السينما

العبور من المجرد إلى المرئي، الحلقة الثالثة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


(نحن أشبه بعربات سعيدة تتدفق منها الأفكار)

ديڤيد لينتش

تقديم وترجمة علي كامل: ديڤيد لينتش مخرج سينمائي وتلفزيوني أمريكي معاصر مستقل ومتجدد وهو معروف أيضأ وبشكل واسع كسيناريست ومنتج ومصور فوتوغرافي ورسام كاريكاتور وموسيقي وفنان غرافيك وأخيراً داعية سلام.
إن سر الحيرة التي تبعثها أفلامه ونتاجاته الفنية الأخرى في نفوس نقاده ومشاهديه هي لعبة البهلوان التي يمارسها بتلقائية خالصة، أعني لعبه المتقن والمتوازن على الحبل الواصل بين السائد والنخبة الطليعية، والتي جلبت للشاشة وعلى نحو إستثنائي، هذه الرؤية المشوشة والمعتمة للواقع وهذا العالم الكابوسي عبر لحظات محددة لعنف يبلغ عنده أقصى حالاته تخفف من غلوائه كوميديا مدهشة وجمال غريب.
يتمتع لينتش، هذا الغرائبي الجميل، من بين جميع مجايليه من المخرجين، بإستحسان واسع فضلاً عن دوره المميز في صقل وتهذيب ذائقة المتفرج التي شوهتها النزعة التجارية والمجانية، شاحذا الجمال السوريالي برؤىً حلمية أوسع وذاتية أعمق.


***

س: الكثير ممن شاهدوا أفلامك، لاسيما فيلم "طريق مولهولاند" كانوا يتسائلون السؤال ذاته، وهو ماذا يحدث في الفيلم؟

ج: (لينتش يضحك بصوت عال) هذا صحيح. شكراً على هذه الصراحة. حسن، هناك أنواع عديدة من الأفلام، وثمة الكثير منها في أيامنا هذه، لاتتطلب التفكير، وهذا مايزعجني كثيراً، لأن القائمين على تلك الأفلام يظنون أن المشاهدين غير متعودين على التفكير، وأنهم بحاجة فقط إلى من يفسر لهم مايرون ويقدمه لهم على طبق كبير. وهذا سخف كبير.

ديفيد لينتش الناس يحبون التفكير. نحب أن نشاهد ونراقب ونستنتج. نحن جميعاً أشبه بالمخبرين. الأصغاء، إعارة الأنتباه، اليقظة والأكتراث كلها أشياء عظيمة. إنه لشيء هام أن لانخشى إعارة الأنتباه، وأن لانخشى من إستخدام حدسنا، وأن نفكر ونشعر أي طريق سيأخذنا صوب البعض من الإستنتاجات.
بعد تجربة مشاهدة فيلم "طريق مولهولند" مثلاً، سيتوصل كل متفرج إلى أنه بحاجة إلى إستخدام حدسه، وفي النتيجة سيحصل على معرفة شخصية، من الممكن جداً أن تفضي إلى إستنتاج شخصي لما رآه.
نحن نعرف أكثر مما نسّلم به، أو ربما نخشى أن نسّلم به. شيء رائع أن نمتلك أفكاراً مجردة عن الشيء الذي نتحدث عنه لنستنبط إستنتاجاتنا، وهو أحد الأشياء التي أحبها أكثر من أي شيء في السينما. أنها ذاتها يمكن أن تكون هذا الشيء المجرد والجميل.
ليس مطلوب مني أن أفسر وأشرح مايدور في أفلامي. لأنني بهذا أكون قد أجهضت جوهر المتعة الحسية والذهنية للمتفرج.
حين أشاهد فيلماً أو أقرأ كتاباً لن أذهب إلى المؤلف أو المخرج لأسأله عن دلالات ماقرأت أو ما شاهدت.
العمل المتقن والجيد هو شيء منسوج وهادف، وهو بحاجة لفترة طويلة لأن يصهر ويهضم في ذهن وروح المتفرج ليصبح ماهو عليه، ويمتلك تاثيراً معيناً على المتلقي.
على أية حال، الكثير من المؤلفين الذين قرأت لهم قد ماتوا للأسف الشديد وليس بمقدوري أن أنبش قبورهم لأسئلهم عن مغزى كتاباتهم.

س: الأحلام عنصر مهم في أفلامك ومشاريعك. هل تعير إهتماماً خاصاً لأحلامك الخاصة؟ هل تستلهم منها؟

ج: أنا لاأتذكر أحلامي حين أستيقظ من النوم. لكن فكرة الحلم، بنيته وطريقة عمله تفتنني حقاً. الطريقة التي يصبح فيها الحلم قصة ببناء سردي.
ماأحتفظ به وأتذكره ليس الأحلام بذاتها إنما حساسية تلك الأحلام. الشيء الجوهري بالنسبة لي هو أن أوحّد مظهر القصة البسيطة للفيلم بحساسية الأحلام، بالإمكانيات التجريدية لها.

س: لقد صوّرت فيلمك الأخير (إمبراطورية إينلاند) بواسطة كاميرا ڤيديو عادية وليس HD. هل إستهواك العمل بهذه الطريقة؟

ج: أنا أحب كاميرة الڤيديو. لقد كنت في السابق أستخدم كاميرا الأخوة لوميير وفلم خام يحتوي على حبيبات كان يُستخدم في الأيام الأولى لبدء السينما، والحصيلة هي شيء يشبه كثيرا الصورة الزيتية المتحركة منه إلى صورة الكاميرا الحديثة 35ملم. فضلاً عن ذلك كانت تتضمن شيئاً ما يمنحك فسحة للحلم، شيء ما سحري.
بعدها قمنا بإختبارات كثيرة مستخدمين ماكنة تدعى "الكيميائي". في البدء كنت أجرب فقط، لكن حالما قمت بتصوير بعض المَشاهد، لم أرغب حينها في تغيير كاميرتي تلك.

اليوم، الأمر يختلف. الڤيديو الرقمي عالم جديد. خاصياته مفزعه، لكنني مع ذلك أحبه. إنه يذكرني بأفلام الثلاثينات حيث لم يكن الفريم (frame)(*) أو الطبقة الحساسة للفيلم يتضمنان الكثير من المعلومات، ولم تكن الصورة حادة جداً بل إنطباعية أكثر وأقل واقعية.
أنت هنا في مضمار الڤيديو الرقمي تفعل وتنفعل، ليس هذا فحسب، إنما يبدأ الوسيط، وأعني به الوسيلة الفنية، في التحدث معك. لهذا السبب تجدني أحب العمل في هذا الميدان.
محتمل جداً أنني سأستخدم كاميرا ڤيديو صغيرة من نوع HD في المرة القادمة، لكن بوسعي الإستغناء عنها وقت أشاء.

س: وكيف يستجيب الممثلين لهذا النمط الجديد من التقنية؟ هل توجد ثمة إختلافات؟

ج: بالطبع توجد إختلافات، لإن لديك هنا شريط فيلم طوله 40 دقيقة بدلاً من بكرة شريط الفيلم
السينمائي التي تحتوي على 10 دقائق فقط. بمعنى أنك تستطيع في كاميرة الڤيديو الرقمي أن تستأنف التصوير دون توّقف، وهو الشيء الذي لايمكنك فعله مع الكاميرا السينمائية، لأنك مضطر لإستبدال بكرة الشريط المنتهية بواحدة أخرى جديدة.
شيء آخر، هو إن إحساس الممثل أثناء أدائه الدور سيكون مختلفاً في الإثنين، ففي اليفيديو الرقمي بوسعه، كما في المسرح ربما، أن يستأنف وضعه النفسي وهو يجسد الدور أمام الكاميرا دون توقف. أما في السينما فيستوجب إيقافه بسبب إنتهاء شريط الفيلم في الكاميرا لإستبداله بشريط آخر.
أنا مثلاً أحب التحدث مع الممثلين أثناء التصوير الفعلي. ففي فيلميّ الأخيرين كنت أتحدث مع الممثلين وأقاطعهم بإستمرار أثناء ماكانت الكاميرا تعمل. هذه ليست بمعضلة في ميدان الڤيديو الرقمي، لأنني سألجأ عندئذ إلى العمل على شريط الصوت في مرحلة المونتاج لملأ تلك الثغرات التي سببتها أحاديثي ومقاطعاتي تلك. في السينما هذه عملية عسيرة ومعقدة جداً. ثم ينبغي أن لاننسى أن العمل مع الڤيديو الرقمي لن يتطلب إنفاق ملايين الدولارات.

س: لقد صوّرت (إمبراطورية إينلاند) بنفسك. هل كنت قد فعلت ذلك من قبل؟

ج: ليس كثيراً. لكن وكما تعرف حين تكون أنت بنفسك خلف الكاميرا وأنت من يتحكم بها، فسوف تنجز أشياء كثيرة لايمكنك تحقيقها لو كنت واقفا خلف المصور. لهذا السبب، لاأريد العودة للعمل مع مصور. أحب أن أكون أنا فقط من يقف خلف الكاميرا. نحن بحاجة لعمل يكون فيه الإحساس الداخلي سليماً في هذه اللحظة، وليس مهماً نوعية ذلك الإحساس. حين تتحسس الفكرة أنت بنفسك، ستبقى مخلصا لها أكثر من أي وقت مضى. وعالم النظام الرقمي يمنحنا تلك القدرة أكثر وأكثر. فريق عمل صغير، كاميرا صغيرة، أجهزة إنارة خفيفة، ولقطات طويلة.

س: ولكن الكاميرا السينمائية من قياس 35 ملم هي كاميرا متطورة إزاء تصوير متكامل. هل تجد إن الإنصراف عن ذلك هو نوع من التحّرر؟

ج: جداً. أنت هنا لست بحاجة إلى مصابيح إضاءة ضخمة وعاكسات وأجهزة تقنية كبيرة. بكاميرة فيديو صغيرة وأجهزة ملحقة صغيرة يمكنك أن تعمل 90% من الوقت بخفة، وبوسعك التنقل والحركة بحرية كاملة في كل أنحاء موقع التصوير. وهذه الحرية بعيدة المنال في السينما. إنني أحب السينما وأجّل المصورين السينمائيين على وجه الخصوص لإن بإمكانهم إنجاز لقطات عظيمة بشكل أفضل وأفضل. إنهم يساعدون المخرج في الحصول على كل مايرغب به حتى وأن كان ذلك على الضد من القواعد السينمائية أو كان رديئاً تقنياً. إلا أن المهم والجوهري هو الحصول على صورة تكون أمينة ومخلصة للفكرة.
الفيلم السينمائي جميل، لكنني لم أعد أحتمل كل تلك المعاناة التي يسببها، بل لاأستطيع تحّمل حتى التفكير بذلك. كلا، سأموت لو أني إضطررت للعمل بتلك الطريقة البطيئة ثانية. ليس البطىء بمعناه الإيجابي طبعاً. كلا. إنه الموت نفسه حقاً.

س: يبدو أن أسلوب الفيديو الرقمي جعل من عملية إخراج الفيلم عملية أسهل بالنسبة للمخرجين الناشئين؟

ج: الفيديو الرقمي شيء جميل جداً. حديث، خفيف الوزن، وغير مكلف.

س: إذن، أنت جاد بشأن العمل بإفراط في إسلوب الفيديو الرقمي؟

ج: بالتأكيد.

س: هل بسبب سهولة تنقله وقلة تكلفته؟

ج: بسبب كل شيء يتعلق به. بجملة واحدة موجزة، الفيلم السينمائي أصبح ثقيلاً ومكلفاً. لقد قضى وإنتهى.

