السينما

قراءة جديدة للفيلم العراقي الطويل أحلام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ضحايا يشهدون على برائتهم

علي البزاز من أمستردام: ليس عجباً أن يقوم شخص مجنون ببناء ماهدمه الأسوياء في بلد يعاني من أمراض كثيرة , الجنون يخبىء في ثناياه العقل المتبني ظاهرياً اللامبالاة والبلادة ليحافظ على سلامته من إنتهاك الدولة والمجتمع له. هناك كتاب ظريف للنيسابوري في القرن الرابع عشر الهجري إسمه " عقلاء المجانين " يؤرخ لهذه الفئة الفريدة من المجتمع - المجانين - أشعارهم، نوادرهم المراد منها نقد بيئتهم ومثل هذا النقد يتطلب تحكيم العقل، وعي قد إنجلت عنه المساومة والمنفعة كمرادفين للتقرب من السلطة. { يعزو فرويد وظيفة الوعي الأخلاقي إلى محكمة عليا , الأنا الأعلى : ومهمة هذا الوعي تنظيم أفعال الأنا وتّدخلاتها، ومحاكمتها، وممارسة الرقابة عليها ( الضبط ). وربما يكون شعور الجُرميّة متوقّفاً على قساوة الوعي " هكذا نعرف أصلين للشعور بالجرم : أحدهما هو الخوف أمام السلطة , وثانيهما , لاحق , هو الخوف أمام الأنا الأعلى. لقد رأينا كيف يمكن فهم قساوة الأنا الأعلى أي أوامر الوعي، إنها بكل بساطة إمتداد لقسوة السلطة الخارجية التي عزلتها من وظائفها وحلّت جزئياً محلها - سيكلوجية التعصب منشورات دار الساقي }.

مشهد من فيلم أحلام


عليّ المجنون في فيلم " أحلام " للمخرج محمد الدرّاجي ( جسد الدور الممثل بشير الماجدي ) يبني ومن واجب العقل ما تهدم في بغداد بعد الإحتلال، جنون ينطوي على عقل نراه من خلال محاولته إسترداد ما تم نهبه من مشفى المجانين حيث يرقد هناك للعلاج ويشارك الدكتور مهدي العمل على إعادة المجانين الهاربين, اللصوص هم عراقييون أسوياء جسدياً ولكن الإصرار على النهب يدل على خلل أخلاقي وإجتماعي سببه غياب العقل ثم عدم الإنتماء الواضح إلى الوطن هؤلاء وبوجود سلطة شرسة وقوية ( أرغمتهم على التخلي عن إشباع غرائزهم ونزواتهم المصدر السابق ) يقومون بهذا النهب ويحبذونه ربما يعلنونه كفعل معاكس لبطش الدولة هذا التشوش في الإنتماء ( سرقة ) وفي ممارسة النزوة كردة فعل لغياب السلطة يقترب من التشوش العقلي الذي هو بالتأكيد غير الجنون لأن الجنون صافي النظرة والغاية، أما الثشوش العقلي فمنسجم مع الإرتباك بكل شيء، إشباع النزوات، الإنتقام من نظام أذلَّ كرامة الأنا العليا في حين الجنون ينتج عن طريق معاكسة واضحة فارضة لإرادتها على المحيط تجد عثرة في مساعيها فيوثر العقل الانزواء طمعاً بملاذ آمن، ولأن هذا العالم هو مقلوب أصلاً لذا يبدو المجانين في عرفنا نحن مواطني العالم المتشوش غير أسوياء. هذا المجنون الواعي ( عليّ ) لوظيفة العقل يقتله إرهابي من فدائيي صدام.
الفيلم يدين نظام البعث من خلال تبرئته لثلاثة من ضحاياه الذين عبّروا عن وطنيتهم بمجرد أن سنحت الفرصة لهم، أي إستجابوا لوظيفة الوعي الأخلاقي. ما أسهل في العراق من تلفيق التهم وما أيسر العقوبة، النظام في العراق بنى لنفسه إحساسا غريزياً بإمتلاك العراق كسلعة وبتجريم خصومه وحتى المواطن البسيط يعاقب في حالة المشاغبة ومعاكسة قبضة البعث , أباطيل شتى وعقوبات لم تمارس من قبل بحق إنسان. الدكتور مهدي ( جسد الشخسية الممثل محمد هاشم ) يُعاقب بجريرة والده الشيوعي المعدوم، يُحرم لذلك من مواصلة تعليمه العالي ويلحق بالخدمة في مشفى المجانين. يلاحظ المرء بسهولة النظّرة الدونيّة للنظام العراقي للمجانين فالطبيب الذي يعالجهم معاقب غير محترم في نظره بينما في الغرب ينال هؤلاء الرعاية الازمة ويُعد لهم أفضل الإطباء، والفتاة أحلام ( جسدت الشخصية الممثلة أسيل عادل ) تعاقب لإرتباطها الشريف والانساني بزوج معارض فتصاب بصدمة نفسية تؤدي بها الى المشفى، أما علي فيُدان بالتخاذل لعدم قيامه بواجبه العسكري على الحدود العراقية السورية في أثناء الحرب والواقع كان علي يحاول إنقاذ صديقه الجندي إثر إصابته بشظيّة من جراء القصف فيكون جزاؤه قطع أُذنه يسبب له إنهيار عصبي يلزمه العلاج في المشفى. بإستناء مسؤولية علي المباشرة فإن التهم الاخرى غير مباشرة : أحلام عن طريق خطيبها ومهدي بسبب والده = تهم بالوراثة. من خلال متابعة القصة يكتشف المشاهد بأن الفيلم يتكون من جزءين الأول يستعرض علاقة الشخصيات بالنظام من خلال التعرض إلى ماضيها حتى لحظة إحتلال بغداد والجزء الثاني يبرىء الضحايا عبر جهودهم في إسترداد ما تم سرقته. قصف مشفى المجانين وخروج هؤلاء الى الحياة العامة يبنون ما تهدم فكرة سينمائية مثيرة حيث يشهد ون على الواقع الإجتماعي المزري ( نهب ) وعلى بغداد وهي تحترق و طبعاً على الإحتلال الامريكي عندما يمنع الجنود عائلة أحلام من إنقاذها حينما تدخل إلى بناية الاتصالات العالية، الجميع يشترك في حيازة العقوبة التي مصيرها الزج بهم في المشفى. رافق الجزء الاول الكثير من السرد العشوائي غير المبرر مسببا الترهل وكان بالإمكان إختصار الكتير من المشاهد إضافة الى وجود مواقف سطحية ميلودرامية مستلهمة السينما المصرية فمثلا : مشهد إعتقال خطيب أحلام ليلة زواجه الذي يتناغم في سطحيته مع مشهد إغتصاب أحلام وتصوير دمها المراق على الأرض، ( لايتدفق الدم بهذا الشكل جراء الإغتصاب )، لغة رمزية سطحية، لايعدم اي مخرج وسيلة الوصول إلى لقطة معبّرة أخرى ففي العراق الكثير من الاهوال ومن المصائب التي تصور إنتهاكات الانسان فمرور دبابة أمريكيه في أثناء عملية الإغتصاب لهو كافٍ ليوحي بإنتهاك شرف البلد والمواطن معأً. كما أن وجود أحلام من عدمه لم يؤثر سينمائياً في بناء الفيلم إلاّ من ناحية إستدرار العواطف الانسانية والتضامن مع محنتها لكونها إمراة.

المخرج العراقي محمد الدراجي هناك مشهد جميل في هذا الجزء : إبريق شاي على طباخ صغير في أحد الملاجىء وحالما يغلي الماء في الابريق ويفور محركاً الغطاء يهتز الملجىء جراء القصف المدفعي { فوران الماء يتزامن ويندمج دلالياً مع إهتزاز الملجيء } وهذا يشبه مشهداً آخر جميل أيضاً في بداية الجزء الثاني : تتعرض أحلام إلى صدمة كهربائية (كوي عصبي ) في المشفى ويرتج جسدها بشدة جراء شحنة الكهرباء يترافق مع إنهيار سقف غرفة العمليات نتيجة القصف. لقد سنحت للفيلم فرصة عظيمة وهي تصوير بغداد تحترق "ديكور طبيعي " كان من الممكن إستعماله بشكل بصري ليخدم القصة فما الذي يحتاجه عندئذ السينمائي أكثر من هذا الديكور الذي يشي بأفكار كثيرة وربما بتأسيس إرشيف وثائقي لبغداد في ذلك الوقت. وقع الفيلم في إلتباسات فكرية وتأريخية / سياسية.، الفكري : غاب عن الفيلم التوصيف الدقيق للجنون ولذلك فُرض على ( عليّ ) تأدية حركات البلاهة للتعبير عن الجنون مما جعل شخصيتة مفتعلة وأثقل على الإداء. إلتباس سياسي /تأريخي محاباة لجهة ما : عندما يقوم أحد المعارضين بتوزيع المنشورات السياسية عام 1999 وصورة الصدر الثاني بجانبه والمعلوم ان نشاط جيش المهدي بدأ عام 2003 هذه المحاباة تستمر في مشهد أخر:
رجل دين يشارك عائلة أحلام بالبحث عنها بعد فرارها من مشفى المجانين، لايبذل جهداً في عملية البحث، فقط يسير مع ذوبها ولايحرك ساكناً ( وفي شأن آخر يتمنى المرء الا يّنكب في صفاء سريرته عندما يستبعد إحتمال إختيار الأسماء مثل علي، ومهدي موصولاً بإختيار العمامة السوداء ). الفيلم هنا يعطي إنطباعا بأن الاحزاب الإسلامية سيكون لها دوراُ بارزا ًفي عراق المستقبل وهو حرّ بأرائه وأستشرافاته ولكن كهكذا مواقف مهمة تستحق أن تُبنى بشكل سينمائي مدروس كأن يقوم مثلآ رجل الدين بالبحث والتقصي عن مصير أحلام إن هو أراد فعلاً ان يكون له ذلك الدور. مشهد قتل عليّ من قبل شخص ملثم من فدائيي صدام من المشاهد المصيرية والمهمه حيث يستشرف الفيلم الخراب الذي سيقوم به هؤلاء الملثمون في تدمير العراق و إستخدام اللثام له دلاله جميلة تعني هنا الغموض والتنكر يشيران فعلا للتفاصيل المليئة بالأسرار التي تحصل الان في العراق ولكن هذا المشهد المفصلي مرَّ عليه الفيلم بشكل عفوي وسريع ولم يؤكد بشكل قاطع من خلال القصة على شخصية قاتل علي بل تُرك الامر للحدس في حين يجب بناؤه بشكل دقيق في متن الدراما و يحتاج الى توضيح الوضوح. المخرج الشاب محمد الدراجي قد عرّض حياته الشخصية للخطرلإنجاح فيلمه وتم إعتقالة غير مرّة من قبل الجيش الامريكي يؤازره في ذلك أحلام الفنان المستمده من إسم الفيلم ومن الدافع السينمائي النبيل بكسر جمود الفيلم العراقي الروائي وبهذا يجسد شخصياً طموح فيلمه ( أحلام ). مخرج مثابر وطموح قد خطَّ لنفسه موقعاً في مسيرة السينما العراقية وتجربته في الإصرار سوف تلهم الكثيرين على المبادرة بتطوير صناعة الفيلم الروائي العراقي لعل في هذا مواساة للضحايا العراقيين. ربما يختلف المرء مع أشياء كثيرة في الفيلم من الدراما إلى الإنارة في بعض المشاهد ولكن على المتابع أن يتفق تماما بان الضحايا ومن خلال تفانيهم ببناء عراق الحاضر قد أعلنوا امام الملأ عن برائتهم التي هي إدانة لحقبة زمنية مدمّرة وهكذا كرم الفيلم المتهمين والمنبوذين الذين تشبة تجاربهم مإساة الكتير من المتفرجين في صالة العرض.

damlamar@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف