السينما

ديڤيد لينتش: العبور من المجرد إلى المرئي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الأولىتقديم وترجمة: علي كامل "أحب إخراج الفكرة التي أقع في غرامها"ديڤيد لينتش مخرج سينمائي وتلفزيوني أميركي معاصر مستقل ومتجدد وهو معروف أيضأ وبشكل واسع كسيناريست ومنتج ومصور فوتوغرافي ورسام كاريكاتور وموسيقي وفنان غرافيك.
سر الحيرة التي تبعثها أفلامه ونتاجاته الفنية الأخرى في نفوس نقاده ومشاهديه هي لعبة البهلوان التي يمارسها بتلقائية خالصة، أعني لعبه المتقن والمتوازن على الحبل الواصل بين السائد بالأفانغارد، والتي جلبت للشاشة وعلى نحو إستثنائي، هذه الرؤية المشوشة والمعتمة للواقع وهذا العالم الكابوسي مجسد عبر لحظات محددة لعنف يبلغ عنده أقصى حالاته تخفف من غلوائه كوميديا مدهشة وجمال غريب. لينتش هذا الغرائبي الجميل يتمتع من بين جل المخرجين من جيله بإستحسان واسع فضلاً عن دوره المميز في صقل وتهذيب ذائقة الجمهور التي دمرتها النزعة التجارية والمجانية، شاحذا الجمال السوريالي برؤىً حلمية أوسع وذاتية أعمق.
***
(نص المقابلة)(*) (القسم الأول)
س: السيد لينتش، كيف تجري عملية إخراج الفيلم بالنسبة إليك؟
ج: إنها العملية ذاتها في جميع أفلامي. عموماً، الأفكار تأتي دائماً، وفكرة الفيلم لا تأتي كلها مرة واحدة بالطبع.
الأفكار تأتي على هيئة شظايا، وأنت لاتعرف في البدء على الإطلاق ماذا سّتشكل تلك الأفكار!. مزيد من الأفكار معناه مزيد من النمّو للقصة وتطورها. ومن بعد وبطريقة ما ستبدأ بالتعرف إلى ملامح تلك الفكرة، وفي الآخِر ستعرفها حتماً، عندئذ تدخل بشكل طبيعي في مجرى عملية كتابة السيناريو.
ينبغي إصطياد الأفكار ومن ثم تدوينها وإنتهى الأمر. إنها حية الآن تنبض أمامك.
إنني أحصل على الفكرة وأدوّنها على شكل مشهد، ومن بعد أقوم بتصويرها. وفي المرة الثانية أحصل عليها وأكتبها على شكل مشهد آخر ثم أصورها. أنا لا أعرف، في الأغلب، كيف تتم الصلة بين هذين المشهدين. بعد ذلك تأتي الفكرة الثالثة، ومع ذلك مازلت لا أعرف كيف ستنتظم أو تتشيّد هذه المشاهد الثلاثة.
بعدها تأتي المزيد من الأفكار والأفكار،عندها فقط أبتدأ في رؤية وفهم الكيفية التي أقيم بوساطتها تلك الصلة بين شيء وآخر.

س: ومن أين تأتي تلك الأفكار.. أعني ماهو مصدرها؟

ج: الأفكار ليست ملكاً لأحد، لذا فأنا لا أعتبرها أفكاري حقاً. أحب هنا أن أستخدم التماهي الجزئي بين هذه المسألة وبين عملية إصطياد السمك. السمكة ليست ملكك. أنت تصطادها، وفي بعض الأحيان تقع في غرامها. بعدها تقوم بإعداد تلك السمكة للغرض الذي تريد.
الأفكار تطفح، تنبثق، تتدفق. إنها قابعة هناك جميعاً بعيداً مثل تلك السمكة تماماً، لكنها ما إن تصعد من الأعماق، ما أن تدنو وتتقدم، عندئذ ما عليك إلا أن تصطادها.
حين تلج الفكرة العقل الواعي عندذاك فقط يمكنك رؤيتها بجلاء.!. خذ إختراع الراديو مثلاً، "گوگليما ماركوني" و"نيكولاي تيسلا" كان أحدهما يقيم في إيطاليا والآخر في نيويورك (**).
حينما إنبثقت فكرة "الراديو" إصطادها الإثنان معاً. وهكذا فإن العديد من الأشياء تحدث بالطريقة ذاتها.

س: كيف يمكنك، من بين كل الأفكار، القول إن هذه الفكرة أو تلك هي الصائبة؟
ج: إنها تلك التي تقع في غرامها. عليك أن تفهم تلك الفكرة. كلما نمت الأفكار كلما إزداد فهمها. هذه الفكرة تنسجم مع تلك، وتلك تصب في الأخرى. بوسعي رؤيتها كيف تسير. وذلك كله هو بمثابة أعجوبة بالطبع!. في البدء لم يكن للفكرة وجود إطلاقاً، وفجأة هاهي ماثلة أمامك.

س: إذاً أنت تبتدأ بالفكرة؟
ج: كلا. الفكرة تومض عادة بالصدفة حين يفكر المرء القيام بشيء ما، عندئذ تتولد لديه حاجة وتركيز على "فكرة" القيام بذلك الشيء. حينها تبدأ الأفكار بالتدفق برشاقة شيئاً فشيئاً. هنا يبدأ مجرى عملية التفكير.
نوعاً ما من هيكل القصة يبدأ بالتشكل. أما الطريقة التي ستروى فيها تلك القصة، فالأفكار هي وحدها من يقرر.
من الممكن أن تروى القصة بطرق متباينة بالطبع، لذا تتضمن هذه المرحلة الكثير من التجريد
منه إلى وجود قصة صريحة متماسكة ومفصّلة. لكن، الفكرة، والفكرة وحدها هي التي تملي كل ذلك.

س: كيف يمكنك معرفة أنك عثرت حقاً على الممّثل المناسب للدور؟

ج: الممثل الخلاق هو ذلك الشخص الذي يستل الدور من الأعماق. ولاتوجد طريقة أخرى سواها.
حين تلتقي بالممثل في البدء سيكون ثمة حديث معه لأجل أن يكون على تماس ومعرفة بالفكرة التي تريد معالجتها. وحالما يصطادها، من خلال عملية الخطأ والصواب، المراجعة والبروڤات، عندها يبدأ لعب الدور.
إنها الطريقة التي يتم التعامل بها ليس مع الممثلين وحسب بل مع كل العناصر الأخرى، لكي يسير الجميع في الطريق ذاته الذي تمليه الفكرة.

س: ما أهمية الجانب الصوتي بالنسبة إلى السيناريو الذي تعمل عليه؟
ج: الصوت يخلق المزاج، الحالة النفسية، الجو العام. وكل صوت هو بمثابة عنصر مكوّن للعمل الفني. كذلك هي الموسيقى. أنت تبدأ وبحوزتك فكرة وتلك الفكرة تتضمن إحساسا. الموسيقى هي إحساس أيضاً. الأصوات والمؤثرات الصوتية الخلفية يمكن أن تكوّن إحساساً يقترب من الموسيقى.

أنت تريد أن توّحد هذه الأصوات وتقرنها بالصورة، ومن بعد صهرها بالفكرة لكي تحس هذه الأخيرة أن تلك الأصوات مناسبة ومتوافقة معها.ثمة الكثير من الأصوات المختلفة والمتعددة في كل قصة، إلا أن الشيء المهم هو كيفية دخول تلك الأصوات، وطبيعة الفعل الذي تقوم به خلال وجودها هناك، ليس هذا حسب إنما كيفية خروجها أيضاً. وكل ذلك ينطلق من نقطة واحدة هي: الفكرة.

س: وماذا بشأن الشريط السينمائي (السيليلويد)؟ أما زلت مصراً على العمل به؟

ج: بلا ريب. كلنا نحب الأفلام السينمائية، خاصيتها وسحرها. ثمة الكثير الآن من التطورات والتحسينات قد أجريت على الفيلم. شريط "السليلويد" أو الشريط السينمائي، يمتلك مظهراً جميلاً إلا أن ضخامته وبطأه غير ملائمين بالنسبة إلى المَشاهِد، في حالة مقارنته بفيلم الديجيتال "النظام الرقمي".
عندما إكتشفت الفوكس الآلي والكاميرا الخفيفة الوزن، أدركت أن هذه هي الطريقة المؤاتية والودية والملائمة حقاً في العمل مع المَشاهِد، حيث بوسعك التحكم بالكمية الفلمية على ضخامتها، فضلاً عن الهدوء والسهولة ودفق الأشياء، وهذه كلها أشياء جميلة وساحرة جداً.

س: وهل تحب أن ُتعرض أفلامك بهذا الحجم؟
ج: أنا لم أقل أن هذه هي الطريقة التي ينبغي بوساطتها مشاهدة الأفلام. كلا، ماعنيته هو إن الكاميرا الصغيرة هي الطريقة التي ستستخدمها في تصويرالفيلم. أما مسألة المشاهدة فيمكنك بيسر الأنتقال الى شاشة كبيرة وقاعة عرض معتمة كبيرة وجميلة ومزودة بأصوات ضخمة، وسوف تحصل على التجربة نفسها التي يحققها الفيلم السينمائي (السيليلويد).
الشاشة الكبيرة، الأصوات الضخمة في قاعة العرض، هي أشياء جوهرية وأساسية حقاً.

س: هل تفكر كثيراً بمُشاهديك؟

ج: بشكل ما، نعم. أحس بذلك إذا كنت مخلصا وصادقا للأفكار وكل العناصر، وأن الكل يحس على إتفاق، عندها آمل أن أكون متفقاً مع الآخرين. أما إذا عملت فيلما لجمهور مفترض أو خيالي فسيكون الفشل نصيبك حتماً.
العالم يتغير كل يوم، فضلاً عن أن الناس أنفسهم يمتلكون إدراكات وطرق فهم متباينة. المهم هو أنك تمتلك فرصة للتعبير عن تأويلاتك وتفسيراتك وفهمك. تماماً كما في الحياة، نحن نحيا في العالم نفسه إلا أن كل واحد منا يدرك الأشياء بطريقة مختلفة. ينبغي عليك فقط أن تبقى صادقاً إزاء فكرتك، آمِلاً أن تبادلك هي الأخرى الإحساس ذاته، وأنها بالتالي ستمتلك الإحساس نفسه إزاء الآخرين أيضاً.
إنه الحدس. إنه الحس. إذا شعرت أن الأشياء تجري بشكل غير صحيح، عليك أن تحدّد الخلل وتتبينه وبعده ينبغي علاج ذلك الخلل، عنذاك فجأة سيصبح كل شيء وافيا وصحيحا.
ماهو ذلك الشيء؟ حسن، إنه شيء يشبه مجموعة من الموسيقيين يعزفون لحناً بأسلوب محّدد ليصّب في لحن آخر بوسعه أن يثير مشاعرك بشكل أعمق.
يمكن عزف اللحن ذاته بطريقة أخرى لكنه لايمنح التأثير ذاته. إنه شيء ماكر وبارع.

س: ماهو الشيء الأكثر أهمية بالنسبة إليك قياساً بعملية إخراج الأفلام؟
ج: عمل الأفلام بالنسبة إلي هو بمثابة حياتي. أحب كل عمليات صنع الفيلم، وأحب إصطياد الأفكار التي أقع في غرامها. إنه شيء مثير، وعملية البناء شيء ممتع إلى أبعد الحدود. ومع ذلك يمكن أن يكون هذا العمل جحيماً. إنه جحيم حقاً وليست عملية ممتعة بالنسبة إلى بعض الناس. لكنه يُفترض أن يكون ممتعاً.

س: ماذا يمكنك أن تحصل أو تخسر في حالة تسويق أفلامك بنفسك؟

ج: لاتخسر أي شيء. إذا قمت بتسويقها بنفسك مثلاً، فما عليك إلا أن تذهب إلى المدينة أو الولاية الفلانية وتقدم العرض الأول للفيلم. إلا أن هذه العملية لايمكنها أن تصمد إلا لوقت قصير ثم ما تلبث أن تموت. عندئذ يمكنك سحب الفيلم ووضعه في مكان ما والعودة إليه ثانية في وقت آخر. يمكنك أن تختبر طريقتك وبوسعك التحكم بها، وهذا إلى حد ما هو نوع من التجريب. لايوجد ثمة ضغط قوي في شباك التذاكر بالنسبة إلى الأسبوع الأول من عرض الفيلم. أنت تتعلم من الفعل وردة الفعل، وترى طرقاً أخرى وإمكانات أخرى. حين يكون لديك موزع فهذا معناه أنك تتخلى عن فيلمك تماما لشخص ما.
أنا أعرف، على كل حال، أن بعضاً من أفلامي تتضمن أشياء ما تجعل من فهمها أمرا عسيرا، لهذا السبب لايجرؤ أو يجازف الموزعون على الأقتراب من باب منزلي!.
لقد سافرت في الفترة الأخيرة إلى مدن مختلفة كثيرة هنا في الولايات المتحدة. أنت بحاجة إلى الوصول إلى أصحاب السينما، بحاجة إلى معرفة مزاج جمهور المشاهدين، بحاجة إلى إستيعاب مشاعر الناس في كل مكان. هذه هي المحطة الأخيرة في طريق عمل الفيلم، وهي مهمة وخطرة جداً.

س: هل أن أفلامك تعكس ما يدور في رأسك؟
ج: كلا بالطبع! أنا أشبه بالطاهي الذي يطبخ السمك. إنني أصطاد كل شيء. وهذا يمكن أن يحدث في أي وقت. أحب أن أطبخ.

س: هل بوسع الفيلم أن يغير العالم؟
ج: كلا. الفيلم لايمكنه أن يغير العالم، لكن بوسعه أن يقدم أشياء متباينة لأناس مختلفين.

هوامش:(*)
مجلة (Script Writer Magazine) البريطانية. العدد 39 مارس 2008. ص38ـ 40
أجرت المقابلة الكاتبة والناقدة البريطانية ماريانا گرايMarianna Gray.
(**)
گوگليما ماركوني (1874 ـ 1937) مخترع إيطالي من أصل إيرلندي حاصل على جائزة نوبل عام 1909 لتطويره لنظام الإرسال والإستقبال اللاسلكي.
نيكولاي تيلسا (1856ـ 1943) مخترع نظام الإرسال الإذاعي اللاسلكي وهو صربي الأصل.
حاز على جائزة نوبل عام 1915 مناصفة مع إديسون لكنه رفض إستلامها لأسباب مجهولة.

(فيلموغرافيا)
ـ Eraserhead 1978 رأس الممحاة
ـ The Eleaphant Man 1980 الإنسان الفيل
ـDune 1984 الكثيب
ـ Blue Velvet 1986 المخمل الأزرق
ـWild at Heart 1990 جَيَشان في القلب
ـTwin Peaks: Fire Walk with Me 1992 فندق توّن پيك
ـLost Highway 1997 فقدان الطريق العام
ـThe Straight Story 1999 قصة عائلة ستريت
ـ Mulholland Drive 2001طريق مولهولاند
Inland Empire 2006- إمبراطورية إينلاند

علي كامل
سينمائي وكاتب
لندن
alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف