السينما

العراق لا يمتلك سينما، ولكنه يمتلك أفلاماً سينمائية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

العراق لا يمتلك سينما، ولكنه يمتلك أفلاماً سينمائية
حوار مع المخرج العراقي جمال أمين، بين "بيوت في ذلك الزقاق" و"قطع غيار"
تجربة فنية دلالتها الإبداع

أجرى الحوار حسين السكاف: اللحظة التي تطفأ فيها الأضواء وتسدل الستارة لتعلن انتهاء العرض، هي لحظة بداية دخول الفنان عالم القلق والترقب المشوب بالحنين إلى يوم عرض جديد. ولكن حين يمتد زمن القلق والترقب لسنوات، ويفيض الحنين حتى يُغرق الفنان في بحر الإحباط ويتذوق مرارته، عندها يصبح للوجع صوتاً آخر. فما من شك أن جمال أمين وملصق فيلمه: قطع غيار الفنان العراقي هو أكثر فناني العالم ترقباً وانتظاراً ليوم عرض جديد، فقد امتد به زمن الانتظار حتى بات كحبل يلتف على رقبة آماله وتطلعاته. فالفنان الذي أعد نفسه لجمهور عرفه وتابع أعماله واستطاع بكفاحه وعمله الدؤوب أن يؤسس له موطئ قدم في ساحة بلاده الفنية، حين يجد نفسه وقد أقتلع من أرضه ومن بين جمهوره ليرمى خارج المكان، يكون ترقبه لقدوم يوم جديد مشروعاً بمرارته. واليوم، وبمصاحبة موسيقى هذا الوجع وتلك المرارة أحاور الفنان العراقي المخرج والممثل جمال أمين محاولاً الوقوف مع القارئ على أهم مناطق آلامه وآماله.
* سمعتك تقول " إن العراق لا يمتلك سينما، ولكنه يمتلك أفلاماً سينمائية " كلمة لا ينقصها الوجع، فهل تسمح لي أن أشاركك وجعك هذا بالوقوف على مسبباته؟
- نعم إنها كلمة لا ينقصها الوجع بالرغم من أن الإنتاج السينمائي العراقي كان قد بدأ منذ أكثر من ثمانين عاماً، وهذا يعني بالضرورة أن تكون هناك سينما عراقية مميزة كالسينما الإيرانية مثلاً.
فالسينما العراقية - إن صح التعبير - لا تمتلك حتى وقتنا الحالي أي ملامح أو خصوصية، وليس لها مدارس أو اتجاه خاص بها، وعلاوة على هذا، فأننا لم نتعرف على جيل سينمائي عراقي في أي مرحلة من المراحل. وبالرغم من كل هذا، فالعراق يمتلك معاهد وأكاديميات فنية منذ وقت ليس بالقصير.
السينما صناعة، وكل صناعة بحاجة إلى رأس المال والسوق. والسينما العراقية تفتقد هذين العنصرين الأساسيين، وبالتالي لا توجد هناك سينما عراقية وإنما هناك تجارب ومحاولات لإنتاج فيلم عراقي مميز وهي في حقيقة الأمر، أفلام معدودة جداً لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة إضافة إلى أن كل ما أنتج في العراق على مدى ثمانين عاماً لم يتجاوز المئة فيلم.
العراق يمتلك منظرين سينمائيين، ومخرجين واعدين، بالإضافة إلى توفر الجزء المهم في العمل، وأعني هنا الممثلين السينمائيين، لكن لا توجد سينما عراقية معروفة الاتجاه والأسلوب، والمسببات كثيرة، واهما إذا كنا نحن السينمائيين نعول على الدولة وهذا حل من الحلول فلا توجد لحد الآن حكومة في العراق دعمت السينما إلا التجارب التي أنتجت في عهد النظام السابق وكانت الأفلام تنتج لتسويق النظام وأفكاره الشمولية وليس من أجل تأسيس سينما عراقية حقيقية، حيث كانت حصة المخرجين العرب من الأفلام العراقية أكثر من العراقيين. واليوم وبالرغم من أن أغلب المخرجين العراقيين المهمين منهم وغير المهمين متوزعين في أغلب الدول العربية، إلا أننا لم نسمع بأن دولة عربية قد منحت الفرصة لأحدهم، بل بالعكس، هناك الكثير من الفنانين العراقيين الذين تعرضوا للمضايقات والتهميش. وأحب أن أوأكد على أن الثقافة العراقية في كثير من صورها غير مقبولة عند الطرف الآخر، هناك عدم اعتراف أو تجاهل واضح للثقافة العراقية، باستثناء المجال الشعري.

