قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
علي البزاز من امستردام:إنه لأمر محزن أن تثمر العودة إلى الوطن بعد نفي طويل رجوعا ًقسرياً وما يسفر عنها من خيبة وألم نفسي في حين كانت العودة طواعية تزخر بأحلام السعادة ، الكثير من العودات بعد الغياب الطويل لم تثمر ما أُريد لها من الاستقرار والعيش في الوطن بل حملت جوعا الى المغادرة يوكد رغبة في الانفصال لعدم التناسق بين الطرفين ( العائد والوطن ) . لقد تناول أبو تمام هذا التنافر وعدم التشابه بقوله " لا أنت أنت ولا الديار ديار " فيصبح الوطن قوة طاردة تفتقر إلى طعم البيت والعائلة وليس قوة جاذبة هذا يذكرنا بعودة { مصطفى سعيد من لندن إلى بلده السودان في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للكاتب - الطيب صالح - الذي ينتحر بعد رجوعه }! هنا تكمن معضلة المنفي فلاهو منسجماً في منفاه ولا مقبولاً أو متقبلاً لعودته . أُريد لعنوان فيلم " العودة الى بلد العجائب للمخرجة ميسون الباجي جي ،صُور الفيلم في اثناء فترة كتابة الدستور " ان يكون مفتتحا لعهد جديد بكل ما تتضمنه مفردة العودة من شوق وإكتشاف المكان بعد ان تغير كل شيء فيه ؛ النظام السياسي ، المجتمع ، والتضاريس . تعود المخرجة ميسون الباجي جي إلى وطنها العراق من بعد نفي طويل وليس هجرة ، تتزامن عودتها مع رجوع والدها السيد عدنان الباجي جي الشخصية الرئيسة في الفيلم بعد خمس وثلاثين سنة قضاها في خارج العراق . الاب قد أثر على حياة إبنته ميسون اذ زجها بالمنفى .
من الفيلم
يصور الفيلم ومن خلال رحلة العودة إلى بغداد النشاط السياسي للسيد الباجي جي الرئيس الفخري لمجلس الحكم في العراق في فترة حرجة من تاريخ البلد ستؤتر في كيانه مستقبلا وهي فترة كتابة الدستوروتشكيل مجلس الحكم وكم كانت صدمة المخرجة عظيمة في أثناء تجوالها في بغداد ومشاهدتها الخراب والدمار ، الجيش الامريكي الذي يمنعها من الدخول إلى نصب الشهيد . كل شيء تغير حتى ابوعلي سائق العائلة السابق والذي رعاها في صباها . عودة مكثت في الصدمة والبحث عن الحقيقة أكثر من بقائها في كنف الوطن المصدوم من جراء عدم إستثمار فرص التغيير بسبب الأنانية السياسية والطائفية مما سهل لهذا العودة الرجوع من حيث جاء الاثنان : السيد الباجي جي نراه في نهاية الفيلم في لندن بعد فشل حلمه من ان يصبح رئيساً للعراق مكافاة لخبرتة الطويلة كدبلوماسي معارض وميسون تعود إلى منفاها في لندن . يستثمر العنوان " بلد العجائب " حكايات الف ليلة وليلة ماضيا وحاضرا ، فالعراق موطن هذه الحكايات والتي اصبحت فيما بعد مثالا للامعقول وفانتازيا الخيال وقد صار البلد الآن من إحدى حاكايات الف ليلة وليلة يذكر إسمه للإيحاء الى الغرابة وإلى اللامعقولية بسبب مايجري فيه من حوادث تفوق في غرابتها واسرارها حكايات الف ليلة وليلة . فهاهو شخص عراقي يُصرّح و بكل جرأة امام الكاميرا " انا اعمل في تجارة تهريب الماشية إلى بلدان الجوار " وهو يعرف العواقب السيئة لهذه التجارة على الإقتصاد ، منذ متى كان العراقي يشيد بالتهديم علانية ودون أدنى تحفظ ؟ ومدرّس مكلوم في إلإعداية المركزية في بغداد التي تعرضت إلى السلب والحرق عندما يعرض دفتر خطة دروس قديم من عام 1963 حُرق في اثناء أحداث السلب ، دفتر الخطة يتضمن تفاصيل المناهج العلمية وحرقه يقود إلى حرق العلم الذي بين دفتيه و تراث المدرسة التي ساهمت بتعليم الكثير من الشباب العراقي وإتلاف تفانيهم الدراسي وذكرياتهم ، فهذا كله لا يحدث إلا في خيال حكايات العجائب . عنوان الفيلم كان موفقا في الايحاء بهذه الثنائية فالعراق ارتبط إسمه بحكايات الف ليلة وليلة / المرادفه لحكايات العجائب ويمكن ان يُشتشف من العنوان ان مايحدث في العراق هو خارج المعقول والمخطط له ويندرج تحت العجائب ومما لاشك فيه ان حدائق بابل قد صُنفت ذات مرة من " عجائب الدنيا السبع " .
المخرجة ميسون الباه جي جي ورغم ان المخرجة ميسون إبنة السيد الباجي جي وهذه الصلة تمنحها الفرصة من سبر اغواره الشخصية والروحية في مرحلة متميزة من حياة اي سياسي وهي مناقشات مجلس الحكم لمسودة الدستور وتداعيات فشل الاحتلال بإنقاذ العراق إلاان الفيلم مرّ سريعا بعض الشيء في مقاربته لعالمه الروحي والسياسي ولم يغص الى بواطنه رغم الفرصة المتاحه وقد غاب التعريف بشخصيتة ، نشاته ، تاريخه أي توصيفه كشخصية رئيسة في القصة وبالتاكيد ان لهكذا سياسي إرشيف خاص به لاسيما كونه ديبلوماسيا (عمل وزير خارجية العراق في الستينيات ) ؛ وثائقه ، و تجربته كسياسي أذ تولى في منفاه العمل كمستشارفي دولة الإمارات العربية المتحدة الامر الذي جعل المشاهد يتخبط في حزر جواب السؤال من هو السيد الباجي جي ؟ . ومثلما إستعمل الفيلم مادة مصورة من إرشيف العائلة عام 1973 كان ينبغي المرور بارشيفه فهو الشخصية محور البحث ، كل ما عرفه المشاهد من الاحداث عن شخصيته هو عودته مع طائرة محملة بالمواد الطبية من دولة الامارات حيث رافقتة المخرجة في رحلة العودة ( كثير من المشاهدين العراقيين وخاصة الجيل الجديد يجهل تأريخ الباجي جي فكيف بالمشاهد العربي ) . طوال الفيلم كانت المخرجة ممسكه بالخط الرئيس وهو السيد الباجي جي رغم إبتعادها في بعض الاحيان عنه الا انها سرعان ما تعود اليه ومن خلاله إنطلق الفيلم في رحلة التقصي عن حالة العراق في تلك الفترة : زيارة الضحايا في المستشفيات ، التجول في أحياء بغداد القديمة ، أراء المواطنين وكذلك السياسيين الذين عملوا ضمن فريق والدها ؛ السيد فيصل استربادي والسيد عطا عبد الوهاب الذي حوّل زنزانته إلى كتب عكف على ترجمتها طيلة فترة سجنه والصحفي جلال الماشطة . يبدو ان اللغة السينمائية للمخرجة تحاكي الواقع بما فيه من تقشف بإستعمال الرموز والدلالات ،واقع تسرده الاحداث والشخصيات عبر علاقة لاتنوء بحمل التأويل والجدال . أذ سنحت للفيلم تصوير بغداد في أثناء عاصفة رملية أستغرقت يومين ولأن إسلوب الفيلم كما ذكرنا سابقا يتفاهم مباشرة مع الواقع عبر تلقائية المشهد لذلك لم توظف هذة العاصفة لا سينمائيا مثلاً : إستخدام اللون الرمادي الذي جلل بغداد وإضهاره وقتا أطول على الشاشة كخلفية للاحداث لما للون الرمادي من تعبيرات رمزية تخدم الصورة ولا دلاليا / سياسيا حيث من الممكن الإشتغال على العاصفة وربطها بعاصفة الإرهاب التي تضرب العراق والذهاب أبعد في الدلالة إلى " عاصفة الصحراء " توفرت للفيلم نهاية جميلة { سيارة تتجه إلى المنطقة الخضراء تسير بين الحواجز وتتهادى يميناً ويسارأ متفادية الاصطدام } . إن مصير العراق السياسي ُيقرر في المنطقة الخضراء وهي مكان تواجد الامريكان والحكومة العراقية ، السيارة ترمز إلى الحركة / المستقبل ، عدم إنتظام حركة السيارة يعني ضبابية المستقبل المحفوف بالمعوقات ،ولأن الفيلم من إخراج ومونتاج وتعليق وصوت المخرجة ميسون الباجي جي لم يتسن لها ان تترك مسافة بينها وبينه لتتجاوز بعض الإطالة او لتتفحص مادتها من خلال عين أخرى تشاركها جهدها ولكونها إمراة مخرجة إرتبطت بعلاقة أمومة مع فيلمها حالت دون حذف بعض المشاهد والاختصار ( مدة الفيلم 88 دقيقة ) ، إن لومها يصبح عبثاً اذ كيف يمكن محاسبةالأم على حضانة اطفالها وعلى عدم التفريط بواحد منهم فقد ظلت طوال الفيلم كام مربيّة لمادتها والمرء يستطيع ان يعي علاقة المبدع بفنه فهو يربي وينشأ مفرداته وعالمه ليكون صورة منه وليس المبدع صورة من عالمه . اي تضحية وتفان بذلتهما المخرجة بهذا الإنجاز ، بحث ممتاز وتفصيلي في الشأن العراقي المفعم بالتعقيد والمخاطر أثبتت من خلاله قدرة المراة على البحث تفوق قدرة الرجل واختزلت عمل جماعة إلى عمل مخرجة وحيدة تحملت المشقة والمجازفة بمفردها لكنها جعلت الاخرين يشاركونها متعة التحدي ، ألم تنقذ شهرزاد جنسها البشري وكم من تضحية غيّرت وجه الظلم .
damlamar@yahoo.com