أنا فنان ولست طاهياً في مطابخ شركات إنتاج الإعلام العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سليمان بوصوفه من لندن: الحديث مع المخرج والمصور العراقي فاروق داوود حول تجربته مع عالم الصورة يحتاج إلى تركيز ودقة لتفكيك الرموز والإيحاءات التي يستعملها في حديثه؛ حتى تشعر وكأنك تستمع إلى سيناريو فيلم درامي بدأ في بغداد ولاتزال أحداثه تدور في عاصمة الضباب.
يقول فاروق عن بدايات تعلقه بالصورة: إن انعكاس ضوء الشمس مخترقاً نافذة غرفته الصغيرة الذي يعطي انعكاسا لألوان الطيف، و اللهب الذي يوقد المدفئة السوداء في منزله الطفولي في مدينة كركوك حيث تتساقط حبات المطر على المزاريب، كلها صور تجذرت في اللاوعي وترجمها إلى أفلام، يكون بطلها أحيانا الجوّ الماطر!
يتذكر فاروق مرحلة صباه في بغداد، ذلك المكان الصغير لبيع الخرضاوات الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة عن سينما (قدْري). كان يدفع خمسة فلس ليشتري من صاحب المحلّ أجزاء من اشرطة السنيما التي أُتلفت لدى العرض ؛ فيشتريها في علب كبريت صغيرة ويعرضها على رفاقه من الصبية من خلال لعبة الكرتون التي يثبت بداخلها العدسة لتنعكس الصورة على الغسيل المنشور فوق السطوح،, إنه يقلد صندوق الدنيا الذي تُعرض من خلاله صور تبدو متحركة.
فاروق سرعان مافقد رومانسيته الطفولية في عملية البحث عن الذات في سن المراهقة؛ لقد التهم أدب نجيب محفوظ و سلامة موسى وطه حسين ؛ ثم بدأ يكبر داخل مجتمع ظالم!! نعم ظالم هكذا يقول مخرجنا , هذه الحياة مليئة بالظلم واللاعدالة؛ لذلك فقد قررت أن أكون مع المظلومين والمحرومين، لقد تعلمتُ فن التصوير في الأزقة الضيقة والحارات والدروب و ( السناسيل) ؛ فلكل درب نكهة وعند كل بيت شعبي رائحة أكل مختلفة , يسألني محاولا إنهاء شرود عينيْه في السماء: هل تستطيع تصوير هذه المشاهد الرائعة في الأحياء الثرية ؟ إنها جسد دون روح،
فاروق داوود أنتج أول فيلم له عام 1975 ( نصف الناس ) كان عن المرأة وعلاقتها بالمجتمع في العراق, يستغرب طريقة عمل - مخرجي آخر زمان أو الطباخين كما يقول- إذا أردْتَ أن تنتج فيلما وثائقيا فلا تتدخل بتعليقاتك دع الناس يتحدثون عن أنفسهم وهذا ما قمت به في جميع أفلامي، في ( نصف الناس) لم أُعلّق وأقول إن المراة مضطهدة في العراق !! لا! لقد صورت النسوة في منطقة الأهوار (هور الصحين في العمارة) وهن يحملن قصبا على رؤوسهن في الصباح الباكر ويدخلن على الرجل القابع في المنزل وهو يمسك السبحة بيد والنرجيلة بيد ؛ ثم صوّرتُ سيدة تبكي أمام المحكمة في بغداد لأن زوجها طلقها , بحجة أنها أنجبت له سبع بنات ولم تُنجب له ولدا!!! لقد رجعَت بي هذه القصة إلى أيام دراستي البيولوجيا في جامعة بغداد حيث تعلّمتُ كيف أن كروموزومات الرجل هي التي تحدد بشكل أساسي جنس الجنين!
هذا الفيلم أغضب ( الرفاق في حزب البعث) يقولها مبتسما : لقد حوّلوني إلى المركز الإقليمي لصيانة الممتلكات الثقافية؛ خصوصا وأنني صورت لوحة de la croix الشهيرة حيث تظهر امرأة عارية الصدر تنادي بالحرية،, ومن سخرية الأقدار وبعد أن منعوا الفيلم ؛ اتصل وزير الإعلام آنذاك طارق عزيز بالتلفزيون وطلب عرض فيلم عن المرأة في 8 من آذار ولم يكن هناك إلا فيلمي فعرضوه.
فاروق عاد إلى نشوة الإبداع والانتاج وتوّج مثابرته بالمشاركة في التمثيل و إخراج عدد من المسرحيات التي أبرزت جزءا من الواقع العراقي المرير ؛ إلا أنه يقول عن تلك المرحلة ( قليل من المسرح , كثير من الإحباط).
يقول فاروق داوود عن هجرته إلى اليمن إن الوضع السياسي آنذاك كان لا يتحمل المبدعين والفنانين ؛ وكان المتخرجون في مجال الفن والسينما عبارة عن مجموعة انتهازية في حزب البعث لا تُحسن إلا لغة الخشبzwj;!
أمضى فاروق عقدا للتعاون مع شركة حكومية يمنية للإنتاج السنيمائي ؛ كانت مدة العقد عاما واحدا, ليجد نفسه الآن في العام السابع والعشرين في ديار الغربة!
في اليمن أخرج فيلم ( أنشودة يمنية 1978) وثائقي يتحدث عن الطبقة المنتجة في ذلك البلد الذي شلّ قدراته استهلاكُ مادة القات المخدرة ؛ وعندما بدأت الحرب بين شطري اليمن ؛ أخرج فيلم ( مُشرّدون -1980) يحكي عن واقع ضحايا الحرب من الأبرياء الذي شُردوا من منازلهم.
في موسكو عاد إلى الدراسة وتحصل على ديبلوم شهادة عليا في السينما ؛ وعن إنتاجاته قال : إن الركض وراء لقمة العيش حالت دون ذلك !
يقول فاروق عن انتقاله للعيش في السويد.... اعتبر أن اللحظات التي استقلّيت فيها الطائرة من موسكو إلى ستوكهولم من أصعب لحظات حياتي ؛ فبالرغم من أنني دخلت أرقى ديموقراطية في العالم؛ إلا أنني شعرت بأن الحياة دون طعم؛ حتى الأكل ؛ خُيّل إلي وكأنني التهم قطعا بلاستيكية! لقد أنتجْت افلاما للاستهلاك الشعبي؛ حتى لا أفقد علاقتي بالكاميرا.
خرج فاروق من السويد ( الدوامة ,حسب تعبيره ) إلى لندن وعمل في عدد من الفضائيات العربية التي وصفها بالدكاكين، كمصور ومخرج قبل أن ينتابه الحنين إلى بلاد الرافدين ويحمل الكاميرا ليُصور الأيام الأولى لسقوط نظام صدام , يقول:، دخلْت عبر الحدود مع الكويت إلى البصرة وأحسست بأن بلدي استُبيح ؛ لقد كان يوما للفرحة ممزوجة بالحزن..وجدْت بيوتا مدمرة..أطفالا حفاة يركضون وراء الأجانب وبأيديهم نقود النظام البائد وآخرون يطلبون جرعة ماء...لقد نسيت أن الكاميرا على كتفي ؛ تحوّلتُ معها إلى كتلة واحدة , فقدْت النافذة frame التي أرى من خلالها!! لأسمع صرخة شعب عريق جريح عمره 6000 سنة !!
لذلك فإن إقامتي في بلدي لم تدم طويلا خصوصا مع استفحال العنف لأعود إلى لندن وأنا أجر أذيال الخيبة،, لقد تركت البصرة , مدينة جميلة بناتُها بسراويل جينز, شعورهم ممدودة تعبث بها الرياح ليتحولن الآن إلى اشباح يرتدين الوشاح الاسود!!
فاروق داوود أنتج في لندن فيلما وثائقيا رائعا ( كوكب من بابل ) للملحن العراقي كوكب حمزة وأخذ منه مجهود تسع سنوات لإنتاجه (1998-2007) كما أنتج عام 1988 فيلما عن الكاتب و الروائي العراقي : غائب طُعمه فرمان الذي يصفه فاروق بطه حسين العراق.
يقول فاروق إن انتاجه قليل لأنه يريد أن يقدم إبداعا نوعيا وقد شارك بأعماله في مهرجانات عالمية : موسكو , طشقند, قرطاج،وغيرها،,كما أنه لا يُحسن استعمال أسلوب العلاقات العامة لاستقطاب رؤوس الأموال؛ وإن أعماله هي أكبر تعبير عن طاقاته ومواهبه ويرفض أن يكون طاهيا في مطابخ صناعة الإعلام العربي التي تجري وراء الكسب السريع بغض النظر عن النوعية.