حرب تموز 2006: بعض ما لم يروَ عن صيدا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أفلفش أوراق الحرب.. أقع على صفحات سودتها كلمات دلال.. كانت المتطوعة الشرسة قد وصلت فجأة في يوم عاصف بالقذائف المنهمرة على الضاحية الجنوبية لبيروت، كانت قد قطعت الطريق الساحلي المعرض للقصف في كل لحظة لتحط رحالها هي وكيس أدوية حصلت عليه من إحدى الجمعيات على الكرسي الحديدي في مدخل المكتب الصغير، احتضنت دلال الكيس وكأنه ابنها.. نظرت إلى وجوهنا المنتظرة خبراً عن صيدا لم يرد في التقارير المقتضبة، المكتوبة بخط اليد، التي تلفظها ماكينة الفاكس بين ساعة وأخرى.. "هيدي أدوية لازم توصل اليوم!".
دلال إن تحدثت
تمر دقائق قبل أن ترتاح المرأة الجنوبية التي زادتها شمس تموز سمرة.. تأخذ مجة طويلة من سيجارتها. يخرج صوتها متهدجاً: "من أول يوم اجتمع الزميل عبد الكريم برئيس البلدية، عملوا مطبخ للنازحين، أنا طلبت اتطوع، ونزلت ع البلدية". كان مبنى بلدية صيدا محطة للنازحين المتوافدين على المدينة الصغيرة، وكذلك معبراً لعشرات الآلاف الذين أكملوا مسيرة نزوحهم شمالاً، وكان رئيس بلدية المدينة الدكتور عبد الرحمن البزري، يطل وجهه من بين عشرات الوجوه كل لحظة، راكضاً هنا، متحدثاً هناك، "يسّر أمر الناس يا..". حالة الصدمة التي تعيشها صيدا، ونحن نستحضر الأيام الأولى للنزوح، اختزنها البزري ليل نهار، وحاول أن يعطي مساحة للبسمة النادرة بين حين وحين.
"في اجتماع اللجان والجمعيات، بدأ عملنا كمجموعة من المتطوعين النازحين، وصل عددنا إلى سبعة في اليوم الأول. كان عملنا ملء الاستمارات التي أضفنا إليها خانة الإعاقة.. لم أستطع البقاء خلف الطاولة، كنا نأخذ الأولاد القادمين من تحت القصف إلى الحمامات نغسلهم.. نتعامل مع النساء الحوامل، نستعمل سيارات البلدية لإيصالهم إلى مراكز النزوح في المدارس.. كان الوضع صعباً.. مأساوياً، طوابير من الناس.. لم تخرج من تحت الدمار شيئا.. آلاف البشر.. حتى وصلني خبر مجزرة الزرارية". هنا توقفت دلال عن الحديث، نظرت إلى السقف القريب، ثم إلى الجدار.. تغير صوتها وهي تضيف "صار عندي انهيار عصبي.. بقيت في المستشفى يوماً كاملاً.. لم أتحمل".
عيد ميلاد إبراهيم
سجلت دلال رقم "دار السلام"، وهو مشفى للمسنين في صيدا، من على سيارة الدار المتوقفة قرب البلدية لتبدأ رحلة الإحالة. "في حالة الطفل إبراهيم، لديه لوكيميا وشلل رباعي، وكان في ذكرى ميلاده الـ12 .. أرسلناه إلى الدار، قالوا هم تكفلون بالمنامة، والمتابعةن لكن الأدوية والحفاضات غير متوفرة.. أدويته مفقودة في صيدا، أخبرتني عمته أن أباه كان ياتي له بالأدوية من بعبدا، اتصلت بطبيبته، قالت أمنوا لي الفراغات (علب الأدوية المستعملة)، كي أؤمن له الأدوية لمدة شهر.. توجه الزميل المخرج ماهر أبي سمرا بالفراغات إلى بيروت، ثم قام الزميل علي بلال بإيصال الأدوية إلى صيدا..". كانت الكيلومترات الأربعين من صيدا إلى بعبدا ثم إلى صيدا محفوفة بالنار.. كل ما رصده الإسرائيليون متحركاً تم قصفه.. مع وصول الأدوية إلى إبراهيم تحول ليل دار السلام إلى عيد.. عيد ميلاد طفل، زين المتطوعون طابق المسنين بالبالونات، اجتمعوا مع إبراهيم لقص قالب حلوى كبير يكفي لكل سكان الطابق مع الزائرين المرهقين نهاراً.. وصدح صوت الزميلة أمل كعوش الملائكي في عتمة المدينة ليغطي على أصوات قنابل الهمجية.. غنت أمل، وهي كاسمها، لحن الحياة في زمن الموت.