* الدولة العراقية الآن دولة جديدة، تطلعاتها الديمقراطية والثقافية نجد لها بعض الأثر في وسائل الإعلام، فهل هناك أمل مرتجى يعتمر داخل الفنان العراقي يمكن تحقيقه في المستقبل القريب؟
- الدولة العراقية الجديدة منهمكة بترميم ما تبقى من العراق، ولا أعتقد بأنها ستلتفت إلى السينما بالرغم من أنها إحدى الأعمدة المهمة التي من شأنها أن تساهم في إخراج العراق من وضعه الراهن. ولنا في تجربة السينما الألمانية أبان الحرب العالمية الثانية دروس. وعلينا أيضاً أن نأخذ العبرة من المدرسة السينمائية الكوبية.
وعلينا ألا نغفل عدم اهتمام رأس المال العراقي في الاستثمار السينمائي أو التلفزيوني، كون التاجر العراقي يلهث وراء الربح السريع، على عكس بعض المستثمرين العرب وخاصة المصريين والسعوديين. فترى مثلاً، أن أغلب الإنتاج السينمائي المصري إنتاج خاص، وبالتأكيد هناك إنتاج للقطاع العام الذي أنتج في السابق تجارب سينمائية لها أهميتها في تاريخ السينما المصرية. والحقيقة أن الاستثمار في السينما قد لا يأتي بأرباح سريعة نظراً لأن عملية إنتاج الفيلم بحاجة إلى مراحل زمنية طويلة نسبياً كي يستطيع المنتج استرجاع ما بذله من مال على الفيلم.

* هل يمكن التفكير بالتعاقد مع قنوات فضائية حول إنتاج فيلم سينمائي؟
- المحطات الفضائية العراقية والعربية كثيرة الآن، هذا صحيح، ولكن علينا أن نعترف بأن أغلب هذه المحطات، وأقصد هنا العربية والعراقية بشكل خاص، هي محطات سياسية. أسست لأغراض التنافس السياسي بين الأحزاب ومن ثم الترويج لأفكار سياسية معينة، وفي الغالب تكون أما ذات طابع شوفيني أو طائفي أو تغليب حزب أو فئة على أخرى. وبالرغم من كل هذا، فإذا حدث وتم الاتفاق مع القناة الفضائية لإنتاج عمل ما، ستجد أن المبالغ المرصودة لإنتاج الأعمال لا تكفي لإنتاج أفلام سينمائية وإنما بالكاد تكون كافية لإنتاج أعمال فيديوية إخبارية تخدم مصلحة القناة والجهة الممولة لها. بينما نجد في المقابل، أن هناك شركات ومؤسسات قد مولت بالفعل مشاريع لإنتاج أفلام عراقية خاصة بعد سقوط النظام، ولكن تلك الشركات كانت شركات ومؤسسات أوروبية وغير أوربية وهذا دليل واضح بأن هناك مخرجين عراقيين ممكن أن يتولوا صناعة السينما. والمثال على ذلك فيلم " زمان " للمخرج عامر علوان و " أحلام " لعبد الهادي الدراجي و " العراق موطني " لهادي ماهود و " 16 ساعة في بغداد " لطارق هاشم والأسماء كثير يعرفها المتابع لحركة الأفلام السينمائية العراقية.

* هل للرواية العراقية وشحتها، نصيب في تراجع الإنتاج السينمائي العراقي وبالتالي عدم وضوع معالم السينما العراقية؟
- أبداً، لم يكن للرواية أو القصة العراقية دور في عدم وجود سينما عراقية، بل بالعكس هناك كم من الروايات العراقية المهمة على الصعيدين العراقي والعربي وبالإضافة إلى العالمي، وهناك مجاميع قصصية وهناك الواقع العراقي المتناقض والمؤلم والمهم جداً في تحفيز أية طاقة إبداعية للإنتاج. فكل الحروب الكارثية والانتفاضات والاثنيات والكثير من المواضيع والمشاهد من شأنها أن تكون منهلاً مهماً لتحفيز واستفزاز مخيلة الفنان. أي بمعنى، إننا بحق نمتلك الرواية والقصص الواقعية والخرافية والرومانسية وحتى الميثولوجيا، وكل هذا كفيل بأن يجعل السينما العراقية أهم سينما في الشرق الأوسط. والحقيقة الملموسة تفصح لنا، بأن الواقع العراقي الآن، أصبح منهلا للكثير من صناع السينما في العالم العربي والأجنبي. لقد كان العراق يرزح تحت نظام دكتاتوري دموي وعنيد مما تسبب في استحداث حركات ومظاهر اجتماعية وسياسية غريبة وغير تقليدية، وتلك الظواهر يمكن توظيفها لإنتاج أفلام مهمة على الصعيد الإنساني. ولنتصور لو أن الدولة العراقية تبنت إنتاج فيلم عن شخصية المواطن العراقي الذي عاش تحت الأرض في حفرة صغيرة أو خندق لأكثر من عشرين عاماً كي يهرب من الحرب، فكم سيكون الفيلم مؤثراً وكم من الجوائز سيحصد؟ خصوصاً وأن العالم قد عرف تلك القصة وغيرها من القصص وتأكد من حقيقتها. المادة السينمائية موجودة في العراق بشكل كثيف وبنوعية إنسانية عالية المعنى والأهداف، وما يعوزنا سوى الدعم المادي والمعنوي.

* كنت أحد الأبطال الذين لعبوا دوراً رئيسياً في فيلم " بيوت في ذلك الزقاق " للمخرج العراقي قاسم حول. حينذاك كان عمرك سبعة عشر عاماً، ترى بماذا كنت تتمتع من مميزات حتى تم أختيارك للدور؟
- فيلم بيوت في ذلك الزقاق يشكل علامة مهمة ومرحلة لها وقعها المؤثر في حياتي كفنان، وبالتأكيد في مسيرة زملائي ممن شاركوني الفيلم منهم التفات عزيز، سناء عبد الرحمن، ريكاردوس يوسف وحامد خضر. والفيلم بحق يعد تجربة مهمة في السينما العراقية لكونه يمتلك أدواته الخاصة، وكان الأسلوب الإخراجي للمخرج قاسم حول متميز حيث نفذه بطريقة كانت جديدة على السينما العربية، ولا نبتعد عن الصواب إن قلنا إن الفيلم يعد بمثابة النواة لإنشاء أسلوب جديد في السينما حينذاك، من حيث معالجة الفيلم بتقنية تمزج الروائي بالتسجيلي. ولكن للأسف فقد دُمر الفيلم بسبب رقابة النظام السابق وعلى يد مخرج عراقي يعرفه الجميع.
أما كيف تسنى لي أن أمثل في هذا الفيلم، فيمكنني أن أوجزها بأن المخرج قام باختبار مجاميع كبيرة من طلاب معهد وأكاديمية الفنون الجميلة، أعتقد بأن عدد المتقدمين قد جاوز المئة طالب وبعد إجراء الكثير من الاختبارات وقع الاختيار على ثلاثة طلاب كنت أحدهم، ومن ثم وقع الاختيار عليَّ، ولا أعرف لماذا!!، ولكن من الواضح، أن شكلي ومقومات جسمي ولهجتي البغدادية بالإضافة إلى الموهبة جعلت من الأستاذ قاسم حول أن يميل إلى اختياري كبطل للفيلم. والمحزن هو ما حدث بعد تدمير الفيلم من قبل الرقابة وهروب المخرج خارج العراق، حيث باتت الشخصية التي لعبتُ دورها، شخصية " سالم " من أكثر الشخصيات تعرضاً لمقص الرقيب، فحذفت أغلب المشاهد التي مثلتها.

