انغمار برغمان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محاولة التقرب من عوالمه
نوزاد بكر من هولندا:قبل اسابيع قليلة رحل انغمار برغمان، المخرج السينمائي السويدي عن عمر ناهز التسعين بعد ان ترك لنا ما يقارب ال 50 فيلما وضعف ذلك من اعمال مسرحية. إن مسحٌ لنتاجه السينمائي يبرز فرادة موقعه ضمن السينما العالمية. هذه الفرادة تجلت في القضايا التي تناولها عن اشكالات الحياة و تناقضاتها، تعقيد العلاقات الانسانية وتعدد مستوياتها، ثنائية الحب / الكراهية، العنف الداخلي، التقرب الشديد من عالم المرأة وتسليط الضوء على انفعالات الانسان الاولية والثانوية المركبة.
لقد قيل وكُتب الكثير عن إستخدام برغمان لرموز وهواجس خاصة تحمل معانٍ شخصية جداً، ألا ان أهميتها تكمن في أنه عرضها بأشكال تبدو و كأنها تخص كل مشاهد لأفلامه. فالدهشة والغرابة هي أول ما ينتابه المرء، لإكتشافه سريعا مدى القرب وحتى التماهي بينه و بين بعض شخصيات أفلامه. ثمة تشابه ما، بين مصادر القلق والخيبة والخوف يربط المشاهد بخيط واهي غير مرئي بهم. لكن الدهشة هذه سرعان ما تتحول الى حيرة، عندما يبدأ برغمان بإعادة تشكيل وتركيب شخصياته جاعلا من الدراما والاحداث مسرحاً لمستويات متعددة من التصادم والتحول. والحيرة هذه تغدو أحيانا تيه وحتى ضياع عندما يتركنا برغمان بنهايات افلامه المفتوحة وإشكالاته المستعصية على الحل.
أن تفحص المناخات الثقافية و السينمائية التي تاثر بها أو تفاعل معها عبر السنين، قد تقربنا من فهم فرادته هذه.
بدأت خصوصية برغمان تتجلى أولاً من طبيعة وماهية المسائل التي تناولها في زمن كان التركيز والغلبة في الثقافة بشكل عام والسينما بشكل خاص للقضايا الاجتماعية والسياسية في عصر صعود الايديولوجيا والاستقطابات الحادة وإنعكاساتها على حياة الناس. لقد كان همّ برغمان هو الانسان كفرد غير منتمي لأية جماعة. فحين تناول الحرب وأهوالها في فيلمه ( العار 1968 )، رصد التحول النفسي لبطله (ماكس فان سيدو)، ذو الشخصية الهشة وهو يتدهور وينهزم وحيداً. ينهار مجتمع، لتتحطم العلاقات الاجتماعية ليصبح هذا الرجل الضعيف فضاً شرساً. الفيلم كله عن عنف البطل الداخلي.
بالاضافة الى هذا، فان برغمان لم يتبع أية موجة سينمائية لفترة طويلة ولم يؤسس أية مدرسة سينمائية. بكلمات اخرى، لا يمكن تصنيفه في خانة اية من الاتجاهات السائدة.
لكنه بالطبع لم يبدأ هكذا. فبعد النجاح الساحق لفيلمه (الفراولة البرية 1957)، بدأنا نرى تأثيره الواضح على السينما الفرنسية و الايطالية. فإنطلاق تيار الموجة الجديدة في فرنسا لم يكن بعيد عن تأثيره هذا. فقد جمع بينه وبين هذا التيار، الاهتمام العارم بجوانية حياة الانسان وإنشغالاته الوجدانية.
لقد وصف النقادُ برغمان غالبا، بأعظم مخرج فرنسي في السويد! لكون أفلامه الاولى تضمنت أجواء الغموض المترافقة مع مصائر أبطاله الفاجعة. وهذا ما كان سائدا في سينما الثلاثينات الفرنسية. حتى أن فيلمه (إبتسامات ليلة صيف 1955) من حيث موضوعه وأجوائه جاء متطابقا تقريبا مع فيلم (قاعدة اللعبة 1939) لرينوار.
لكن برغمان وُصف أيضا كأعظم مخرج ألماني في السويد، بسبب النزعة التعبيرية التي لازمته طويلا، والتي كانت سائدة في الفن و السينما في المانيا الثلاثينات و رائدها كان فرتز لانغ. هذه الموجة الفنية التي أحدثت قطيعة مع كل التيارات الفنية السابقة لها و التي ركزت على طريقة التعبير عن المشاعر والتجارب عبر إعادة تشكيل الواقع وليس نقله حرفيا كما الحال مع الانطباعية. إعادة التشكيل و التركيب هذه، تجعل الواقع أكثر إبهاماً، ومن خلالها يمكن لصيغ وتشكيلات جديدة بالظهور. التعبيرية هذه التي ولع برغمان بها، وجدت طريقها في التعبير سينمائيا(خاصة في افلامه الاولى) من خلال العناية بالديكور والخلفية وإظهار التناقض الحاد بين الضوء "من مصدر وحيد" والظلام، عبر إبراز أو تلوين منطقة الظل، مزج فني بين عناصر سريالية ورمزية، تطلق مجالا رحبا للتعبيرعن مختلف العواطف، وكل ذلك من خلال طاقم من الممثلين والممثلات، ذوي قدرات تعبيرية ومسرحية فائقة. هذا كله نلحظه مثلا بوضوح في فيلمه (الفراولة البرية).
وأخيرا وُصف برغمان كأعظم مخرج روسي، كونه كان مغرما ومتأثراً بمعنى و روح الصورة/اللقطة والاطار/ الكادر.
و بلا شك فان برغمان الشاب استلهم أو تشرب من كل المصادر السينمائية السائدة، لكن التوصيفات هذه التي تحصره أو تصنفه ضمن إطار بلد أو إتجاه معينين، هي خاطئة وليست دقيقة بالمرة. فأفلامه الاولى تظهر مدى إنتقائية خياراته من كل الاتجاهات والمدارس. فهذا "المزاج الفرنسي" الذي طبع أفلامه الاولى: الحب الاولي والبراءة في جو متحول ومصائر أليمة، له جذور عميقة في التراث المسرحي السويدي. و فيلمه (الفراولة البرية) يمكن ربطه بوضوح بأجواء الكاتب المسرحي السويدي الشهير سترندبرغ. حكاية الفيلم هذه جوانية ذات مزاج كابوسي، عن الشد في العلاقات بين الناس أو بينهم وبين الطبيعة. كل هذا في ذهن شخص واحد في مشاهد متتالية تخلط الحلم بالواقع. مسعى الفيلم في النهاية هو أخلاقي. فالحكاية عن رجل هرم مغرور، يطرأ تغير في وجدانه ويلتبس لديه مفهوم وموقع الحب. هذا الخوف والقلق الوجوديين و النموذج المعقد من الفلاش باك ضمن الفلاش باك، هي مواضيع أثيرة طغت على الثقافة السويدية آنذاك. ومثل هذا الموقف والمعالجة هو بالضد تماماً لما جاء به السينمائيون التعبيريون الالمان. فالسمة الغالبة لهؤلاء كانت في خلق عالم من الهوس ومحيط من الاوهام باطار تأملي وباطني. هذا كله نراه مثلاً في فيلم لانغ الشهير (ميتروبولس).
بالاضافة الى ذلك فأن برغمان بعكس أقرانه الالمان، لم يصور أفلامه (وخاصة الاولى منها) في استوديوهات، بل في مواقع طبيعية مكرساً بذلك علاقة وشغف بالطبيعة.
أما بالنسبة لتأثير الجو والمزاج الروسيين في أعماله، فبلا شك أن برغمان يشترك مع المخرجين الروس في العناية الفائقة بابراز تفاصيل شخصياته الروائية، في دراسة طباع وسلوك الفرد من خلال اللقطات المقربة وتعابير الوجه وأخيراً الاهتمام بتركيب وإعادة تركيب الصورة السينمائية وطرق منتجتها. لكن برغمان لم يكن بحاجة الى إقتباس ذلك من السينما الروسية. فهذا الإتجاه كان حاظرا بقوة مثلا في أفلام مخرج سويدي (ستللر) سبق برغمان في تقنياته هذه.
وفي الوقت الذي نرصد إمكانية تأثر برغمان بأعمال الكثيرين مثل شابلن، كوكتو، بونويل وهتشكوك، نلحظ أيضا مدى تجذر روح وكنه أعماله في تقاليد السينما والمسرح السويديين. هذه التقاليد التي يمكن تلخيصها بالميل الشديد للتفاصيل الواقعية وطرح حياة الانسان كمزيج من روعة وألق من ناحية وتنافر وغرابة من ناحية أخرى، وهذا كله في جو من الحلم أو السراب.
ومن الجدير بالذكر أن للموسيقى علاقة وتأثير واضحين في موضوعات وأجواء أفلام برغمان. فبالإضافة الى إخراجه لفيلم مستلهم من أوبرا لموزارت بأسم (الناي السحري 1975) و فيلم آخر من أجواء السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وبنفس اسم قصيدة شيللر في حركة السيمفونية الاخيرة (أنشودة الفرح 1950)، فأن موضوع فيلمه الشهير (الختم السابع) قد استلهمه ايضاً من اوبرا (كارمينا بورانا لكارل اورف). أغاني طرقات لناس لامأوى لهم في سنوات الطاعون. حضارة تنحدر وتتدهور وأناس يبتكرون أغاني جديدة. وحتى فيلمه (فاني والكسندر 1982) ذو الموضوعات والحكايا المتعددة قد استلهم بعضه من اوبرا للموسيقار الالماني هوفمان. اما بداية الفيلم مع احتفالات عيد الميلاد فقد أخذها من اوبرا (كسارة البندق لتشايكوفسكي) حيث يجلس طفلان في الغسق عشية عيد الميلاد، ينتظران ان تضاء الشجرة وتفتح أبواب القاعة.
وإذا كان لنا أن نحدد أهم ما تميز به برغمان وطبعت أفلامه بها من أجواء وأمزجة وايقاعات، فيمكن لنا أن نشير الى:
1. المقاربة الاخلاقية للفن. لقد قال مرة في مقابلة له: "الشىء الوحيد الذي علينا أن نتعامل معه بصيغة درامية هو المشكل الاخلاقي... وجودنا كله مبني حول مسألة فيما إذا كان ممكناُ لنا عمل شىء ما من عدمه. إنها هذه العقد والاشكالات التي نواجهها يومياُ والتي تحدد مجمل سلوكنا تجاه الآخرين".
2. الولع والنزوع لخلق نماذج مجردة وجديدة للاشكالات الاخلاقية الكلاسيكية. ثنائي الرجل / المرأة، العلاقات الثلاثية، دور الجنس وعلاقة الانسان بالخالق والطبيعة. لقد أبدع برغمان في خلق ايقونات رمزية وشخصيات مميزة وفريدة. إن المشهد الشهير لماكس فان سيدو وهو يلاعب "الموت" الشطرنج في فيلمه (الختم السابع 1957) أصبح خالداُ في ذاكرة السينما العالمية. الموت بشكل مهرج ابيض ملفع بالسواد، شخص لايحمل اي سر. أنه باختصار فيلم منعتق من كل أنواع العصاب، يسوده هدنة بين ورع طفولي وعقلانية صارمة. وبالمناسبة فأن للموت والشياطين حظور شبه دائم في أفلامه بصيغ متعددة ومتغيرة، وهو جزء من إرث له كإبن كاهن لوثري متشدد.
لقد لجأ برغمان الى أقصى درجات الرمزية في تعامله مع المعتقدات المسيحية السائدة. فثلاثيته (عبر المرآة، ضوء الشتاء والصمت ) في بداية الستينات، عن علاقة الانسان الملتبسة بالخالق وتحولات الشك والاسئلة الشائكة، إبتعد فيها عن طرح اليقين والتساؤلات الكلاسيكية، جاعلاُ من الحيرة دافعه في رحلة البحث عن مغزى الحياة. أما الموت فهو شىء فوق طبيعي، ليس للخالق دوراً فيه. (عبر المرآة) كان البداية، بداية شىء جديد. أشخاص يخرجون من البحر وقد أتوا من حيث لاندري. الفيلم ذو نبرة إنفعالية ورومانسية. (ضوء الشتاء) يمثل انتقالاً من إشكالية دينية الى إشكالية أرضية. قس يصارع الموت عاطفياً. يفقد زوجته ليحتاج الله، لكنه لايلقي الا السكون. من هنا يبدأ شكه ووحدته واكتشافه ان الموت هو نهاية لكل شىء.
في فيلمه (الطقوس 1969)، يطرح برغمان إشكالية العلاقة والتوتر بين شخصيات ثلاث. رجل شهواني، مزاجي، طفولي، لطيف وشرس والآخر مرتب، منضبط وصبور والمرأة مطواعة ليس لها وجه. هذه الشخصيات مرتبطة لاتستطيع الافتراق عن بعضها. الفيلم مكثف، قاتم وعدواني.
أما في فيلمه (مشاهد من حياة زوجية 1973) فقد قدم حكاية فريدة. إستحالة ديمومة الحب بين إمرأة ورجل تدفعهما للافتراق، ثم يغدو الافتراق بينهما مستحيل. كل المشاعر والامزجة والمواقف تتغير وتتقلب. ويبدو أن برغمان لاتعنيه بالمرة فكرة الزواجات السعيدة. فهي تتشابه أخيرا ً في سعادتها. ولكنه، كالكاتب الروسي الشهير تولستوي في روايته (آنّا كارنينا)، مأخوذ بالزواجات التعيسة، التي ينفرد كل زواج بتعاسة مميزة. إنها ربما دعوة من برغمان عن أن الزواج زائل، والحب باق خالد!
3. رغم أن برغمان رفض دائماً المحتوى العدمي في أفلامه، مشيراً الى أنه كان مشغولاً دوماً بمسألة الفراغ الذي يستهلكنا ويحتوينا. إلا أن شىء من العدمية، كأتجاه ومنطلق فلسفي غلف باستمرار مواضيع أفلامه. هنالك رفض وشك بالمنظومة الاخلاقية السائدة ولهياكل السلطة وخاصة الدينية منها. ثم أن الجو الكئيب والايقاع الرتيب وحيرة أبطاله، التي طبعت أفلامه بها، تحمل إشارات تقترب من العدمية في نفيها لوجود حقيقة ما. وهذا كان حال معظم الاتجاهات الفنية في القرن الماضي كالتكعيبية والسوريالية والمودرن آرت في عدم تمثيلها بل ورفضها لكل قواعد الواقع والطبيعة، وحال مدارس فلسفية عديدة كالبنيوية ومابعد الحداثة في تجاهلها أسس الحضارة المعاصرة والمعرفة وتقدم التأريخ الايجابي. ولو قارنا هنا برغمان بالمخرج الايطالي فيلليني، والذي كان ناقداً حاداً وساخراً لمجتمعه (بشكل مبطن غالباً)، فقد تناول هذا أيضاً مسألة الفراغ الذي يلفنا، إفتقار حياتنا للحب ومقدار الزيف الذي يغلب على سلوكنا وكانت له مواقف جريئة من العقد والاشكالات المجتمعية. لكن فيلليني ربط هذا كله دوماً بشىء ما، بدائل أو مخارج ما. أما خيارات برغمان فقد ابتعدت عن إحالات كهذه، لتكتسب صفات صادمة ومرعبة.
4. برع برغمان في خلق ايقاع ومزاج سينمائيين خاصين به. فقد تميز في استخدام بعض التقنيات السينمائية : قطع سريع ومفاجىء للقطات، تزامن أو توازي للقطات الطويلة و تصوير مقرب للوجوه، باعتبار أن عمل السينما يبدأ بمقاربة وجه الانسان. و قد نجح برغمان في خلق ثنائية خاصة في أفلامه: المزج بين الالق البارد والكآبة الشفافة، الشد بين أناس يحملون مشاعر وعواطف أولية وبين أولائك الذين يجسدون الحكمة والرزانة والتحول المستمر في الادوار بين هؤلاء واولائك لنصل الى حالة من توازن هش، مفسحة مجال التعبير عن أقصى درجات الانفعال الناجمة عن صراعات هؤلاء فيما بينهم أو مع ذواتهم. في فيلمه (برسونا 1966)، مونولوج مزدوج بين إمرأة صامتة وممرضتها التي تتكلم طوال الوقت" بثقة عالية بالنفس". حينما تكتشف ان مريضتها قد كتبت لزوجها رسالة عن رأيها بحال ممرضتها النفسي، تبدأ الثقة بالانهيار ليبدأ طور تبادل الادوار وتداخل الهويات بينهما. يستخدم برغمان هنا الوجه والإضاءة إستخداماً مذهلاً في تشكيل وتصوير هذا الازدواج والتداخل. إضاءة نصف وجه وترك النصف الآخر في ظلام، ثم يُدمج النصفين المضائين من الوجهين حتى ينصهرا في وجه واحد. معظم الناس لديهم جانب في وجههم يعطيهم الى حد ما مسحة من الجمال أكثر من الجانب الآخر. الصور نصف المضاءة لوجهي بطلتي الفيلم بينت الجوانب الابشع في كل منهما.
ولعلنا نختتم هنا بكلمات ناقد سينمائي فرنسي، حينما قال: أن برغمان مثل جان كوكتو، قدم لنا عالمه الخاص الملىء بالاوهام والرموز والخرافات. كل شىء موجود، عدا مفتاح الباب الاخير للخلاص.