أصداء

الجنوب العراقي و کوردستان: کلام في الوجد و الانسان

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

(3 ـ 3)
بغداد، تلك المدينة التي ترکت أثرا کبيرا في فکر و وعي مختلف المثقفين العرب و الکورد، لم أك لأتمکن من عدم زيارتها بين الفينة و الاخرى، کل زيارة ترکت أثرا و ذکرى في أعماقي. وقد کانت احدى الزيارات بمعية طيب الذکر عبود عبدالحسين، حيث إتفقنا أن نلبث لبضعة أيام في بغداد ثم نغادرها بعد ذلك سوية الى مدينته(وللأسف لحد الان لست متأکدا ماإذا کانت الديوانية أم السماوة)، وقد حط بنا الرحال في فندق سرجنار بشارع الجمهورية الذي کان يديره والد لأحد أصدقائي الکورد، و ذهبنا معا الى احدى مسرحيات فرقة المسرح الشعبي(مسرح الستين کرسي) ولبالغ الاسف لاتسعفني الذاکرة بإسم تلك المسرحية وکانت من أخراج الراحل الدکتور عوني کرومي، وعندما إنتهت المسرحية أصر عبود على أن نبارك للدکتور کرومي، وماأن صرنا أمامه حتى وجدت عبود يبدأ بنقد غير عادي للمسرحية(!!!) و قال بأنه قد شاهد مسرحيات أرقى و أفضل في السليمانية وکلام آخر کثير للأسف أجد صعوبة في تذکرها، لکنني أتذکر جيدا تلك الابتسامة اللطيفة للدکتور عوني وهو يسأله في البداية: أنت خريج أي سنة؟ لکن عبود أجابه بکل بساطة انه مجرد هاو للمسرح و هو طالب جامعي بإختصاص آخر، وأذکر ان المرحوم الدکتور کرومي نظر إليه نظرة إعجاب وهو يتقبل بعضا من نقده و يناقشه على البعض الاخر، ولما کنت في تلك الفترة تحديدا أکتب في النقد المسرحي فقد أذهلني عبود ليس لموقفه الجرئ وانما لانني أدرکت ان له باع يشهد له في مجال المسرح الذي بهرني أکثر انه لم يدع يوما بکونه متبحرا بهذه الصورة في المسرح، وليس هذا دفاعا عن هذا الجيل الذي أنتمي إليه لکنني أجد من النادر أن تجد هکذا نماذج في يومنا هذا. الغريب في الامر، أننا بعد أن قضينا بضعة أيام في بغداد معا، لم تجر الامور کما کنت أتوقع، حيث فاجأني عبود بموقف غريب لم أفهم شيئا منه وقتها عندما رفض أن يصطحبني معه الى مدينته، من دون أن يعطي أي تفسير او تبرير لموقفه والحق انني شعرت بشئ من السخط و الامتعاض عندما عدت أدراجي للسليمانية. وماأن عاد عبود الى السليمانية بعد فترة، حتى همس في أذني في مقهانا الصغير قائلا:( أخي الکبير يکره أصدقائي و لهذا لم أشأ ان أسبب لك الاذى، هل تعذرني؟ أکيد تعذرني!) وکان عبود يشتهر بترديده الاجابة عن مخاطبه وأذکر انه طبع قبلة رقيقة على خدي وهو يربت على کتفي!
وفي زيارة أخرى لي لبغداد مع الناقد الراحل اوميد ئاشنا الذي کما أسلفت کان يتکلم عربية رکيکة، صادف أن کنا جالسين في احدى حانات شارع ابو نؤاس المطلة على نهر دجلة، ويعرف کل من صادق اوميد براعته في قراءة القصائد الشعرية عموما ولاسيما قصيدة درويش عبدالله للشاعر عبدالله کوران، وکنت أستمع إليه وهو يقرأ القصيدة باسلوبه اللطيف عندما أبصرت على يساري شابا اسمرا کان يجلس لوحده على طاولة وقد تسمرت عيناه في اوميد والحق إنني لم أعره إنتباها يذکر و إنصب اهتمامي على إلقاء زميلي و جلستنا الهادئة، لکن اوميد ئاشنا الذي کان يغلب على طبعه شئ من الانفعالية بدا وکأنه يشعر بشئ من الانزعاج من تلك النظرات غير العادية، ولاادري تحديدا لماذا، لکنني فجأة غادرت الطاولة لثمة أمر، وعندما عدت بعد قليل فوجئت بأوميد ئاشنا وهو واقف أمام ذلك الشاب الاسمر وهو يکلمه بصورة تبدو غير طبيعية، وصعقت للمشهد و هرعت مسرعا لأجد صديقي يخاطب ذلك الشاب بکل حدة و إنفعال: إزا أنتي أمن لو إستخبارات ياخز آني بالکلبجات بس لاتسوي مراقبة لانه يسويني مخبل! وصرخت في اوميد کي أعيده الى رشده وفي نفس الوقت إعتذرت من الشاب الذي بدا في غاية الهدوء و اللطافة وهو يرجوني کي أدعوه يفرغ ما بداخله من غضب، وهنا نبهت صديقي ئاشنا الى إحتمال ان يکون هذا الشاب اديبا او مثقفا، وعندها هدأ بعض الشئ وهو يتسائل من أين علمت بذلك، لکن الشاب باغتنا عندما قدم نفسه بلباقة کبيرة وهو يمد يده نحونا قائلا: عبدالجبار عباس، أحد المغرمين بدنيا الادب و الثقافة! نعم، عبدالجبار عباس ذلك الناقد العراقي المعروف الذي غادرنا في بدايات التسعينيات من الالفية الماضية، وحاولت بکل جهدي أن أبرر تصرف صديقي و إنفعاله، لکن المرحوم عباس قاطعني بکل هدوء و هو يقول: لاتبرير للثورات العفوية فهي أصدق و أنقى لحظات التعبير الانساني. وبعدها أصر على دعوتنا لطاولته لکي نقضي بقية تلك الليلة البغدادية معه. وکل الذي أتذکره أننا قضينا وقتا لطيفا جدا وکانت بحق ليلة من ليال العمر سيما وان محدثنا کان معروفا بثقافته الکبيرة و يمتلك اسلوبا بديعا و جميلا في التعبير و خضنا معه نقاشا لطيفا تبادلنا خلاله الکثير من الآراء و التصورات المختلفة.
لکن شدة تعلقي و شغفي ببغداد، لم يکونا حائلا أمام حب آخر طفق يترعرع في أعماق وجدي تجاه جنوب العراق، تجاه الاهوار، الوجوه السمراء و العيون السوداء، للمشحوف و البردي و البوذيه zwnj;و الدارمي و عرائش القصب و قيض النهار و لسعة برد الليل وحتى بعوضه الشرس، أکتشفت هناك الانسان ببساطته و طيبته و عفويته و تلقائيته، بحيث تدرك من فورك کنه الاصالة الانسانية في محتواه الداخلي وکم يحب التواصل مع الضيف أو أي طارئ عليه. ومن أجل ذلك، فقد کنت لاأتمکن من زيارة بغداد من دون أن أردف تلك الزيارة بنظيرة لها الى أحدى مدن أو قصبات الجنوب حيث الانسان على بساط الشفافية، وأعترف بأن تلك الزيارات قد مکنتني من فهم الکثير من المفردات الشعرية في اللغة العراقية(الجنوبية)الدارجة، والتي کنت أحفظ الکثير منها عن ظهر قلب، لکن الذي حز و لازال يحز في نفسي هو أنني زرت معظم مدن الجنوب العراقي بإستثناء مدينة السماوة التي طالما سنحت لي الفرص لزيارتها لکن ثمة امور طارئة کانت تحول دوما دون إنجاز ذلك الحلم، وحتى إنني أتذکر بأن الصديق عبدالکريم رسن، قد تعهد بأن تتم إستضافتي معه في احدى المضايف هناك، وهنا تحضرني کلمة جنوبية دارجة کنت أستخدمها(الى جانب کلمات أخرى مشابهة مع اولئك الاصدقاء من الجنوب العراقي)، وهي کلمة"کليط" وتعني کبير القوم أو سيدهم بحسب ماأذکر، وکنا نقول من باب المداعبة و المزاح عندما يحين اوان دفع حساب شرب الشاي أو أي شئ آخر، ألا هل من رجل يقول أنا الکليط؟ ووللحقيقة أقول أن"الکلاطة"کانت دوما من نصيب الشاعر کوران مريواني وحتى انه وفي احدى الليالي هاتفته من النادي عندما وقعنا في مطب ولم يکن أحدنا يملك ثمن ماشربناه و التهمناه فجاء کوران ودفع الحساب عن الجميع.
جملة بسيطة ولکن معبرة خاطبتني بها أم صديقي عبالکريم رسن ذات صباح ونحن نتناول الفطور الصباحي وکان شايا و لبنا و قيمرا، دفعتني وقتها للتأمل في أعماق هذه البساطة التي تداف بين ثناياها أرقى و اسمى معاني التواصل الانساني، أم عبدالکريم قالت:(والله أبد ما احسن"بتشديد السين"بيك غريب، چنك واحد من ولدي) اما عبدالکريم فکان يمازحها وهو يقول:(يمهzwnj; هذا فد واحد کريدي شجابهzwnj; على الهور و على العربان)، لکن امه کانت تنهره بشدة و تصر على موقفها الجميل المرهف احساسا و انسانية. أما والد عبدالکريم، فقد کان هو الآخر رجل ذو ملاحظات لطيفة، وفي احدى المرات، وبينما کنت أغني مع نفسي مقطع من أغنية(روحي) لياس خضر(کالولي عليك هواي يا ثلج اللي ماوجيت)فاجأني بقوله؛ هذا التعبير خطأ! وانا يتملکني الفضول و العجب سألته: وما هو وجه الخطأ؟ فقال ليس(ثلج اللي ماوجيت، وانما تل جله"بتشديد اللام"zwnj; ماوجيت)وکان يقصد بتعبير(تل جلهzwnj;) الموقد. ولست انسى خبز التنور الحار الذي کانت تخبزه أم عبدالکريم حيث کنت في کثير من الاحيان أقف الى جوارها وهي تقوم بالعمل على تنورها الصغير نسبيا، ورغم أن هناك أيضا في کوردستان تنور لکن نوع الخبز الذي يخبز هناك مختلف بالکامل، ويسمى خبز"رکاك"حيث يکون قرص الخبز رقيقا و کبيرا و تخبز المرأة الکوردية عادة کميات کبيرة نسبيا وتحتفظ بها لفترة قد تتجاوز الاسبوعين وأثنائها وعند تناول ذلك الخبز يرش رذاذا من الماء عليه حتى يلين ويکون بعدها جاهزا للأکل.
وأتذکر أيضا، أن الشاعر فاتح عزالدين وخلال احدى جلسات نادي ذوي المهن الصحية التفت الى عبود عبدالحسين الذي کان في غمرة حديث فکري ـ وجداني شيق وکان متمکنا في الکلام شکل غير عادي و ساحرا في إنتقاء ألفاظه و سبك تعابيره، وسأله: ولك عبود شنو معنى ترکاعة؟(أي کلمة طرکاعة باللهجة الجنوبية حيث تعني البرق او الرعد کما أتذکر)، فأجابه عبود ومن دون أن يقطع کلامه: تعني فاتح عزالدين بالضبط! وأجد نفسي وانا في آخر جزء من عملية السرد هذه، أتذکر صديقين آخرين من الکورد حيث کان لکل واحد منهما خصوصيته و طباعه المميزة، الاول کان محمد رنجاو، ذلك الشاب الريفي القادم من مدينة قلعة دزهzwnj; وکان يدرس في احدى المدارس الدينية في السليمانية جنب الى جنب مع فاتح عزالدين، وعرفناه شخصية عبثية من طراز غريب ولم يکن يأبه لشئ وکان مرحا و کثير المزاح و الضحك ولم أجده يوما قد قطب حاجبيه أو نأى بنفسه جانبا سخطا على أحد من الشلة، رنجاو هذا أنتهى الامر به شاعرا و صحفيا متنقلا بين أربيل و السليمانية ومع کل إنتقالة له هنالك حفنة من المغامرات و الاحداث الغريبة التي ترافقه. أما الثاني، فقد کان محمد صالح لاجاني، الشاب الکوردي الهارب من إيران الشاه وکان وقتها لاجئا ويدرس في أعدادية الزراعة بقصبة بکرجو التابعة للسليمانية، لاجاني هذا من عائلة أعدم نظام الشاه أبيه وثلة من أقربائه الآخرين، وهو الان بحسبما عرفت عضو في المکتب السياسي للحزب الديمقراطي الکوردستاني الايراني ويقال أنه متواجد في اوربا. محمد صالح لاجاني، کان شاعرا مجيدا لکنه کان يتمسك بالشعر القومي ذو النزعة الثورية، وفي أحدى الندوات الشعرية التي أقمتها(وانا على رأس فريق مسرحي)، ألقى لاجاني قصيدة نارية ألهبت حماس الحاضرين وکان يتصدى خلالها لنظام الشاه في إيران وأذکر منها:
(البسطال قانون في هذا البلد
هذا البلد أضحى مخزنا للبارود)
وفي نفس تلك الندوة، قرأ کوران قصيدته التي هزت القاعة هزا و سببت إرباکا کبيرا دعت مديرية أمن السليمانية الى محاسبة الجهة التي سمحت لنا بإقامة تلك الندوة، کوران قال في قصيدته"
(أخرج يديك من هذه الارض
وأنزع بشرة محيا هذه السماء
فإن براعم قبلاتك کلها على صدري قد أضحت ورودا برية
أخرج يديك من هذه الارض
ودع أصابعك تدلى على رأسي کالشجرة الوارفة
لأروي قصص القتل و الدم لعراق آلاف الاعوام)
وکنت خلال تلك الندوة أتوسط ثلة من الاخوة العرب حيث کنت أقوم بالترجمة السريعة لهم.
يقينا أن التأثير الکبير الذي ترکه جامعة السليمانية على مدينة السليمانية من الناحية الحضارية بوجه الخصوص من حيث نشوء تلك العلاقة المتينة و الراسخة بين أجيال مختلفة من الشباب العراقي من مختلف مدن العراق ومن مدن الجنوب بشکل خاص، قد کان کبيرا جدا و ليس بالامکان أبدا نسيانه أو تجاهله، وحتى أن النظام البعثي عندما قام بنقل الجامعة من المدينة کعقاب لها على مواقفها من السلطة، وهو إجراء تعسفي لم يشهد له التأريخ مثيلا، فإنه لم يکن صادقا في ذلك أبدا، حيث أن عملية النقل لم تکن بسبب مواقف المدينة من النظام فقط وانما کان في حقيقة أمره بسبب ذلك التفاعل النوعي الملفت للنظر بين الطلاب العرب و بين أهالي المدينة و المساهمات التي قدمها الجانبان في عملية تواصل و تلاقح حضاري راق و بديع من نوعه أجزم بأن مجتمعاتنا هناك مازالت بأمس الحاجة إليه لکي تنضو عن نفسها أدران و زنخ التعصب و الانغلاق و رفض الآخر الذي يکتم و يکبس على أنفاسها اليوم.
النظام البعثي الموغل في کافة فنون الجريمة و الارهاب، لم ترق له أبدا أن يکون هناك ثمة تواصل بين المحرومين و المضطهدين، کما لم تعجبه مظاهر الانفتاح و الاخذ و العطاء بين طلاب الجامعة و المدينة، ومن أجل ذلك قرر أن يضع حدا للأمر و يصدر قراره التعسفي القذر بإغلاق جامعة السليمانية وترکز تبريره على نقطة واحدة وهي أن المدينة لم تؤيد قادسية صدام!
الحق، لأول مرة أصل الى مفترق النهاية في مقال لي وانا متيقن من ان هناك الکثير الکثير من الذکريات و المواقف و المشاهد التي تنام في زوايا ذاکرتي المتعبة بثقل سنين القهر و العذاب في بلد لم تدعنا(موائد الدول الکبرى)أن نحيا مجرد حياة عادية فيه وللأسف لم أتمکن من إيصالها و عکسها کما يجب للقراء، ويهزني شوق غريب لکلام طويل طويل بطول ليالي الغراف و المجر و سيروان و تانجرو و الحويزهzwnj;، شوق کذلك الشوق الذي هز وجدان السياب وکأن(کل دمي إشتهاء) متأملا أن يکون في ثمة يوم ما لهذا الحديث المتخم بروح و أصالة الذات العراقية من صلة!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقاله رائعه
محمد -

مقاله رائعه

كلام جميل
akram -

إزا أنتي أمن لو إستخبارات ياخز آني بالکلبجات بس لاتسوي مراقبة لانه يسويني مخبلشكرا استاذ نزار,,,,سابدا يومي ضاحكا