"تركوه خلفهم"
أحال المشروع الأطفال المعوقين زين العابدين وحسين وأمل إلى الدار، لكنهم كانوا يتحدثون عن أخ آخر لهم.. "لم يستطيعوا إجلاءه.. تركوه تحت القصف، لديه إعاقة ذهنية"، تقول دلال: "تكلمت مع البلدية وتجمع الجمعيات، انتظرنا إجلاء أخيهم.. تعرفت يومها إلى الصحافية ليال نجيب التي واكبتني في هذه المهمة". ووصلت أخبار كثيرة عن عدم إمكانية إجلاء أشخاص معوقين حركياً جنوبي الليطاني، فتركوا ليواجهوا أسوأ النهايات وحدهم. لكن للشاب المعوق محمد م. حكاية أخرى.. تقول دلال: "كنت في دار السلام عندما وصل شاب وهو يصيح.. عندي خي أخوت بصندوق السيارة".. هرع المتطوعون إلى السيارة المرتاحة أمام مبنى البلدية وكانت قد استمرت رحلتها ليومين كاملين من عيترون المنكوبة إلى صيدا بين النيران.. أضاف الشاب، وقد بدا عليه الإحراج أمام الوجوه المترقبة لفتح الصندوق: "الوضع كثير صعب، حملت معي عائلتين بالسيارة".. تتسع حدقتا دلال وهي تحكي عن منظر محمد داخل الصندوق متروكاً في بوله ووسخه.. "شو بدي أعمل. بنزله هون قدام البلدية؟ كان منظره مخيفاً. اتصلت بالاسعاف الشعبي وبدار السلام.. بدي ابعتلكم حالة صعبة. حمله الشباب وأخذوه إلى الحمام، أمنت ثياباً نظيفة ومناشف..". لكن، بعد أيام قليلة، لم يعد بالإمكان أن تستقبل الدار أحداً فقد احتشد فيها النازحون جنباً إلى جنب مع المرضى المقيمين.. تعود دلال إلى محمد، يعرفها، "يؤشر بيديه، فهو لا يستطيع الكلام، وفي اليوم التالي عرف أنني قدمت إلى الدار ولم يرني رمى بنفسه عن التخت وصار يضرب الأرض بالشحاطة"، تهرب دمعة من عينيها، لدى محمد شلل دماغي وتشنجات دائمة زادتها الحرب حدة.. "بدك تحضنه.. لكن مافيك.. ما بيهدا".
الإغاثة الشعبية
منذ اليوم الأول للعدوان بدأ فرع الجنوب انطلاقاً من مدينة صيدا العمل على إغاثة النازحين، فتشكل من الأسر النازحة الفريق التطوعي الأول. سرعان ما تبعت هذه المجموعة مجموعات رديفة حتى تعدّى عدد المتطوعين الخمسين في أواخر شهر تموز. التحق المتطوعون بالحملة التي نظتمها بلدية المدينة، وسمّيت بحملة الإغاثة الشعبية.
عمل الاتحاديون على استقبال النازحين، تعبئة استماراتهم، تحويلهم إلى مراكز النزوح، ومحاولة استخلاص النازحين المعوقين من بينهم؛ وتم التنسيق مع الجمعيات والمنظمات والمؤسسات في المدينة لتأمين المواد الغذائية ومواد التنظيف والمستلزمات الطبية؛ لسداد حاجات النازحين. وقد اصطدم عمل المتطوعين منذ البداية بعقبات، منها إهمال من قبل اللجان المختصة بالإحصاء، وتجاهل حاجات الأشخاص المعوقين. تحت وطأة هذا الضغط، وعدم إمكانية التأكد من إيصال المساعدة إلى المستهدفين، افتتح مستودع في المركز لتوضيب الحصص الغذائية التي حصل المتطوعون على معظمها من خلال تقديمات، وعقدت في المركز اجتماعات مع عدد من جمعيات المجتمع المدني، بالإضافة إلى انه شكل معبراً لكثيرين من النازحين الذين تم جمع شملهم بعائلاتهم. وتشكلت المساعدات العينية من المواد الغذائية ومواد التنظيف والمستلزمات الطبية، والمعينات الطبية الخاصة بالأشخاص المعوقين، والكراسي المتحركة وفرش الماء وكراسي التواليت البديلة... وكانت توزع على النازحين في المدارس، البيوت. تميز العمل في مركز الجنوب بتقديم خدمات المعاينة الطبية بعد تطوع د. رفيق الأمين، وهو طبيب مختص بالجراحة العامة وذو خبرة طويلة، بتاريخ 27 تموز. فقام بإعداد لائحة بالأدوية والمواد والمستلزمات الطبية اللازمة وأمن معظمها عبر جمعيات ومؤسسات ومستوصفات. تجاوز عدد الذين تم الكشف عليهم وصرف وصفات طبية لهم 500 حالة في مراكز تجمع النازحين والمنازل، وداخل مركز اتحاد المقعدين اللبنانيين، وتم تأمين الأدوية المطلوبة.
على صعيد التعامل مع بعض المستشفيات، فقد صارت ورقة الاتحاد الممهورة بختمه بمثابة تعريف عن المريض يكفي لاستقباله في المستشفى وتقديم المساعدة الطبية اللازمة له، لاسيما أن الاتحاد صار يعرف بالجهة الوحيدة المسؤولة عن العناية بالأشخاص المعوقين في المدينة. وبالتالي تم تأمين أسرّة لعدد من النازحين، واستشفاء عدد آخر بينهم متطوعين. وقد تميز دور المتطوعة دلال مروة في التعامل مع المستشفيات.
جمع الشمل
"لم يحصل أن طرق باب الاتحاد أي صاحب حاجة، سواء أكان معوقاً أم لا، إلا وعمل الفريق على تأمين هذه الحاجة". تعددت الحاجات فموقع صيدا الجغرافي جعلها صلة وصل بين الأماكن المدمرة من جهة وأماكن نزوح آلاف الأسر شمالها، فرض على المركز، أن يلعب دور لمِّ شمل العائلات بعضها ببعض، وإيواء كثيرين من غير الأشخاص المعوقين. فقد تم احتضان عائلة حسين نجدي الناجية من مجزرة صريفا في 19 تموز، والتي فقدت كل من علي حسين نجدي وأحمد سليم نجدي والطفل علي نجدي في تلك المجزرة. وكذلك تم جمع شمل عائلات كثيرة والاهتمام بحاجاتها الصحية، والتكفل بنقلها إلى أماكن وجود الأهل والأقارب، بالاضافة إلى حالات كثيرة استدعت نقلاً من أماكن القصف الى مدينة صيدا. وقد نقل أكثر من 130 نازحاً من بلدة الزرارية إلى مدينة صيدا بمساعدة مؤسسة الحريري ومتطوعين اتحاديين. وتم تصوير فيلم وثائقي لحركة يوم في المركز بواسطة الزميل الصحافي حسن حنقير لوكالة رويترز، وريبورتاجين صحفيين لقناة الجزيرة أجرتهما الزميلة بشرى عبد الصمد، ومن الصحافة المكتوبة الزملاء الصحافيون فاتن قبيسي، وثائر غندور، ووفيق الهواري. ومن الجدير ذكره توثيق بالكاريكاتور لبعض يوميات العمل في المركز بريشة الزميلة أمل كعوش.
مع دلال مجدداً
تروي دلال حكاية أيام الحرب.. تغمض عينيها على مشاهد لم تستطع أن تقدم فيها يد المساعدة.. "رأيت حاجة في الثمانين من عمرها لديها رجل مبتورة، تستند إلى جذع شجرة أمام البلدية، كان زوجها قد حملها إلى الفيء بعد أن أعلم أن طبيب أحد المستوصفات لم يصل.. وهي بحاجة ماسة إلى حقنة من الأنسولين.. اتصلت بالنجدة، وتم تأمين الجرعة.. ركضت إلى الشجرة لأضربها الإبرة (لأعطها الحقنة)، فلم أجدها.. بحثت في الاستمارات.. ولم أجدها.. شو صار فيها ما بعرف، بس ما حصلت على الانسولين". ثم ينتصر صوتها لطفلة استطاعت تحريرها.. تقول: "في إحدى المدارس رأيت طفلة مربوطة بسلسلة معدنية إلى أحد الأبواب، حتى أنها تدخل الحمام وهي مربوطة كذلك.. لم يتجرأ أهلها النازحون على فكها بعدما طلبت منهم.. قالوا إن المسؤولين عن المدرسة قد يلومونهم ويطردونهم، والطفلة، ذات السنوات التسع لديها إعاقة ذهنية، وقد تكون شرسة، وقد تخلع ثيابها وتفلت على الشارع".. جلست دلال إلى جانب الطفلة.. تضيف: "كان معي مجلة واو، مزقت ورقة وأعطيت المجلة للطفلة فصارت تمزق أوراق المجلة، تحدثت دلال مع الفتاة.. "رح فكك" حررتها من السلسلة المعدنية.. ضمتها إلى صدرها.. فقبلتها الفتاة.
ومع اكتظاظ مراكز النزوح والساحات، وجد النازحون ملجأهم في بيوت المتطوعين الصيداويين، ففتحت أبواب عبرا، حارة صيدا، حي الزهور، شارع دلاعة، ساحة الشهداء، والضواحي.. شبان وشابات عاشوا داخل الجرح وبلسموه.. أذكر منهم عبد الكريم سرحان، حسن مروة، نمر مدلج، فوزية سليمان، غازي زين، حسن ديراني، علياء زين، كاتيا زين، زينب زين، ميسم زين، محمد خالد، بتول سليمان، لوزان سليمان، يونس بيرم، محمد الخطيب، علي قاسم نوح، عماد تركي، رضا مروة، بيسان مروة، فاطمة قانصو، دلال مروة، أنور مروة، عطاف حجازي، نوال الدنان، حسام شريتح، علي معنقي، حسن مقلي، بلال الصباغ، أحمد الصباغ، حسام الميعاري، نوفل بكور، ماهر بكور، علي حمدان، سامر بصار، مريم مشعرون، إخلاص مشعرون، مرفت حسنين، إيمان بديع، أمل كعوش، محمد بيرم... ربما ضاعت مني أسماء كثيرين، لكن لدلال وأخواتها.. إلى جهودهم المباركة المجبولة بعرق العزة...
عماد الدين رائف
التعليقات
يا ويلاه
musa aziz -هذا ما جناه عليكم السيد حسن نصر الله و أيران فهل أنعظتم.