا كيبوش واحداً واحداً.........مضى بأقدامه العارية وغاب في ظلمة الليل.

لقد شاهدنا ذلك الوميض الذي يلمحه الإنسان عند إلتقاء قطارين في واد سحيق ينهبان الأرض في أقصى سرعة ولا يرى المرء غير ذلك الضوء في تلك اللحظة الآنية. هكذا كان لقاؤنا بكيبوش. لقد لمحنا ذكاءه وإحاسيسه، وتلك القدرة الغريبة لديه لتقبل واقع الحياة وهو لايزال طفلاً، تلك القدرة العجيبة لمعرفة ذللك الخيط الرفيع الفاصل بين الصراحة والكذب وبين الرياء والصداقة وتردده فيما بينها.......شاهدنا حبوره ونشوته وكذلك وحدته.....

كان عمره ثماني سنوات.....في تلك الليلة كان سعيداً بليراته الخمسة والثلاثين وكذلك بقدميه المتسختين العاريتين. كنا نعرف أنه يمكن تغيير قدره هذا، ولكن ما حز في النفس أننا لم نكن نملك القدرة على ذلك. سكتنا.......وبقينا ساكتين......... ولمدة طويلة. لم يبق من كل ذلك غير ذلك" الوميض ــ كيبوش" في أفئدتنا بأقدامه العارية، وغير ذلك الشعور بالحنق على هذا العالم........

إنتهى المقال.

بعد قراءة المقال بدى أمام ناظري منظر هذا الطفل الجائع والعاري القدمين بأسماله البالية.....ولكن وفي نفس الوقت منظر الإحتفالات بتلك الاعياد القومية في دول العالم الثالث حينما تسير تلك المواكب وفي مقدمتها فرق الجيش والموسيقى مع لعلعة صراخ المذيعين وهم يطلقون تعابير الزهو الرنانة وتلك الأكاذيب لما وصل اليه البلد من التقدم والقوة والسؤدد، أمام زعيم ينوء تحت أثقال النياشين والأوسمةــ التي نالها في ميادين الغدر واللصوصية، سارقي طفولة كيبوش ــ وكأنه خارجاً لتوه من مشفى المجانين.....بينما الملايين من أمثال كيبوش في كل بيت وشارع......

صدقت يا مظفر النواب:

أزعماء أنتم...divide;divide;divide;...divide;divide;.....أنتم....

هذا الشعرالى كل حكام تلك الدول التي فيها أطفال مثل كيبوش يسيرون عراةً وينامون جياعاً. كلكم لا تساوون ذرة من ذلك التراب الذي تسير عليه أقدام كيبوش الغضة والملايين من أمثاله ذوو البطون الخاوية.

ألم يحن الوقت لكي تبجث الإنسانية عن بدائل لهذا الواقع المر؟.


بنكي حاجو
طبيب كردي ــ السويد
bengi.hajo@comhem.se

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف