أصداء

"الشنتو" روح اليابان (3)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشنا في الجزئيين السابقين التالف العجيب بين الروحانيات السماوية وأخلاقيات السلوك البشرية في اليابان، والذي انعكس بالتناغم الأخلاقي الجميل بين أفراد الشعب الياباني، والذي يجمع أدب وظرف فن المحادثة الكلامية والصامته، وهدوء وحكمة ضبط الأعصاب، وصدق وصراحة التعامل، وأمان وسلام السلوك، ليخلق كل ذلك نوع من الطمأنينة والأمان والحكمة والراحة في المعيشة الحياتية. والعجيب بأن تناغم السلوك ترافق باحترام الوقت، ودقة الأداء، وحرفية المهنة، وإتقان العمل، وقد دفعني قوة هذا الضمير الروحي وأخلاقيات السلوك بين الشعب الياباني لطرح الأسئلة التالية: ما سر هذه التناغم الرائع بين روحانية الشخصية اليابانية، وجمال أخلاقيات سلوكها، وبراعة أدائها في العمل؟ وهل لذلك علاقة بروحانية اليابان، "الشنتو"؟وقد عرضنا دور عقيدة "الشنتو" في تطوير الشخصية اليابانية، حيث تعتبر قيم الفضيلة والطهارة والصدق من أهم السلوك الإنساني البناء، ومع أن الشنتو لا تملك كتاب مقدس أو رسول مرسل، ولكن هناك مؤلفين تاريخين، "كوجوكي" و "النهونشوكي، مدون بهما بداء تاريخ آلهة الكامي اليابانية، كما جمع صفاتهم، وإنجازاتهم. وهناك كتاب اخر يسمى "الانجيشيكي"، والذي جمع في القرن العاشر، ويشرح طقوس الشنتو الدينية. ولنعرض هنا قصتين من كتابي كوجوكي والنهونشوكي لفهم تاريخ ألأسطورة اليابانية، ولنبدأ بقصة بدء تاريخ اليابان بتزاوج ألهي كامي أزناجي مع كامي أزنامي، وبعدها انفصلت الأرض عن السماء، ليجلسا معا على الجسر السماوي، ويحركا السهم المرصع بالمجوهرات في بحر اليابان، لتتكون أرض اليابان. لتبدأ بعدها خلق باقي آلهة الكامي، وكانت الأولى بينهم إلهة الشمس، "اماتيراوسو"، وتعني الكامي العظيم التي تنير الكون. وبعدها خلق كامي "تسوكيومي"، وهو آلهة القمر والضوء، وخلق الثالث "سوسانو" وهو كامي البحر.وقد تجاوز كامي البحر حدود اللباقة بتخلفه عن واجباته، وترك اهتمامه بالبحر، بالرغم من الإنذارات المتكرره له، مما أدى لإرساله إلى "تاكامانورا" لأخطائه الكبيرة والمتكررة. ولم تستطع آلهة الشمس تحمل أخطائه، فالتجأت للتعكف في الكهف السماوي، ليصبح الكون مظلما ومحزنا، ولتنتشر الفوضى على سطح الأرض. فاجتمعت آلهة الكامي لحل هذه المعضلة الخطيرة، وإخراج إلهة الشمس من كهفها، فصمموا جوهرة، ومرآة، وزخرفوا بهما شجرة معمرة، وقاموا باحتفالية طقوس "الماتسوري"، فرقصوا وغنوا امام كهفها، فبعد أن طلت إلهة الشمس، ورأت الرقص، وسمعت الموسيقى، قررت أن تخرج من كهفها لترجع الضوء والسلام والتناغم والنظام للعالم. وقد حزن واعتذر بعدها إلهه كامي البحر عن اخطائه، ونزل للأرض، ليقتل الثعبان ذا الثمانية رؤوس، فيخلص الناس من عذاباته، وليكتشف في ذيله سيف، قدمه إلى إلهة كامي الشمس. وتعتبر إلهة الشمس من أكثر الآلهة احتراما، بل تمثل وحدة آلهة الكامي، كما أرسلت حفيدها "ننجو نو ميكوتو" لنشر السلم في العالم السماوي، ولتحقيق هذا الهدف قدمت له إلهة الشمس المرآ، والجوهرة، والسيف، ليمثل هذا الثلاثي شعار الإمبراطورية اليابانية، والتي ورثت على مدى الأجيال من قبل البلاط الإمبراطوري، وقد أمرت إلهة الشمس بوضع المرآة في القصر الإمبراطوري، واحترامه، وكأنها إلهة الشمس نفسها. كما قدمت لحفيدها سنبلة رز، كشعار لتغذية ومعيشة وازدهار الشعب الياباني على مدى العصور، وأرسلت مع حفيدها عدد متميز من آلهة الكامي للعالم السماوي لكي يساعدونه في الطمأنينة على ازدهار اليابان للأبد، وخلود سلالته الإلهية الإمبراطورية. وقد هبط حفيد ألهة الشمس على جزيرة كيوشو اليابانية، وبنى قصره، ليبدأ بتأسيس الأمة اليابانية، وبعد عدة سنوات اختار مدينة نارا عاصمة للبلاد، ليتوج بها إمبراطورا للشعب الياباني. ولتستمر إمبراطورية اليابان عبر التاريخ، وليتوج اليوم إمبراطورها المائة والخمسة والعشرين، وليستمر رمزا للقومية اليابانية، ووحدتها، وثقافتها.وتعتبر اليوم مدينة "إيسه جنجو" العاصمة الروحية لليابان، والتي تقارب مساحتها مساحة العاصمة الباريسية، كما أن بها 125 معبدا للشنتو، ومن أهمها معبد إلهة الشمس، ومعبد إلهة الزراعة والصناعة. ويقام بهذه المدينة سنويا ما يقارب 1500 احتفالية للطقوس الشنتو سنويا للصلاة لازدهار العائلة الإمبراطورية، واستمرار الرخاء والسلام للشعب الياباني. وقد كانت تتم الطقوس الدينية لإلهة الشمس بالقصر الإمبراطوري، ولكن بعد الوباء الخطير الذي عصف باليابان قديما، قرر الإمبراطور العاشر نقل رمز الهة الشمس، المرآة، من القصر لمكان آخر، لكي يصلي فيه عامة الشعب الياباني للدعاء للقضاء على الوباء القاتل. وقد أمر الامبراطور الحادي عشر لليابان الأميرة "ياماتوهيم نو ميكوتو" إيجاد المكان المناسب الأبدي لمعبد إلهة الشمس، يزوره جميع الشعب الياباني. وقد قامت الأميرة بالتنقل في مختلف بلاد اليابان، ولمدة عشرين عاما، للبحث عن المكان اللائق لمعبد إلهة الشمس، حتى نزل عليها الوحي من إلهة الشمس طالبة منها بأن يبني المعبد بقرب نهر ازوزوجاوا، بمدينة إيسه.وفي عصر الامبراطور الحادي والعشرين، أي ما قبل حوالي 1500 عام، نزل وحي أخر من إلهة الشمس، طالبة بأن يبني معبد إلهة الرز والصناعة بقرب معبد إلهة الشمس، لترافقها، وتوفر لها الغذاء المقدس، ولتبارك الشعب الياباني بغزارة المحصول الزراعي، وراعيته بالخير والسعادة وبتوفير اللباس والغذاء والمسكن. ومنذ أن أكمل بناء معبد إلهة الشمس قبل ما يقارب 2000 عام، يقوم كهنة المعبد، الذي يرأسهم كاهن من العائلة الإمبراطورية، بالقيام بطقوس دينية، والصلاة للسلام العالمي، حيث تقام هذه الطقوس والاحتفاليات بأمر من السليل المباشر لإلهة الشمس، الإمبراطور الياباني نفسه، لذلك تعتبر هذه الطقوس طقوس امبراطورية. وتقسم هذه الطقوس لطقوس يومية، وطقوس خاصة للعائلة الإمبراطورية، وطقوس "شيكينن سنجو" التي تقام كل عشرين عاما، احتفلا بتغير مكان المعبد لتجديد حيوية وشباب إلهة الشمس. وتشمل هذه الطقوس تقديم الطعام لتغذية الآلهة، والموسيقى والرقص لتسليتهم. وعادة تتماشى هذه الطقوس السنوية مع فترة جمع محاصيل زراعة الرز، كما تعلق سنابل محاصيل الارز على مختلف جدران المعبد. وتعتبر إحتفالية طقوس "شيكينن سنجو"، احتفالية مهمة جدا في عقيدة الشنتو، حيث يتم تغير معبد إلهة الشمس من مكان بنائه لأرض مجاورة كل عشرين عاما. ويكون المعبد الجديد مطابقا تماما للمعبد القديم، والحكمة في ذلك تجديد شباب وحيوية إلهة الشمس، بالإضافة لنقل خبرات بنائه المعقدة من جيل لآخر. والجدير بالذكر بأن بناء المعبد يعتمد على اشجار غابة المعبد، ولا تستخدم في بنائه أي مواد صناعية حديثة كالمسامير أو منتجات الحديد الأخرى، كما تنقل المرآة المقدسة، من البناء القديم الى بناء الجديد، ليستمر ذلك عبر العصور من جيل لآخر وللأبد. وتشمل هذه المناسبة 33 احتفالية دينية، بدءا من طقوس قطع الشجرة الأولي لخشب بناء المعبد الجديد، وحتى احتفالية نقل المرأة المقدسة للبناء الجديد، بعد ثمان سنوات من بدء عملية البناء، وقد استمرت احتفاليات تجديد المعبد منذ 1300 عام.والجدير بالذكر بأن الخشب يعتبر في جزءا هاما من قلب الحضارة اليابانية، كما تعتبر في الحضارة اليابانية مفاهيم الاستدامة، وإعادة الاستخدام، والمحافظة على المهارة الحرفية ومعلومة التصنيع أهم من البناء نفسه، بل تمثل جوهر الخلود في معابد الشنتو اليابانية، وذلك بفلسفة إعادة تشيدها كل عشرين عاما، ومن خشب الغابة فقط، وبدون أية صخور أو اسمنت. وقد استمرت مشاركة الشعب الياباني بهذه الاحتفاليات الدينية منذ القدم، كما كانت تقوم به الاسلاف، والتي تعتبر مشاركة روحانية مشتركة لإعادة بناء معبد آلهة الشمس، وهي احتفالية الرجوع الدنيوي والروحي السماوي، لأصول تعود لأجيال قديمة منذ قرون طويلة، لترجع صداها في أرواح الاسلاف، بالإضافة لنعمة طموحات ازدهار المستقبل. كما تؤكد هذه الاحتفاليات على أهمية انتقال خبرة المهارة الحرفية والروحانيات السماوية من جيل لآخر، لتشمل أرث الهندسة المعمارية، بالإضافة لأكثر من ألف سنة من تقاليد فنية دقيقة، تشمل صنع كنوز مقدسة تشمل 714 نوع من التقنيات.وبعد احتفالية أعادة بناء معبد إلهة الشمس، يتم فك المعبد القديم، وتوزع معظم الاخشاب على المعابد الاخرى، لإعادة الاستخدام والتبرك، بينما تبقى القواعد الخشبية الرئيسية، لكي تستخدم في تشيد بوابة المعبد الرئيسية الخارجية، التي تدخل الزوار على غابة المعبد. كما أن هناك طقوس طهارة تقام عند الدخول للمعبد، بأن يقوم الزائر بالوضوء بجمع الماء في كأس من الخشب باليد اليمنى، وسكبه على اليد اليسري. ومن ثم جمع الماء من الحوض باليد اليسرى، وسكبه على اليد اليمنى، وبعدها يقوم الزائر بغسل الفم، وتطير الكأس، بسكب الماء من الكأس على مقبضه الطويل لتطهيره. وحينما يقف الزائر على بوابة المعبد ينحني نصف انحنائة، ويصفق بيده مرتين بصوت خافت، وبعدها ينحي انحناءة كاملة. والجدير بالذكر بأن هناك اعتقاد سائد بين الشعب الياباني بأن السلوك الأخلاقي والعمل المتقن يدخل صاحبة "الجنة"، بينما السلوك الاأخلاقي والعمل الفوضوي يدخل صاحبه "النار".تلاحظ عزيزي القارئ بأن هذه التفاصيل الدقيقة في التاريخ والروحانيات اليابانية طورت الشخصية اليابانية لتكون شخصية مهذبة هادئة متواضعة رصينة حكيمة، تبتعد عن الانفعال والغضب، ووتجنب التفاخر والعظمة، وتلتزم بالبساطة والصدق وفضائل السلوك والأخلاق في عملها وسلوكها اليومي. فالعمل مقدس والوقت مقدر، ودقة الأداء والحرفية المتناهية واجب مجتمعي عام. وبذلك طور الشعب الياباني مجتمع متقدم آمن ومزدهر، ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الروحانيات اليابانية ساعدت على تطوير الشخصية اليابانية، ومن ثم ازدهار اليابان وتقدمها. ويبقى السؤال: هل ستخرج روحانيات منطقة الشرق الأوسط شعوبها عن دائرة التزمت والتطرف والعنف، لتتقدم شعوبها وتزدهر أوطانها؟ ولنا لقاء. سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
واخيرا نشر المقال...
روز -

شكرا سعادة السفير على المقالات الرائعةولكن للاسف لم ينشر الجزء الثانيlم... دكتور بالنسبة لسؤالك في نهاية المقال اعتقد بان الرسالات السماوية تحث على سمو التعامل والتسامح والتعايش بسلام ولكن البشر وسلوكياتهم وتعصبهم سبب العداء والكراهية والعنف المنتشر وعدم الالتزام بالمبادئ والقيم الانسانية التى تبشر بها هذا الرسالات ... تحياتي وتقديري مع جزيل الشكر وبانتظار الجديد...

متى نتعلم الدرس؟
كريم البصري -

شكراً سعادة السفير على هذه المقالة، وكم اتمنى أن تلفظ إيلاف كتاب الفتنه لتحل محلهم كتاب يدعون إلى التسامح والتطور، ومن جانب آخر كم اتمنى أن يزور الشعب العراقي كله بسنته وشيعته وكرده وبقية أطيافه، اليابان الجميل ويتعرف على هكذا شعب راقي ومتمدن، شعب أعتربه أنا شخصياً نموذج رائع للبشرية جمعاء، كم أتمنى أن يتخلص أبناء جلدتي من عقائدهم الباطله، والتي كنت أنا شخصياً اعتقد أنها مواسم للتطهير وحينما مارستها بشكل شخصي وجدتها مواسم للنفاق والدجل واقصد بها المشايه والمواكب الحسينية، لانها لم تغير من النفوس شيئاً بل صارت عبئاً آخر على شخصية العراقي لاسيما الشيعي وصارت مواسماً للخلاف والفتنه، والاحرى بها أن تكون مواسماً للتطير والتسامح بدلاً من أن تكون مواسماً للعطالة والبطالة والسلوك المشين، وهنا لا أخص في انتقادي الشيعه وحدهم بل باقي مكونات الشعب العراقي فيها ما يكفيها، اكرر شكري وامتناني لك سعادة السفير على هذه المقالة الرائعة.