الحلم يبدد رغبة العدم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
علي البزاز من أمستردام:من الصعوبة بمكان تصوير شخص يعرف أنه آجلاً أم عاجلاً سينتمي إلى عالم الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة وبالتأكيد سيكون الكرسي المتحرك وسيلته والتي من خلالها يذرع العالم متغلباُ بها على اليقين المؤدي إلى الإحساس بالعجز، بهذه الوسيلة أيضاً يدمّر رغبة قاتله على إفنائه.كرسي متحرك ينطوي على أحلام ضد رغبة العدم ينبغي لها الإفلات من قبضة عجلاته. واجه فيلم المراسل البغدادي هذه المعضلة: تصوير مراسل قناة العربية جواد كاظم بعد تعرضة لمحاولة إرهابية إسهتدفت حياته، شخصية وطبيعة عمل جواد تُسهمان بتعقيد مهمة التصوير، فهو شخصية مرهفة يود الوصول إلى حقيقة الوضع الشائك في العراق (نُلاحظ هذا من خلال تغطياته الصحفية) صحفي يعرف مسبقاُ الأسئلة التي ستطرح عليه والغاية منها فقد مارس هذا الدور في عمله وفي ذهنه كل ردود الأفعال المحتملة ويستطيع ممارستها بمهارة، كما أنه شجاع سريع البديهية غير قابل للإبتزاز، عصي ّ قاوم التهديد وفي ذات الوقت تغلب على رغبة الاستسلام كرهينة وعرف فجأة انه مهدد بالقتل وبالسرعة حسم خياره بين الموت والاختطاف. الإنسان بطبيعته لديه الرغبة في البقاء حيّاً وإن كان رهينة أو تحت التهديد لكن جواد بحسه الصحفي أيقن أن الاختطاف والعيش تحت رحمة الإرهاب وربما يساء إليه بإرغامه على القيام بإعمال تخدم الإرهاب هو الموت ذاته.المرء يقف هنا إزاء شخص يًضحي بحياته من أجل إلا يًنفذ قصاص الإرهاب وبالمقابل هناك سياسيون عراقيون حياتهم مؤّمنة من خلال طاقم حماية يكلّف العراق أموالاً طائلة ينفذون قصاص الإرهاب ويقتلون المواطن.
الفيلم يصور الصحفي جواد كاظم مراسل قناة العربية بعد محاولة إغتياله الفاشلة في حي المنصور المأهول بالسكان والتي اسفرت عن اصابته في منطقة القلب والرقبة - قتل علنيّ كالذي يحدث يوميا بالعراق.
ثم تلكؤ كل من القوات الأمريكية والجهات العراقية بإنقاذه لان مهنة الصحافة مكروهة حتى ولو كانت مرائية فلابد عندئذ من أن تًغيظ جهة ما في نفاقها لصالح جهة أُخرى ولما كان الهدف من العمل الصحفي في غايته الذود عن الحقيقة المقموعة ليتقبلها العالم على رسلها وليس وفقاً لغاياته إذاً فالحقيقة منبوذة نوعاً ما من قبل كل أطراف الصراع فما بالك في بلد محتل لا يُعرف فيه مصدر القرار، بعد الإحراج الإعلامي الذي سببته قناة العربية للقوات الأمريكية يُنقل جواد إلى الأردن ثم إلى لندن بعد علاجه في السعودية وبعد تيقنه من حقيقة ان لا فائدة تًرجى من علاجه أكثر من تأهيله كمُقعد للتعامل الحياتي والروحي مع الكرسي المتحرك يذعن للواقع الحياتي ويرفض الإملاء الأخر بالعجز الروحي فيقول (أتمنى أن أعود من جديد صحافياُ في موقع الحدث) هذا التعلق بالعمل أصاب رغبة الإرهابيين بالصميم فهو كحال إي عراقي يرفض العقاب وينشد السعادة من خلال التشبث برسالته المهنية لذا يقرر العودة إلى العراق تاركاً لندن ليعمل مجددا في قناة العربية. المدهش إننا لم نشاهده في حِداد على حياته أوفي ندم أو في موت
لقد نجح الفيلم بتجاوز معضلة تصوير الصحفي جواد والذي أصبح منذ محاولة الاغتيال في تحدٍ دائم لإلغاء سيادة الكرسي المتحرك على مشاعره وسبب النجاح يكمن باعتقادي في تجربة المخرج قتيبة الجنابي مع كاميرا التصوير الفوتوغرافية: إنشغل المخرج منذ السبعينيات بالتصوير الفوتوغرافي وبنى لنفسه علاقة حميمية مع الكاميرا من خلال تصويره الناس والأمكنة مما سهل عليةإمتلاك قلب المكان وإقامة علاقة تعاطف متبادلة أساسها التوثيق والتعايش اليومي فالمصور الفوتوغرافي على شاكلة قتيبة هو نتاج الناس والمكان، علاقة لها نفس شغف التعلق بالمأكل والملبس. (صدر حديثا للفنان قتيبة الجنابيّ كتاب فوتوغرافي بعنوان " بعيداُ عن بغداد " يتآصر فيه مع الناس والأمكنة) الكاميرا الفوتوغرافيّة عند قتيبة هي شعبيّة لا تستغني في إنجازها عن موضوعة الناس والمكان لذلك نجح في التعامل مع جواد دون أن يؤذي مشاعره مستفيداً من الكاميرا الفوتوغرافية. كما إن المخرج قتيبة كان في اغلب الأوقات هو المصور، فعندما أختصر طاقم التصوير إلى عدد قليل أصبح جواد عندئذ أمام فريق عمل صغير مما سهل له البوح أمام الكاميرا دون الإحساس بأنه موضع شماتة وتندر وهو الصحفي الذي ألف الكاميرا من خلال عمله كمراسل ولكن معافى جسديا، صغر كادر التصوير أضفى على المهمة أُخوة وملامح الاحترام المتبادل
المبدع يملك حقاً في ذاكرته وخبرته في صبره وألمه، حق يجعل المحنة بمصاف الوردة والقفل على هيأة مفتاح وبهذا التجسيد للقفل على انه المُخلّص يقضي على عنف الهاوية
مشهد جواد في سيارة تجوب به شوارع لندن من المشاهد العفوية الجميلة أًريد منها المقارنة مع حالة العراق البلد المُقعد الجالس على الكرسي المتحرك: حركة الناس الآمنة، الإشارات الضوئية، المرور قرب قصر باكينغهام دون حراسة أو مراقبة ثم مشهد التقاء جواد بشخص مُقعد مثله يجلس على كرسي متحرك ذي إمكانيات تقنية تخدم صاحبة فيقول جواد (كيف يهتمون بالمواطن). في الغرب يكافىء المواطن بالعرفان على إنتمائة وفي الشرق يًكافىء بالموت على وطنيته. ينتهي فيلم المراسل البغدادي بمشهد يصور عودة جواد إلى الأردن تم تظهر كتابة على الشاشة تقول: (عاد جواد ليعمل في قناة العربية في دبي بدلا من عودته إلى بغداد نظراً لخطورة الأوضاع الأمنية ) نهاية لم تخدم الفيلم فنياً، ومعنويا لم تؤازر جواد في سياق شجاعته وصبره. كل مشهد في السينما يتم بناؤه بتفاصيل مدروسة فما بالك بالخاتمة التي هي الجناح، يحلق بواسطتها الفيلم إلى عقول المشاهدين. كل شيْ تقريبا يتم تجنيده ليخدم الخاتمة وينشد مباركتها. السينما تسلب المشاهد زمنه الآني وتلقي به في الزمن المستقبلي الذي لا يحدد معالمه إلاَ المخرج وتجعل المشاهد يفكر بغير الذي يشاهده أمامه ويتلهف للنهاية والتي ربما يتوقعها أو يفتعلها وعموما كل الفنون تمارس هذا السحر على المتلقي الذي يتوق لمعرفة الخاتمة وينجو الرسم من هذه الحالة إذ لا يتوقع المشاهد الخاتمة في اللوحات أو التماثيل، أما الشعر فهو أدب غير محزور والسينما أكثر الفنون ممارسة للسحر لأن الصورة تسحر العين والحواس والجسد فحتى عندما ينتهي الفيلم ويصادف المشاهد نور الشمس الطبيعي يبقى فترة معينة تحت المخدٍّر وتحت تأثير الضوء الاصطناعي = ضوء الفيلم !!.
وهكذا فاختيار خاتمة كتلك التي في " المراسل البغدادي " يحيلنا مباشرة إلى التفكير بمصير السينما عندما تخضع لرحمة التمويل أو لرغبات القنوات المنتجة إذ تفرض عليها اعتبارات معينة تنحاز إلى الدعاية الحماسيّة أكثر من مساندة الشكل الفني والتفكير كذلك بمأزق الفيلم الوثائقي التلفزيوني الذي يميل إلى الاقتصاد باللغة السينمائية مداراة لرغبة التلفزيون وجمهوره والقناة الممولة.
هناك مشهد جميل في الفيلم ومعبّر درامياً عن حالة جواد المستقبلية وعن شخصيته كصحفي أذهل قاتله بالتحدي وهو أبلغ سينمائياً من مشهد الخاتمة المُشار إليه الهدف منه كان الإشارة إلى المأساة بإيماءة متفائلة إذ يقول " سيصير الكرسي بالنسبة لي كواقع الحال " المشهد: جواد على كرسيه يسير في ممر ضيّق وطويل في فندق وعندما يقترب من الأبواب الزجاجية تنفتح اوتوماتيكياُ ليجد نفسه أمام المصعد الكهربائي- ُصوّر المشهد ببراعة بعدسة وايد انكل -. ضيق الجدران ترمز إلى محدودية حركة جواد ولكنه رغم ذلك يقطع ممراُ طويلا أي حركة إلى المستقبل وضد الجلوس الإجباري بفعل العاهة، ا لمصعد يدل على تغيير الحالة وهو واسطة للوصول إلى الهدف هنا الرغبة بالخلاص، إرادة في العيش والتنقل = الحلم. يقول هيغل (إننا نفكر بالكلمات) وتقول السينما: إننا نفكر من خلال الصور
*عُرض الفيلم في مهرجان روتردام للفيلم العربي من 13 - 17/6/ 2007