س: الفيديو الرقمي طريق سهلة للمخرجين الجدد لكي يرى الجمهور أفلامهم، قياسا بالإعتماد على المهرجانات وماشابه.

ج: تماًماً. واليوم من حق الجميع ولوج هذا الميدان، تماماً مثل حق الواحد في إستخدام الورقة والقلم ليكتب. يمكنك أن تكتب قصة، وهذا حق. إن أي شخص في هذا العالم بوسعه فعل ذلك. في أيامنا هذه يمكن لأي شخص أن يعمل فيلمه الذي يريد. بوسع الناس الآن في الأقل الحق في إمتلاك شيء لم يكن بإستطاعتهم أن يمتلكونه من قبل بسبب هيمنة الشركات المالية الكبرى على الإنتاج السينمائي. كانت الأفلام في السابق تكلف ثروة هائلة لإنتاجها.

س: بما أن عالم النظام الرقمي مهدد اليوم بالقرصنة، فهل يساورك نوعاً من القلق بشأن مسألة الملكية الفكرية للفيلم؟

ج: إذا كان الناس يحترمون عمل الغير فكل واحد سيحب نظام كهذا. لكن مع ذلك أظن أن الأشياء لاتجري بهذا اليسر فهي بحاجة لأن تكون متزنة.
ثمة الكثير من القراصنة يبتغون عمل ذلك بالتأكيد. لكن، عموماً، حين يُحب شخص عملاً ما حقاً ويقوم بنسخه من الكمبيوتر، أليس من المنطقي أن يبعث بثمنه إلى الشخص الذي أنجزه.

س: هل بوسع المثل العليا أن تتحقق في عالم الفيديو؟

ج: نعم، أظن ذلك. لكن، مع ذلك، كل شيء يتوقف على الشخص نفسه بالطبع.

س: حين بدأت موقعك الألكتروني (davidlynch.com) على شبكة الأنترنيت، قلت أن الأنترنيت كان مايزال "نائماً" وبطيئاً. إلا أنك الآن وخلال القليل من السنوات، أصبحت موسوساً به؟

ج: نعم هذا صحيح. إنه شيء غريب. لقد إستيقظ هذا العملاق وتوسع وإنشطر وتشعب وأخذ يكبر بسرعة هائلة. إنني أحاول بهذا الموقع الألكتروني العثور على أشياء تفجرني وتسعّر ناري، ولنرى إن كانت ستفجر حماسة الناس أيضاً.

س: ماذا تشعر بتحويل عملك إلى الأنترنيت، وهل تغيرّت كمخرج سينمائي؟

ج: نعم تغيرتُ تغييراً هائلاً بسبب شغفي الدائم في القيام بالأعمال التجريبية، وبسبب الأنترنيت نفسه الذي تعلمّت من خلاله على أشياء كثيرة. تعلمت الكثير حول مايعرف بـ Effect After Flash animation، مثلاً، وإكتشفت الفيديو الرقمي نفسه الذي وقعت في غرامه في الحال.

إنها البداية فقط، لكنه عالم ساحر حقاً... إنني أحب المتنفس العشوائي دائما، وأحب فكرة التماس وقيام الصلات بين الأشياء، وهذا هو جزء مهم من الأنترنيت. إنه شيء هائل وعالم مطلق غير محدود حقا.
أعتقد أننا لو عزمنا الأمر بإحكام فمن الممكن أن نعثر على أشياء رائعة هناك في الأثير.

س: أنت تمارس طقس (التأمل المتسامي Transcendental meditation) منذ عام 1973، فماهو تاثيره على حياتك؟

ج: لقد كان تأثيره عليّ مباشر وسريع. فقبل ممارستي التأمل المتسامي كنت شخصاً سريع الغضب، وكنت أصّب جام غضبي كله على زوجتي الأولى، لكن بعد إسبوعين من بدء ممارستي هذا الطقس جائتني زوجتي وقالت:"ديڤيد، ما الذي حدث لك؟ أين ذهب كل ذلك الغضب؟".

كنت لاأعرف إنه تلاشى حقاً ،ولكن زوجتي كانت تعرف ذلك فعلاً. كنت أعاني أيضاً من حالات قلق وخوف وأشياء سلبية أخرى، وفجأة بدأت كلها تتبدد، وبدأتُ أستمتع حقاً بحياتي.

لقد بدا الأمر غريباً بالنسبة لي، لكنني مع ذلك أصبحت أتذوق الأشياء أكثر فأكثر، وبدأت أيضاً أستمتع بعمل الأشياء أكثر. كان ذلك في البدء وبعدها وبمرور الوقت أصبحت الحالة تنمو وتتطور.
أظن أن إحدى تأثيراته المباشرة التي بدأت تتجلى فيّ هي نضج وقوة إمكانيتي في الإمساك بالفكرة، وكذلك تعاظم حجم الأستمتاع بعمل الأشياء. أما الوعي، الشعور، الوضوح، فقد بدأت تنضج وتتسع بشكل لايصدق. لقد بدأتْ الصورة تتشكل أكبر فأكبر. أصبحتُ أحس أنني أعرف أشياء كثيرة لم أكن أعرفها من قبل، وبدأ إدراكي يتسع أكثر فأكثر. أما الناس فقد أصبحوا أكثر ألفة ووداً وجمالاً بالنسبة لي، بل والعالم نفسه أصبح أفضل.

س: لماذا قررت البدء في إرساء مشروعك "التأمل المتسامي"؟

ج: لأنني أعرف تماماً ماسيفعله لي مشروع كهذا. إنني أمارس هذا الطقس بشكل متواصل كل يوم تقريباً منذ سبعينات القرن الماضي ولحد الآن، وقد كان لي خير معين لي في حياتي ونشاطي الإبداعي على حد سواء، بل يمكنني القول أنه كان في بعض الأحيان الموّجه الرئيسي لنشاطي الإبداعي. لقد جعلني أكثر هدوءاً ومنحني القدرة على مجاراة صعوبات الحياة والعمل.

"التأمل المتسامي" ليس عقيدة دينية، إنما هو طريقة لتحقيق الحرية الفردية. إنه موضوع طويل، على كل حال، لكن ثمة شيء يدعى الوعي، ورغم أن الوعي هو شيء مجرد إلى حد كبير إلا أنه هو بمثابة مَلكة الفهم. الوعي معرفة، صحوة، يقظة حّد الأرق، وهو أخيراً الفردوس. الوعي هو الـ "أنا".
كل شخص يمتلك وعياً بالطبع، لكن ليس كل واحد يعي أن بوسعه تحقيق وعي أكبر. ثمة أوقيانوس مطلق ولانهائي من الوعي داخل كل إنسان، وهو بحاجة فقط إلى تقنية سليمة ليغوص فيه ويستكشفه.
حين تمارس تجربة الوعي الخالص حقاً، فإن الوعي نفسه يبدأ في النمو. عندها ستنعم بكثير من السعادة والإبداع والقدرة على فهم تعقيدات الحياة ومصاعبها. وهذا شيء مهم جداً بالنسبة لمخرج الفيلم، وهو بالتالي، مهم جداً للإنسان عموماً.
حين توسّع مداركك يمكنك حينها صيد الأفكار وهي في أعمق نقطة، كما يمكنك فهمها أكثر. .

