السينما

الحكاية الشعبية تقاضي السياسة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

علي البزاز من امستردام:الحكاية الشعبية تخلد الواقع الذي نشأت فيه ،هي التاريخ والراوي للماضي ، لاتخلو من تاثير السياسة على صيرورتها . لغة تعبيرية لتقريع الظلم او للتزود بالعبرة التاريخية ، عمرها هو عمق الذاكرة الاجتماعية . في الفيلم القصير "الليلة الثانية بعدالالف " للمخرج العراقي علي رفيق تخرج حكاية ابو القاسم الطنبوري من مأمنها في التراث لتقاضي نظام صدام حسين ( صوّر في عام 1982 ) . الفيلم يروي معاناة ابو القاسم الطنبوري ( من حكايات الف ليلة وليلة ) مع حذائة الذي سبب له النحس لكن هذه المرّة استعملت هذه القصة لادانة حكم البعث .

من فيلم الليلة الثانية بعد الألف

عكس الفيلم زمن الحكاية فأصبح زمنا معاصرا وكذلك مأساة ابو القاسم الطنبوري الشخصية لتصور مأساة الشعب العراقي ، فعندما يسقط حذاء ابو القاسم في اثناء مظاهرات مناهضة للنظام على منصة الرئيس يعتقل ابو القاسم بتهمة التآمر على أمن الوطن وهو لم يشارك بالمظاهرات شخصيا ولكن يُعثر على حذائه المشهور فيزج به في السجن ثم يطلق سراحة ، يتسلم حاجياته مع الحذاء الذي جلب له النكد طوال حياته فيصرخ (لا ) و يموت ، تُرسل جثة ابو القاسم إلى المقبرة بينما يذهب حذاؤه الى محل عمله . تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح عند الصباح فتتجه الكاميرا مباشرة إلى مؤذن يدعو للصلاة (نهاية الفيلم) . موضوعان تعرض لهما الفيلم بشكل متواز يسندان بعضهما في سير الاحداث . الاول : استعمال الحكاية الشعبية التراثية لمحاسبة نظام سياسي دكتاتوري والثاني : ارتباط الدين بالنظام السياسي . تسكت شهرزاد عن الكلام المباح اذ لايسمح لها الملك المتسلط شهريار بالحديث عند طلوع الفجر وهو فعل حكم لاخيار فيه يستمد قوته من جبروت الملك ثم يبدأ الآذان ، وهو كناية عن التصريح والسماح للناس بمزاولة طقوس الصلاة وكأن الفيلم يقول ان سلطة شهريار تكمل نفسها بالآذان ،اذ يبدا فعل أمر آخر يمنح إجازة الشعائر في وقت محدد يشبه من حيث الفرض فعل النهي عن الكلام عند الملك شهريار فتبدا سلطة الدين من حيث تنتهي سلطة النظام السياسي ، هما متناغمان اذا وليسا متضادين يكملان بعضهما . تكمن خطورة المفاهيم والمعتقدات عند التصميم على جعلها سلطة ، عندئذ ستكتسب شخصية السلطة من حيث مبررات الوجود واسلوب الحكم وتفرض الخضوع والطاعة لها . لكل سلطة رغبة في التملك والديمومة تسعى للبقاء حتى لوسلكت نظام الوراثة ، هذه المعتقدات سوف تمارس بدورها نظام الوراثة المنصوص عليه والمطلق نتيجة احتكاكها بالسلطة . يقول سان جوست { ليس يمكن ممارسة السلطة ببراءة .

المخرج العراقي علي رفيق

إن جنونها لبيّن . وكل مُلك إن هو إلا عصيان واغتصاب } كل سلطة وإن كانت دستورية لابد ان تعلن الإملاء والقهرمن خلال سن قوانين تلائم مصالحها ، ليس هناك تقشف روحي في السلطة وبالتالي يبتعد القانون عن النوايا الحسنة ايضا فكل شي متصل بالسلطة هو منحاز لها . يقول بول فاليري { شيئان يهددان العالم : الفوضى والنظام } . اذا اردنا جعل الدين في جوهر الطهرانية فلابد من فصله عن السلطة ، ما كتبه نوفاليس عن الفلسفة ينطبق على الدين " الفلسفة هي بالخصوص حنين ،دافع داخلي يدفع المرء ليكون في مسكنه أينما كان " . يلاحظ في المجتمعات ذات الانظمة الشمولية ومنها عالمنا العربي إستعمال السياسة للدين كمبرر للحكم او الشرعية في حين ينفصل الدين عن السياسة في المجتمعات الاوربية ويبقى ممارسة روحية بين المؤمن وخالقه لاغير ، والشرعية هنا تستمد من قانون الدولة ومؤسسات المجتمع المدني خلافا للانظمة الشمولية حيث الدين هو قانون الدولة . تم بناء تسلسل الاحداث في الفيلم بصورة سلسة ومفهومة لغير المشاهد العربي الذي يجهل قصة ابو القاسم الطنبوري ، من محاولاته الفاشلة للتخلص من حذائه إلى المشاكل التي سببها له ، يُسجن مرة بتهمة السرقة التي قام بها احد اللصوص وترك خلفه الحذاء إلى اعتقاله متورطا بالتامر على قلب نظام الحكم ، توظيف ساخر لحذاء ابو القاسم يتعرض إلى نظام البعث الذي لاينجو من بطشه حتى الحذاء فكيف بالمواطن المسالم !!. إعادة بناء الحكاية الشعبية وتوجيه رموزها الى الحاضر هو فعل سينمائي متميز في الفيلم " الليلة الثانية بعد الالف " وخاصة انه موجه إلى الجمهور السوفيتي في تلك الحقبة وبنقده لنظام البعث بهذه السخرية تفرد بشجاعة خفية غير معلنة بإدانة النظام السوفيتي الذي ارتبط بعلاقة صداقة ودعم مع ذلك النظام و نجح بتمرير نقده السياسي لكلا النظامين من خلال الرمز في الحكاية الشعبية . السياسة وارتباطها بالدين واتحادهما باليومي يعبران عن علاقة إنتماء اصلية ممدوحة من كليهما ، هما موضوعان شائكان واكبر من ان يسعهما فيلم قصير (20 دقيقة من انتاج معهد السينما في كييف )) ومع ذلك فالمخرج علي رفيق وبحرفية وخبرة عاليتين تمكن من السيطرة على مادة الفيلم ( واكب المخرج تطور الحركة المسرحية العراقية منذ الستينيات وعمل مع رموزها ) وبلغة سينمائية رمزية وشفافة تناولت بطش السياسة اساسها الحكاية الشعبية المبنية بشكل درامي مترابط ،اما موضوع الدين الساخن فتم تقديمه بشكل تلقائي اعتمد على الآذان الذي تكرر ثلات مرات ورغم هدوء بناء رمز الجامع لكنه ترابط زمنيا مع سير الحكاية الشعبية ، يظهر ابو القاسم في الفيلم وهو يصلي مستقبلا الجامع للدلالة على مصير الدين في حياته ثم يموت رائد الحكاية بينما ينطلق الاذان حيّا ويستمر هكذا في حياة ملايين البشر وهو مايعزز فكرة سيطرة واستمرار تاثير الدين في عالمنا العربي .إن استعمال الاذان ( وليس الجامع كبناية ) مرادف لسيطرة الدين على مصيرنا ، له من الدلالة الفكرية والفلسفية معان كثيرة ،الآذان ياتي من علو المنارة وكل ماهو عال مسيطًّر ، وللصوت خاصية فيزياوية وهي الانتشار وهو فعل وتادية الصلاة هي استجابة لهذا الفعل وقد ربط الفيلم بين سكوت شهرزاد عن الروي مع الآذان الذي هو كلام ،علاقة استمرار فسكوت شهرزاد يجد كلاما له في الآذان و بصورة اشمل واكثر شعبية لأن الملك شهريار هو المستمع الوحيد لحكايات شهرزاد بينما يسمع الاذان جمهور واسع . الملزم بالسكوت سواء اكان حاكما ام محكوما يجد انعتاقه في الدين فحين يفرض شهريار الصمت ، يلزم نفسه به ايضا .

من الفيلم

يحرر الآذان الملك من فقدان السلطة اذ يخسرها مع شهرزاد حالما تتوقف عن الكلام فتعود زوجة وليست راوية للحكايات تنفيذا لامره . حوّر الفيلم كل شيء في الحكاية الشعبية ؛ زمنها وغايتها إلا المكان العراقي بتفاصيله الحميمية ظل أصيلا و قابلا للرؤية رغم تصويرالفيلم في مدينتي كيف / اوكراينا وباكو في اذربيجان . في السينما لايمكن التعبير عن المكان بغير ملامحه ، قد تستعيض السينما الشعرية عن المكان بمفردات لاتشبهه لخلق حالة بانورامية مدهشة . إختيار الممثلين من اصول روسية - شرقية ساهم بالانسجام مع بيئة الدراما مبتعدا عن الاستوديو ، جهد سينمائي مثابر بذله المخرج لإستعادة الحنين المفقود عاطفيا وإعلاء شان الوجود الغائب . مقطوعة شهرزاد للموسيقار ريمسكي كورساكوف وبغض النظر عن وجود علاقة ظاهرية بيد ان الايقاع الغربي لم يساهم في استحضار الماضي على طبيعته الذي توخاه الفيلم في جميع مراحله وبدت الموسيقى التصويريةغير منسجمة مع روحانية المكان . الكاميرا باسلوبها الروسي الذي يستنطق التفاصيل متناغمة مع الحبكة وكانها ضمن البناء الدرامي او احد الممثلين .

قال جان كوكتو { المخرج الذي لا يقوم بتوليف فيلمه الخاص ، هو كمن يبيح اعماله للترجمة إلى لغة اخرى } الليلة الثانية بعد الالف " فيلم للمكان يثير الحماس لقراءة افلام عراقية في المنفى * شاهدا على ان الهامش يحتضن المعالي وان كان منزويا ومقصيّا ، و تحت الرماد هناك رأس مغامر مسرور .

* في هذه القراءة نعد ملفا عن افلام منسيّة لمخرجين عراقيين

Damlamar@yahoo.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
جمال أبو حمدان
عشرقة المحاربية -

راجع مسرحية " حكاية شهرزاد الأخيرة " المنشورةفي أواخر السبعينات ، للكاتب جمال أبو حمدان !!

ان الاوان لتسليط الض
احمد الزبيدي -

مبادرة جادة لتسليط الضوء على من اراد النظام البائد ان يبعدهم عن الساحة الثقافية ونظامنا الحالي مشغول بامنه ووزراء ثقافته من معممين وقتله جهلة ليس لهم لاناقة ولاجمل بالثقافة والمبدعين العراقيين فشكر لكل من يساهم بتسليط الضوء على المنسيين من فناننينا ومبدعينا

نظرة عميقة للناقد
سمر كويي -

الصورة التي يوضحها كاتب المقال رائعة من حيث التصوير و التخيل والربط بين الامور (بين السياسة و الدين والرواية المتمثلة بأفواه الشعب) وكذلك كل ما وصل اليه كتابنا ومبدعينا العراقيين في المنفى وارتباطه بتغيير افكارهم او كيفية تأثرهم بالمنفى والغربة والنسيان رغم انف السياسة ,ورغم تسلط الدين على السلطة في البلدان الشرقية.

صمت علي رفيق
ليث عبد الأمير -

علي رفيق سينمائي عراقي أصيل قرر أن لا يدخل دهاليز البورصة والمضاربات بصمته خسارة لنا نحن السيننمائيين ومتذوقي الفن السابع وإدانة كبيرة لتجار السينما والسياسيين والمتطفلين على حد سواء. كم العراق بحاجة الى مبدعين مثل رفيق وكم هو محزن أن لا يلتفت اليه لا معممي النظام الجديد ولا مضاربي السياسة في هذا الزمن الخرب. تحية للفنان المبدع علي رفيق

تكريم يليق به
قاسم الخضر -

اليوم اخبرني الفنان زهير محمد راضي بانه يحتفظ عنده في اوكرانياومنذ مايقرب الربع قرن بفلمين للمخرج المبدع علي رفيق، احدهما الليلة الثانية بعد الالف.اما ان الاوان لتكريم هذا الفنان الخلاق الذي له باع طويل كذلك في المسرح والتلفزيون والاذاعة!والاحتفاء بنتاجاته الفنية!والاستماع لبوحه الجميل بشان اليوم الجديد الذي يأتي ولايأتي..

اقتباس الرد
محمد يحيى -

علي رفيق سينمائي عراقي أصيل قرر أن لا يدخل دهاليز البورصة والمضاربات بصمته خسارة لنا نحن السيننمائيين ومتذوقي الفن السابع وإدانة كبيرة لتجار السينما والسياسيين والمتطفلين على حد سواء. كم العراق بحاجة الى مبدعين مثل رفيق وكم هو محزن أن لا يلتفت اليه لا معممي النظام الجديد ولا مضاربي السياسة في هذا الزمن الخرب. تحية للفنان المبدع علي رفيق

تحية حب
عمار يحيى توفيق -

تحية حب الى الفنان المبدع والاخ الاكبر علي رفيق ..تمنياتي له النجاح من اجل الابداع ونحن ننتظر المزيد.....

الميلاد
اثير يحيى توفيق -

نحن الان بانتظار ميلاد تجربة اخرى تتالق فيها الكلمة الصادقة والروح الجياشة من اجل ان يكون الابداع حقا هو الابداع...تحياتي الى المبدع ..

معلم له الفضل الجميل
د. حسام آل زوين -

لازالت الاعمال الابداعيةالفنية العراقية مصابيح وشموع تنشر وتبث وتنثر نورها الذي ابهج ويبهج النفوس ، يفرح ويبعث الامل !، ولم تستطع ستائر النسيان والاهمال باختلاف قوتها ومتانتها وغاياتها مهما بلغت ان تحجب هذه الانوار من خلال نوافذ الزمان القاسي الظالم واللئيم ..، تبقى كل الاعمال العراقية الابداعية بمبدعيها مكانةغالية عزيزةفي القلوب ،مازالت هنالك مشاعر انسانية دافئة باقية . وكحبنا للنخيل .الفنان علي رفيق ليس بمبدع في مجال الفن والاخراج والتصوير السينمائي والمسرح والثقافة الفنية فحسب ، بل معلم له الفضل الجميل ف لمدينة السبيل !.