عدالة السلوك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
علي البزاز من امستردام:يفتقر العالم الى الفنانين الذين يتبنون عدالة القاضي فيرفعون سلوكهم الى ذروة أعمالهم؛ زهد وتبتل في السلطة والجاه فيجنون بذلك المصير المحتوم : الفاقة ، النفي ، واحيانا القتل ، مصائر على شفا الهاوية تفسر مآل حياتهم . في الفيلم القصير " المهد من انتاج ستوديو دوفنجكو / كييف عام 1985 " للمخرج العراقي ليث عبد الامير عن مقتل الشاعر الإسباني لوركا . يطارد حفار القبور لوركا الطفل ثم الشاب والشاعر ، يلّوح له بالمصير الذي جناه بسبب عدالة سلوكه التي فرضها عليه شعره عندما اختار الوقوف مع الجمهورية الإسبانية ضد الفاشية وقُتل عام 1936على اثر هذا الانحياز الى الحرية والانسان ،
ينتهي الفيلم برماة يصوبون بنادقهم ذات الحراب الطويلة إلى لوركا ثم تدوي طلقة لم تستطع ان تختصر رفض الشاعر شروط عالم فاشي لايُحتمل ويقول { انها الحرية ، سامنحها نفسي } يكتب انطونيو ماتشادو في رثائه ( ابتهل الرماة ، ثم اغلقوا عيونهم وقالوا : الرب وحده سينقذك الان / الماء سيبكي : لقد حدثت جريمة في غرناطة / غرناطته ) . في لوحة الفنان غويا " إعدام الشعب " تصطف البنادق بحرابها الطويلة لتقتل البشر الأبرياء ، بندقية لم يشبع البارود شهيتها للقتل فاضيفت لها حربة لتكمل سلطة القتل إضافة إلى شهوة الانتقام عند البشر ، فاية بندقية مجرمة صنعها انساننا المعاصر ؟؟ مشهد تعبيري جميل ضد الانسان محترف القتل والدمار : حينما يُقتل لوركا ياتي حصانه ليشرب الماء من جدول وحالما يختلط الماء بالدم ينفر الحصان ويشيح بوجهه عن الساقية ، الإنسان يقتل والحيوان يرفض الدم !! . في فيلم " المهد " لغة سينمائية رمزية شفافة استلهمت رقتها من قصائد الشاعر ، والرمزية هي الطريقة التي تبناها المخرج ليث عبد الامير في عمله هذا ، فهو لم يفارق في اثناء التصوير كتاب دفاتر السينما للمخرج العبقري ازنيشتاين على حد تعبيره ، والمتابع يشعر بتأثيره عليه من خلال حشد الصور الرمزية في الفيلم وكانه قصيدة للشاعر الفرنسي "مالارميه " الذي حاول المخرج تصوير فيلم عنه . اللغة الرمزية هي ديدن السينما الروسية فمثلا فيلم " المرآة " للمخرج الفذّ تاركوفسكي يعبر عن موضوعه بلغة رمزية وبكاميرا ذات قدرة تخيلية على انتاج الصورة ويستطيع المشاهد ان يتابع الدراما دون الحاجة لمعرفة اللغة الروسية لان تاركوفسكي ارسى دعائم لغة سينمائية عبر الصور والرمز مقتصدا قدر الامكان بلغة الحوار . يبدا الفيلم بحفار القبور ينثر التراب بمعوله ثم رماة وهدير طلقة ، حفار القبور لم يفارق الشاعر في كل مراحل حياته وكأنه اللازمة تردد اغنية الموت ، ويحسم امر القتل بعد هذا المشهد الرمزي : النارتلتهم لوحة لعاشقين ويبرزهو من خلف النار . هناك اشتغال على موضوع الزمن الفلسفي في بناء الدراما ؛ مقتل لوركا (بداية الفيلم ) ثم الطفولة ( اجاد الممثل - الطفل الذي جسد شخصية لوركا الطفل من حيت ردود افعاله المرتسمه على ملامحة ) ثم الشاعر المكتمل نضجا وهو يقرا أشعاره فالعودة ثانية إلى مشهد البداية ( رماة ومقتل لوركا ) ،
لقطة الرماة على الجياد بصف واحد تمهد لبناء مشهد القتل وتتكررغير مرة متناغمة مع الظهور المستمر لحفار القبور وكان مصير الشاعر مرهون بالرماة واخيرا بحفار القبور الذي هو الموت . هنا الكثير من المؤثرات السينمائية : قرع الطبول كناية عن قرب وقوع جريمة القتل مما لصوت انطلاق الرصاصة من تشابة مع صوت الطبل ، نعيق الغراب ( نذير شؤم في عالمنا العربي )، الدخان الذي يلف لوركا وهو يهرب بين الحقول قبل مقتله مصير غامض ، اضافة الى جريان الماء بعد القتل الذي يعني الخصوبة فالموت لم يمنع حياة لوركا من العطاء في ذاكرة الناس والشعر . العناية بالمؤثرات الصوتية نتيجة تكميلية لعالم الصورة الرمزي لخلق فيلم بصري وهي حاجة حسية لايمكن الإستغناء عنها. الرمز في المهد ( حاز الفيلم الجائزة البرونزية في مهرجان دمشق الدولي عام1987 وجائزة النقاد في كييف عام 1988 ) شجع الموسيقى التصويرية على ان تكون مرئية او بمصاف الصورة ، القيثارة الاسبانية والطبيعة الجبلية موطن لوركا لخلق وحدة في البناء مع غناء اوبرالي روسي حزين واحيانا جنائزي ( للإشارة إلى بيئة انتاج الفيلم ) ينذر صوتيا بوقوع جريمة القتل . اغلب مشاهد الفيلم لقطات عامة فالتضاريس كاطار للحدث او لقطات قريبة حسب الانفعال العاطفي . بدأ تراث الفيلم الشعري الروسي يتشكل منذ فيلم " الارض للمخرج دوفنجكو " ثناء شعري على الطبيعة (عبرمجموعة من المشاهد أوالصور كل منها تحمل أبعادا فكرية وجمالية عميقة تتناغم لتثمرفي النهاية قصيدة ملحمية رائعة . وهويظل تحفة فنية في السينما الحديثة، متقدمة ثلاثين سنة عن زمنها - الناقد فوغل - ) يبرز السؤال ذو الجدل الجمالي الذي لاينتهي حول السينما الشعرية وفي هذا الفيلم يصبح السؤال مزدوجا فيتضمن موضوعا آخر هو سينما الشعر لان قصائد الشاعر لوركا وحياته شكلتا المادة الاساسية . يقول المخرج ليث عبد الامير{ انني اجد السينما في الشعر ولذلك اقرا كثيرا واشاهد افلاما قليلا ، الشعر البصري يديم حاجتي للصورة } . للمخرج تاركوفسكي منظّر السينما الشعرية مفهوم فلسفي للشعر يضاهي من حيث عمقه مفاهيم الشعراء الكبار ( كان والد تاركوفسكي شاعرا ) يقول {حين اتحدث عن الشعر ، فأنني لا انظر اليه كنوع ادبي ، الشعر هو الوعي بالعالم ،طريقة خاصة للإتصال بالواقع ، هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الانسان طوال حياته، ويصبح الفنان خالقا للجمال الخاصّ الذي ينتسب للشعر فقط ، وقادراً أن يتبين خطوط التصميم الشعري للوجود ، وتخطي قيود المنطق المتماسك ، وكشف التعقيد العميق، وحقيقة الروابط غير المحسوسة، وظواهر الحياة الخفية - الجوهر الشعري للسينما ترجمة أمين صالح -} إذاً ، الشعر فن الإتصال بالسينما مسهلا لها التعبير عن جمالياتها ، فالشاعر البصري هو مخرج ايضا وهناك قواسم مشتركة بين السينما والشعر على الصعيدين التقني واللغوي ، فنقول السينما الشعرية إستعانة بالشعر لتوصيف إتجاه سينمائي معين ،
مصطلح " شاعر بصري او صورة " نلجا للسينما للتعبيرعن الشعر . وفي السينما كما في الشعر تبرز بشكل عضوي واساسي مفردة اللغة ؛ لغة سينمائية والشعر بناء لغوي . اما ماهو تقني ، القصيدة تخضع بالنهاية إلى عملية مونتاج وما تعجز السينما عن انتاجه بصريا يستطيع شعر الصورة ابداعه ، اصبح الحوار/ لغة ، المحك الاساسي لتقييم السينما فاما ان يكون الفيلم مسموعا نتيجة الإكثار منه والاقتصاد بالصورة وبهذا يكون اذاعة او فيلما سينمائيا تكرمه البلاغة متحاشيا سيطرة الكلام . تقول سوزان سونتاج - صدرلها كتاب بالغ الاهمية بعنوان " في التصوير الفوتوغرافي 1977 " - { تصبح الكلمات ملموسة تقريبا عندما تتخللها فترة صمت طويلة. هكذا نرى مخرجي الافلام الدرامية والطليعية وسينما الحقيقة يحتفظون بفقرات صامتة في مشاهد الحوار او المقابلات ،وهي وسيلة مرسومة بفعالية اكثر بسبب تاقلمنا اللاواعي مع ضجيج الكلمة المتواصل في التلفزيون - الذي هو ربما من اكثر الوسائط الموجودة الآن تحريرا للغة وتعارضا مع الشكل البصري -} فيلم المهد * يستلهم مادته من السينما الروسية بخصائصها متوكلة على الرمزية وعلى طريقة ادارة الكاميرا المتفاعلة مع الحدث والمشرفة على انفعالاته المحتملة ( حصل المخرج على شهادة الماجستير في الاخراج من معهد كييف السينمائي ) مع تصور فكري وحياتي عن السلوك الذي يجب ان يتبناه الفنان في علاقته اولا مع فنه وتحصيلا مع العالم الذي يتمحور حول السلطة وامتيازاتها وهو موضوع اخلاقي وفني يحضربإلحاح في عالمنا العربي لعدم استقلالية الفنان عن الدولة . اراد الحرس الفاشي للوركا صفة القتيل ، ثمة خطا في هذا التقدير اعلنته الامكانات الهائلة التي حققها موت الشاعر، شهيدا لعدالة السلوك وما القبر الذي يضمه الآن إلا قصيدة تنطق بنزاهة وبشرف انسان ابديّ .
* في هذه القراءة نعد ملفا عن افلام منسيّة لمخرجين عراقيين
damlamar@yahoo.com
التعليقات
ابداع العراقيين
سمر كويي -شكرا لكاتب المقال .. الذي يحاول تسليط الضوء على الابداع العراقي اللامتناهي سواءاً في التمثيل او الاخراج السينمائي.والاجمل .. النظرة التفصيلية لمشاهد الفلم من زاوية الرؤيا السينمائية والانسانية وربطها بالادراك الحسي البصري من خلال تفاصيل صغيرة يشاهدها المشاهد ولكن احيانا لا يربط مضمونها. مقال رائع .. دمت