* هناك محطات فنية كثيرة توقف فيها الفنان جمال أمين ليظهر طاقاته الفنية، وأعتقد أن من حق القارئ أن يطلع عليها، فمن أين تبدأ؟
- بعد فيلم بيوت في ذلك الزقاق اشتركت في فيلم " اللوحة " ومن ثم فيلم " البندول " كان ذلك في عام 1977 مع المخرج الفنان كارلو هارتيون. كان لدوري في فيلم اللوحة أهمية خاصة على الرغم من أنه لا يدخل ضمن الأدوار الرئيسية، وكذلك الأمر في فيلم البندول. ثم عملت مع المخرج منذر جميل في فيلم " تحت سماء واحدة " وهو من إنتاج عام 1978. وبعد ذلك لعبت دور " عطية " في المسلسل الشهير " الذئب وعيون المدينة " للفنان المخرج إبراهيم عبد الجليل، وفي ذلك المسلسل تم الاتفاق معي على أن أجسد دور " عطية " - الشاب البغدادي الذي ينتمي إلى أبناء الطبقة الفقيرة الحالمة بمستقبل أفضل - في جميع أجزاء المسلسل، لكني لم أتمكن من الاستمرار بتجسيد الدور في جزء المسلسل الثاني " النسر وعيون المدينة " بسبب مغادرتي العراق. فعند البدء بإنتاج الجزء الثاني من المسلسل، كانت الحرب العراقية الإيرانية قد اندلعت، مما جعلني أتخذ قرار الهروب من العراق حيث الكويت وقد ناب عني الفنان جلال كامل في تمثيل الشخصية.
وهناك في الكويت عملت في مجال الإخراج مع مؤسسات فنية مهمة مثل مؤسسة " النورس " و " البيت الإعلامي " المملوكة للشاعر والكاتب العراقي زهير الدجيلي، ومن خلال عملي هناك قدمت العديد من الأعمال التلفزيونية والإذاعية في مجالي الدراما والمنوعات، وكانت بحق فترة فنية وعملية مهمة جاء النظام الدكتاتوري السابق ليقتلها في احتلاله للكويت عام 1990. حينها رجعت وزملائي إلى العراق وعملت في تلفزيون بغداد مخرجاً لبرنامج " ساعة في الأسبوع " الذي حصل على صدى جماهيري واسع، كان البرنامج من إعداد الفنان جميل حمود. وعلى صعيد التمثيل، اشتركت في عدة مسلسلات منها " دنانير من ذهب " إخراج فيصل الياسري كانت لي بطولة المسلسل بالاشتراك مع الفنانة هند كامل، وكذلك بطولة مسلسل " خيوط من الماضي " للمخرجة رجاء كاظم، ثم مسلسل " المسافر " مع كاظم الساهر، وقمت بدور الشقيق الأكبر لكاظم الساهر. وهناك تجارب أخرى في المسرح والإذاعة وعدة تمثيليات، لكن للأسف الشديد نحن نتكلم عن وجع الماضي، حيث أغلب الأعمال حرقت مع الأرشيف الفني والثقافي العراقي عند سقوط النظام السابق.
أما آخر تجربة لي في التمثيل، كانت هنا في الدنمارك حيث أقيم الآن، وكانت من خلال فيلم " صائد الأضواء " للمخرج الفنان محمد توفيق. وهنا أيضاً في الدنمارك، وتحديداً في مجال الإخراج، أخرجت خمسة أفلام سينمائية قصيرة وهي " راكا " و " جبار " و " إنهم يصنعون الحياة " و " حياة في الظل " وأخيراً فيلم " قطع غيار ".

* ضم مسلسل " الذئب وعيون المدينة " الصفوة من فناني العراق، فهل تعتبر دورك في تجسيد شخصية " عطية " ابن الفنان سامي عبد الحميد " أبو عطية " بمثابة الدراسة الأكاديمية لصقل موهبتك؟
- أستطيع أن أقول بأن دوري في شخصية " عطية " يعد مرحلة فنية لها وقعها الخاص في تجربتي الفنية، وهو بحق من الأدوار التي بنيت عليها آمال كبيرة، حيث كان يشكل بالنسبة لي ولغيري من الفنانين العراقيين دراسة عملية وأكاديمية مهمة جداً. فالمخرج الفنان إبراهيم عبد الجليل حين حل في الوسط الفني العراقي قادماً من مصر كان يحمل تجربة غنية في مجال إخراج الدراما التلفزيونية، وقد بذل جهداً كبيراً وخاصاً في المسلسل محاولاً إخراج الممثل العراقي من نمطية كانت غالبة في ذلك الوقت، مما جعل المتلقي العراقي يرى عملاً جديداً بنكهة وحبكة أضافت إلى النص المتميز الذي كتبه الكاتب عادل كاظم تألق إبداعي آخر. والحقيقة أن أي عمل جيد خصوصاً إذا كان المخرج متمكن ويشتغل على النص بحرفية عالية سيكون درساً عملياً وأكاديمياً مهماً إلى كل مجموعة العمل.

* هل صحيح أن الرقيب على الأعمال الفنية العراقية فترة النظام السابق كان سياسياً أكثر منه فنياً، وأن الكثير من الدخلاء على الفن كانوا يتدخلون ويفرضون رأيهم على الفنان؟

- يعد دور الرقيب على المنتج الإعلامي والأدبي من أهم وسائل الدولة في تعزيز فرض سيطرتها على المتلقي وفرض هيمنة اتجاهها الفكري والسياسي وتسويق خطابها. فالرقابة تبدأ من رأس الدولة نزولاً إلى الوزير والمدير العام ورئيس القسم وفي أحيان كثيرة يكون الرقيب وميلك في العمل مثل المونتير والمصور ومقدم البرامج، الكل رقيب، سواء بإرادته أو بحكم خوفه من غضب السلطة. من هنا يتضح بأن الفنان العراقي كان محاطاً بأسلاك شائكة لا يستطيع القفز عليها إلا ما ندر، وهذا ما يجعله أمام مصير مجهول في حال جاوزه على ما تراه الرقابة والرقيب. وقد عرفت دور الرقيب ومرارته منذ البداية، كان ذلك في فيلم " بيوت في ذلك الزقاق " حين قام طارق عزيز حينذاك بدور الرقيب على الفيلم بعد سماعه لآراء الكثير من الرقباء حول الفيلم مما أوقع المخرج قاسم حول في شباك رقيب الدولة - دولة الرقيب - فقرر الهروب خارج العراق. وبالمقابل نجد موقف آخر لا يقل سلبية وجهالة لدور الرقيب في تلك الفترة، فعند قراءة سيناريو فيلم " القادسية " للمخرج صلاح أبو سيف تجد أنه مليء بالأخطاء التاريخية، ولم يقوم الرقيب بدوره في تصحيح تلك الأخطاء، أي أن للرقيب دور مزدوج، يتمثل في منع الحقيقة من الظهور، وكذلك تزييف الحقائق وإن كانت تاريخية وموثّقة. وبعد كل هذا، حين يفلت الفنان من أسلاك الرقيب ويحصل على موافقته ويبدأ عرض العمل، تبدأ مشكلة أخرى لا تقل غرابة وخطورة، وهي حين لا يروق العمل لفلان من المسؤولين الكبار، عندها يصدر أوامره بمعاقبة جميع من في العمل عقوبة تصل إلى السجن في أغلب الأحيان. ودعني هنا أذكر حادثة وقعت في تلفزيون الشباب سيء الصيت الذي كان يديره عدي ابن الطاغية، حدث ذلك عندما بعث عدي بخمسة أفلام سينمائية أجنبية لمدير المحطة ماجد عبد الحق كي يختار فيلماً للسهرة التلفزيونية لذلك المساء، وصلت الأفلام الخمسة الساعة العاشرة مساء، أي أن هناك ساعة واحدة على بدء بث الفيلم، وهذا يعني استحالة فحص الأفلام الخمسة، فما كان من ماجد إلا أن يسأل الناقد السينمائي المعروف سامي محمد الذي قال حينها، أنه لا يعرف من هذه الأفلام سوى فيلم " اغتيال رئيس " كونه شاهده من قبل في صالة السينما وأنه خالي من "المشاكل " ثم أن الأفلام مقترحة من الأستاذ عدي، وهذا يعني تزكيتها. وفعلاً، تم عرض الفيلم على الهواء مباشرة وإذا به يحتوي على مشاهد جنسية فاضحة، عوقب على أثرها سامي محمد وماجد عبد الحق بالسجن بعد أن تعرضا إلى التعذي.
ليس هذا فقط، بل تصل تفاهة الرقيب إلى منع أغنية جميلة أحبها الناس، هي أغنية " يا صبحة هاتي الصينية " للمطرب موفق بهجت كون أن اسم أم الرئيس " صبحة ". فهل هناك أشرس من الرقيب العراقي؟
إن الرقابة على الأعمال الفنية المرئية والمسموعة وكذلك المقروءة كثيرة جداً ليس في العراق فقط بل في جميع الدول العربية، فهناك لجان مهمتها الفحص والتدقيق على العمل الفني سواء سينما، مسرح، تلفزيون أو إذاعة، والرقابة عادة ما تتكون من مجموعة من الأشخاص لا ينتمون إلى الوسط الفني، فهناك العسكري ورجل الدين والسياسي والصحفي ورجل الأمن والمخابرات وآخرين مهمتهم الرقابة وهناك ممنوعات موجودة سلفاً، لكن وبالرغم من ذلك تجد أن الفنان يجاهد ويصارع من أجل أن يظهر أعماله للناس. ولكن الخطور في كل هذا، هو أن سلطة الرقيب الجاهل والمؤدلج ستنتج بالضرورة أعمال تتناول مواضيع هامشية تافهة كمشاكل الطلاق والزواج والزوجة الثانية أو قصص الحب المملة.

* كيف تصنف نفسك؟ هل أنت ممثل أم مخرج سينمائي؟ وهل تنتمي إلى مدرسة فنية معينة، الكلاسيكية مثلاً؟
- بدأت حياتي ممثلاً، كان ذلك عام 73 مع فرقة النشاط المدرسي التابعة لوزارة التربية التي ضمت عمالقة التمثيل العراقي مثل الفنانة مي شوقي والفنان جواد الأسدي وقاسم صبحي وكامل القيسي ووجدي العاني وفاضل جاسم والكثير من نجوم العراق الذين تعلمت وأحببت فن التمثيل عليهم حتى صار هاجسي الإخراج، وبالفعل درست الإخراج السينمائي في بغداد وكنت من المتفوقين على دفعتي. وأثناء وجودي في الكويت عززت تجربتي الإخراجية مع الكثير من الشركات وأصبحت لدي خبرة عملية جيدة استفدت منها كثيراً عند عودتي إلى العراق، فأنا مخرج، ومن ثم ممثل أجيد العمل في المجالين، أو إن صح التعبير على هاتين المساحتين الإبداعيتين ولكن لكل اختصاص من هاذين الاختصاصين له آفاقه الخاصة، وقد أكون متمكناً هنا أو مبدعاً هناك، ولكن كل هذا يتعلق بالزمان والمكان ومادة العمل والإنتاج. والحقيقة أقول، بأنني لا أنتمي إلى المدرسة العراقية الكلاسيكية في التمثيل إذا صحت التسمية، فلا يوجد تمثيل عراقي وتمثيل مصري على سبيل المثال، لكن الممثل العراقي له نمطية أدائية أخذها من تجربته المسرحية وبدأ يطبقها في السينما والتلفزيون، أما أنا، فأمثل بتلقائية كبيرة إلى الحد اللذي تراني فيه ببعض الأحيان غير متناغم مع المقابل إذا كان يتمتع بنمطية لا تتوافق وتلقائيتي.
أما كمخرج، فأعمل حتى اللحظة على ما هو متوفر من إمكانيات إنتاجية تمنح لي. فكل عمل تستطيع أن تراه وتحكم عليه بناء على مستوى الميزانية المخصصة، فميزانية الفيلم هي أهم عائق يواجهها المخرج العراقي. الفنان يعرف تماماً ما عليه عمله من أجل إنتاج عمل متكامل ومؤثر، ولكننا نراه وقد أخفق هنا أو تعثر هناك بسبب عدم توفر أهم محرك فعلي يرتكز عليه في إنتاج أعماله، وهو رأس المال.

* في فيلمك الأخير " قطع غيار " أظهرت لنا شخصيتين تشترك المأساة بينهما لتشكل حياتهما على إيقاعات حالمة لا تخلو من طعم الألم، فما فحوى الرسالة التي حملها شريط الفيلم، ومن هو صاحب العنوان الذي كتبته على مظروف رسالتك؟
- فيلم " قطع غيار " رسالة إلى من يهمه الأمر، إلى من يهمه رعاية مَنْ سُرِقَ منه الزمن وفقد أجزاء مهمة من كيانه وجسده وعالمه، الفيلم صرخة بوجه الحرب، وإشارة للتنبيه حيث معوقي الحروب الذين يعيشون بيننا. إشارة إلى ضرورة التفكير بجدية في إيقاف سيل الأجساد المبتورة والأحلام المقتولة بسبب الحروب.
الفيلم يتحدث عن شخصيتين، الأولى هي الجندي المكلف أياد محمد الذي فقد بصره جراء حرب تحرير الكويت فأصبح أسيراً للظلام يحمل داخل روحه المتعبة أمل وحيد، هو أن يرى وجه ابنه وملامح زوجته التي تزوج بها بعد أن فقد بصره. أما الشخصية الثانية، فهي شخصية الفنان التشكيلي ياسين عطية، ذلك الإنسان الحالم الشفاف الذي تعرض إلى سرقة الزمن حين قضى قرابة الست سنوات في سجن " أبو غريب " حيث الزنزانة الخاصة أحياناً والأقفاص المنفردة أحياناً أخرى بسبب محاولته الهروب من العراق فترة الحرب العراقية الإيرانية، كونه فنان يعشق الحرية ولا يطيق رائحة دماء الضحايا. وعلى الرغم من كل ذلك، ما يزال يرسم ويغني ويتذكر أسمال أمه ونخلة الدار، حيث نجده من خلال سرده لحكاياته وبالرغم من كل شفافيته، إلا أنه ما يزال متأثراً بأجواء الرعب وكوابيس السجن.
والحقيقة أن لهاتين الشخصيتين دلالتهما الرمزية التي تشير إلى كل ضحايا الحروب والسياسات القمعية، الذين يعيشون بيننا الآن وهم يعانون الإهمال والتهميش، بل وحتى السخرية في بعض الأحيان. وهناك حقيقة أخرى أراد الفيلم أن يضعها أمام الضمير الإنساني، هي أن أعداد هؤلاء الضحايا تتزايد بشكل مستمر ومخيف نتيجة الإرهاب واستمرار الحروب، وعنوان الفيلم " قطع غيار " يتجاوز بدلالته حالات العوق وظروف المعاقين الخاصة، فهو يشير إلى شريحة كبيرة من أبناء المجتمع العراقي وحاجتهم إلى قطع غيار لترميم الروح القلقة والمضطهدة. فالعراق لم يعمل على جرد وتصفية خسائره من الحروب السابقة حتى اللحظة، الشهداء والأرامل والأيتام والمقابر الجماعية وحلبجة ومشاكل في والتلفونات والمجاري وكل مجالات الحياة، كل هذا لم يحسب غاية الآن. حتى صار الفرد منا بحاجة إلى قطع غيار كي يواصل طريقه في هذه الدنيا، قطع غيار جسدية أو نفسية وحتى روحية، تساعده على التأمل والتطلع إلى غدٍ مختلف. وإذا استمرت مهرجانات الدم العراقي المنساب بمباركة (أحباب الله) المدعوين إلى ولائم الغداء مع الرسول عليه الصلاة والسلام - والرسول منهم براء - حسب ما تمليه عليهم عقول الإرهاب العفنة، سيحتم علينا أن نطالب الدول الصناعية المتقدمة وبالتحديد اليابان كي تغير من طبيعة إنتاجها وتبدأ بإتناج قطع غيار للشعب العراقي، والإرهابيون يضمنون لليابان سهولة تصريف بضائعهم الجديدة في العراق وعلى مدى 50 سنة قادمة.

* أنت تشبه إلى حد ما شخوص فيلمك " قطع غيار " فأي سيناريو ستختار للفيلم الذي يتحدث عنك؟
- إن شخصيات فيلم قطع غيار هي شخصيات " معطوبة " كما أطلق عليها الناقد عدنان حسين أحمد في إحدى مقالاته عن الفيلم، وبما أني في تمام الصحة الجسدية، فمن المؤكد اقترابي من شخصية الفنان ياسين عطية الذي يحاول أن يعمل على تعميق مفهوم الجمال لدى المتلقي رغم مأساته، وأعتقد أن الفن يمتلك سحراً من حيث تأثيره على مجريات الحياة. وأنا أحاول كما الفنان ياسين عطية والغالبية من الفنانين العراقيين، أن أظل شاهداً على كل هذا الخراب العراقي، ولكني أعترف بالصعوبة التي تصل حد الإحباط أحياناً في تقديم شيء ممكن أن يساعد على تجاوز الإنسان العراقي محنته، فالمشهد العراقي اليوم كارثي، وكارثيته عالمية. نتمنى أن يكون الفنان العراقي جزءاً من الحل، جزءاً مهماً في فهم هذه المعادلة الصعبة، فللفنون وطرق الإبداع، والسينما والتلفزيون على وجه الخصوص تأثيرها المهم والمباشر، وأنا متأكد من أن الفنان العراقي والمخرج بشكل خاص على أتم الاستعداد في المشاركة من أجل تعميق مفهوم قبول الأخر وليس إلغائه.

* أعود للسؤال الأول، وعلى ضوء أجابتك أسأل: لو أنيطت بك مهمة تأسيس مؤسسة سينمائية عراقية جديدة، فمن أين تبدأ؟
- يجب أن تكون البداية في إيمان الدولة بضرورة إنشاء مؤسسة سينمائية مهمتها إنتاج أفلام سينمائية تهدف إلى ترميم الجسد العراقي المثخن بالجراح. وألا تنظر إلى السينما على إنها وسيلة ترفيهية. بعد التأكد من تلك النية وصدقها، علينا أن نعيد فتح دور السينما العراقية من جديد كي يرجع جمهور السينما إلى السينما، وليس لشيء آخر. ففي بلد لا وجود فيه لصالات العرض السينمائية، لا يمكن أن يطلب من المؤسسات الأهلية وشركات الإنتاج السينمائية إنتاج أفلام تهتم في محاكاة الواقع العراقي الراهن. وبالإضافة إلى ما ذكرت في معرض حديثي عن الإنتاج ورأس المال وأهميته في النهوض بواقع السينما العراقية، أقول بأن السينما العراقية بحاجة إلى إجراء عمليات جراحية كبرى من خلال ترميم وتقويم المعاهد والكليات التي تختص بتدريس فن السينما، أو فن الصورة، بالاعتماد على الخبرة العراقية المهمة الموجودة داخل العراق وخارجه وهذه الخطوة حسب ما أراه من شأنها أن تنهض بالواقع السينمائي العراقي خلال فترة زمنية قياسية.

halsagaaf@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف