بين رفح وقلقيلية.. كيف يذبح وطن؟؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مقدمة لا بد منها
اعلم أن بعد قراءة هذا المقال، سيغضب الحمساويون والفتحاويون على حد سواء، سيختار لي كل فصيل نعتا يتفق وأدبيات خطابه الإعلامي والتنظيمي حول معركة الأخوة الأشقاء، لكني على يقين أن دم الفلسطيني على الفلسطيني حرام، وان الثورة التي تنحرف بندقيتها عن صدر عدوها هي ثورة مشبوهة، وان شر الرعاء الحطمة، وان فلسطين تستحق منا الرحمة لدماء شهدائها، وان معركتنا الحقيقية في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى، وان صورة الفلسطيني أمام مناصرينا من العرب والعجم شوهت وساءت، وان المستفيد الوحيد من دمنا المراق بأيدي بعضنا هي إسرائيل والحركة الصهيونية في كل مكان في الأرض، وأننا نمنح عدونا راحة طويلة يسرق فيها أرضنا وخير ما في حاضرنا ومستقبلنا.
إنني مواطن فلسطيني لي أطفال صغار، أريد أن اخبرهم عن فلسطين ..تاريخها، جهادها، جغرافيتها، رموزها، روابيها ومروجها، وارض أبي المسروقة فيها، أقول لهم عن الوطن الفسيح قبل أن تخنقهم رايات الأحزاب، وقبل أن تصم آذانهم مكبرات الصوت لسيارات الإذاعة الحزبية في شوارعنا؟
في هذا المقال لا أهاجم أحدا.لكني أدافع عن حق شعبي في كرامته، وأمنه، وحريته، فان كانت فلسطين ستعود بهذه الطريقة التي نقتل فيها بعضنا بعضا ونعذب بعضنا بعضا، فإننا لسنا بحاجة لمثل هذا التحرير عطفا على القاعدة الفقهية"درء المفسدة خير من جلب المنفعة".
على بوابة الجنوب
في غزة، في أقصى جنوبها وجنوب فلسطين، حيث يقطن رفيقي في النضال، وصديق العمر صلاح العويصي، نموذج للفدائي المخلص، ومثال للعطاء، يتحرك مثل حصان أصيل في ساحات الوغى، مواقفه مباشرة وصريحة، يتميز بثباته في المواقف المبدأية التي يقتنع بها، واحد أنشط الكوادر الفتحاوية وأكثرها كثافة في إنتاجيته النضالية، صلاح منذ الانقلاب في غزة وهو يتعرض لعملية ملاحقة مستمرة من الحكومة المقالة، يتم استدعائه تارة، واعتقاله تارة أخرى، واستجوابه تارة ثالثة، واعتقاله تارة رابعة، لا يتوقف العبث بأمنه الشخصي وملاحقته المستمرة، في الغالب اعرف أحواله من شريط الأخبار التي تشير إلى اعتقاله أو ملاحقته الأمنية.
اعرف صلاح وطنيا مخلصا، يؤمن بالمقاومة، ويبحث دوما في أحلامه الوطنية عن حركة منضبطة تحكمها الشفافية والالتزام بمصير الوطن، طاهر اليد، لم تمتد يده بالغدر يوما لخصومه السياسيين، لم يكن من مرتزقة الثورة وأزلامها، ولا رهن كرامته الشخصية نظير منصب أو مكانة، له شعبيته وحضوره في أوساط البسطاء، لم يجاهر العداء لأي فصيل فلسطيني بما فيها حماس، ولم يشتبك حتى في مجد السلطة الفتحاوية مع أي عضو من أعضاء المقاومة.
انه فلسطيني فتحاوي يستكمل دوره في مشروع نضالي امن به منذ أكثر من عشرين عاما، صلاح حالة فتحاوية نقية ومشرقة، وهو ليس الحالة الفردية الوحيدة من أبناء فتح في قطاع غزة، لكنني أقدمه كنموذج للفتحاويين في غزة الذين يتعرضون للملاحقة، وهم غير آمنين في بيوتهم على أنفسهم، وأرواحهم، ولا على لقمة عيشهم، ربما أكثر ما يدمي القلوب الاستخدام الإعلامي الذي تقوم به حماس بان أبناء فتح هم طابور خامس، ليسمح هذا الخطاب التشويهي للأجهزة الأمنية للحكومة المقالة وفتية الحركة المتأهبين بممارسة سلوك قمعي من طراز مقيت ضد أبناء فتح، إن المهانة التي يلقاها أبناء فتح ليست عارا على الأجهزة الأمنية فحسب، إنها بقعة عار ستظل ملطخة في صفحة تاريخنا الفلسطيني، حينما يكتب هذا التاريخ المر كيف تحترف الحكومة اهانة الشرفاء في كرامتهم، أمام زوجاتهم وأطفالهم وإخوانهم وأهلهم وجيرانهم، وتستنزف آخر ما تبقى من إيمانهم بوحدة المصير.
قلبي يؤلمني على صلاح كلما امتدت إليه بنادق الحاكمين في غزة، ومعه المئات من أمثاله.
قلقيلية في الضفة الأخرى
الأستاذ حماد رجل في أواخر الستينات من عمره، شاهد من عصر التيه والتهجير الفلسطيني، عمل بعد النكسة متنقلا كمدرس في الكويت والأردن، قبل أعوام أراد أن يحط رحالة في فلسطين بعد عمر كبير قضاه في رحلة الغربة والبحث عن لقمة العيش المغمسة بمرارة الاغتراب، عاد إلى قلقيلية بعد أن تقاعد، وأراد أن يرى أبنائه يكبرون في روابي فلسطين وبين أحضان أهلهم.
ابناؤه محمد ومحمود اعتقلوا بسبب نشاطهم السياسي النقابي لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبعد أن أفرج عنهم تم اعتقالهم مرة أخرى من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة سلام فياض. انه نوع من الاعتقال السياسي الاحترازي التعسفي.
الرجل الستيني لم يستطع الاحتمال، أصيب بجلطة، ولم يعد يقوى على الكلام، ما اعلمه ومتأكد منه أن هذا الرجل الكبير، الإنسان الفلسطيني، رمز الأرض، ومفتاح البيت، وهيبة الكبير، والذي بلغ أرذل العمر وأراد أن يعود إلى وطنه ويربي أولاده بين أهله وناسه، يقضي هذا الرجل أيامه ببكاء مستمر لا يتوقف على ولديه.بكاء يشبه النحيب الذي يقطع القلوب، ويدمي المواجع، ويجرح نفوسنا الحرة.
ان الاستاذ حماد المصاب بالجلطة ، وبعد غربة امتدت أكثر من ثلاثين عاما خارج فلسطين، ينهي حياته الآن باكيا على فلذات كبده، وزادت عيناه دمعا حينما عجز لسانه عن الكلام.
ان الذي مزق قلب رجل مسن ومريض باعتقال أبنائه، لا محالة لمقابل ربه؟ وحتى في حياته كيف سيشعر بوطنيته؟هل تستمر حالته الرجولية؟انه ينتهك بوحشية آدمية الفلسطيني الذي قضى عمره مغتربا لينتهي أمره باكيا في وطنه على أبنائه الذين أخذوا بغير سبب سوى سياسة إنهاء المقاومة أو الرهبة من الخصوم والمعارضين؟
ملاحظة ختامية
في تخوم غزة أو الضفة ترتكب الجرائم، تختلف المشاهد والسيناريوهات، لكن الضحية الإنسان الفلسطيني الذي يشبه صلاح العويصي أو الأستاذ حماد، إن الأصوات التي ترتفع للمقارنة بين ما يجري هنا أو ما يجري هناك عليها أن تستحي من نفسها وتشعر بالعار، لان المساس بالفلسطيني في أي مكان وتحت أي راية هو مساس بالوطن، الفلسطيني هنا أو هناك، هو الفلسطيني ابن أبي وأمي، ابن ارضي، ابن ديني، حينما نبدأ بالقتل أو القتل المضاد، فلا أمل لنا ببناء وطن أو زراعة شجرة أو تحرير شبر من أرضنا.
ان الوطن اكبر من الأحزاب، رايته مجدنا، انه بيتنا وسماؤنا، فرحنا وحلمنا، انه الحلم والانتماء الذي نعلمه لأولادنا، وما أسوأ أن نخنقه برايات حزبية باهتة، وفئوية كريهة تذبحه من الوريد للوريد.
ما لا يمكنني أن افهمه، أن قراءة بسيطة وغير معقدة لكل تجارب الشعوب و ثوراتها في الحروب الأهلية أنها لم تفض إلا لنتيجتين ثابتتين لم تتغيرا في أي تجربة إنسانية، النتيجة الأولى أن الألم عميقا وموجعا وقاسيا للضحايا وذويهم من أبناء الوطن الواحد، والثانية أن كل الحروب الأهلية لم تنته بإبادة قوة وانتصار أخرى، كان الجميع يخضع في النهاية -حتى لو تفوق طرف على آخر عسكريا أو عدديا-إلى عملية اتفاق سلمي تنهي الأزمة وتوقف نزيف الدم الوطني.
كم سنة سننتظر كفلسطينيين أن تنتهي حربنا الداخلية الحقيرة؟كم سنة سننتظر خطباء المساجد في غزة وهم يعلنون حربهم على المرتدين من أبناء فتح؟وكم سنة سننتظر كوادر فتح وهم ينبهون من خطر الملتحين من حماس؟متى ستتوقف مقايضة التعذيب بين الشقيق وشقيقه؟؟
إن كل يوم يتعرض فيه صلاح للملاحقة عار على حماس، إن كل لحظة يبكي فيها حماد لحظة عار على فتح؟إنها نار العار التي تحرق النافخين فيها .وتسد أحلامنا علينا بما رحبت، وتهشم إحساسنا بالوطن الذي مات ويموت وسيموت من اجله خيرة أهل فلسطين.