س: أي تأثير يمتلكه "التأمل المتسامي" هذا على أفلامك وحياتك الإبداعية؟

أنا أعشق الأفكار وكل شيء عندي يبدأ مع الفكرة. قطعة من الأثاث، لوحة زيتية، قطعة موسيقية، كلها أفكار.
حين توسع وعيك يصبح بإمكانك الأمساك بالدرجات الأعمق للفكرة. هذا يعني أن ثمة الكثير والكثير كامن في جعبة تلك الفكرة، وثمة الكثير من الإمكانيات لفهم تلك الفكرة، ثمة ومضة من الخلق والإبتكار، شرارة من الإلهام في تلك الفكرة.
حين تعي كل ذلك، فإن الوعي ذاته سيأتيك بشيء من الفطنة توحي لك بالطريقة الخلاقة التي ستنجز فيها عملك. الحدس بالنسبة لي هو مزيج من العاطفة والفكر يأتيان معا في شكل من أشكال تلك الفطنة، وهي بالنسبة للرسام أو الموسيقي أو السينمائي أشبه بدليل يهديه إلى الوجهة التي يريد أن يذهب إليها، دليل يقول له: إعمل كذا وإعمل كذا..
هذا النوع من الوعي هو الوعي في حالة الحركة، وكلما إمتلكت أكثر من ذلك، كلما غصت أعمق، كلما زاد ت متعتك في عملك.
إنها نوع من أنواع التغيير، حالة تجعل كل شيء أفضل، لأنها تجربة روحية وذهنية في آن.

س:هل بوسعك أن توضح لنا مافعله "التأمل المتسامي" بوعيك، وماذا تعتقد انه قادر على أن يقدمه لك؟
ج: قليل جداً من الناس من سمع عن التأمل المتسامي. هذا النوع من التأمل هو تقنية ذهنية وروحية، وهو شكل قديم من اشكال التأمل يسمح للإنسان في أن ينغمر فيه ليسمو ويحس ويستكشف المطلق واللامتناهي للوعي الخالص.
إن المعرفة الصافية والإدراك المفعم بالحيوية، الغبطة، الفطنة، الإبداع، الحب، القوة، الطاقة، كلها كامنة هناك في داخل الوعي الخالص، هناك حيث منبع التفكير، ومنبع التفكير يحدث أيضاً أن يصبح منبعاً لكل شيء، للشجرة، للسمكة، للنجمة، للكون. إنه المنبع الشامل.

"التأمل المتسامي" تجربة ستجعلك تتخطى نطاق النسبية لتدخل مدار المطلق. هناك حيث بوسعك تجاوز الثنائية وإستكشاف الأحادية والتفرد، هناك حيث ستتخطى المحدود وتدخل نطاق اللامتناهي والسرمدي الذي يتضمن كيفيات خالصة متنوعة للوعي مثل الإدراك الخالص، الإبداع الخالص، الحب الخالص، الطاقة الخالصة، الهارموني الخالص، الترابط الخالص، السلام الدينامي، كلها جميعاً هناك، حيث بوسعك أن تستكشفها وتنمو فيها. إنها حالة من وعي السعادة الخالصة.
إن خوض هذه التجربة، هذا المضمار الأعمق، وإجتيازه من بعد، سينعش الوعي ويطوره. ومعه ستتطور ثقافتنا ويتطور فينا عنصر الإبداع والإبتكار.
التأثير الجانبي لتجرية كهذه هو أن الظواهر السلبية تبدأ بالإنحسار. أشياء مثل الكراهية، الغضب، الكآبة، الحزن، القلق والمخاوف، كلها تبدأ بالإنحسار، ويبدأ الواحد منا حينها يحيا حياته بحرية أكبر، حيث الحياة أكثر تدفقا بالأفكار، أكثر قيمة وإدراكاً. إنه معين للمعرفة تغترف منه متى تشاء، مجال للمعرفة تنعشه أنت، لتحصل منه في المقابل على ثروة من الأشياء الحدسية.

إنه شيء مهم لميدان الفن ولكل ممارسة أو فعل أو مسلك في الحياة. هذا الحقل في علم (الڤيدا) الهندي يسمى Atman، أو الروح الكونية. هذه الروح الكونية ستصبح هي الذات العليا. إنها تقبع هناك حيث إمكانياتنا التي نجهلها، والتي ينبغي علينا إكتشافها لننعم بالتنوير. نحن فقط بحاجة إلى أن نغوص فيها ونستكشفها، وحين نستكشفها سيتغير كل شيء فينا بشكل كامل.
ثمة جملة قصيرة تقول:"أعرف نفسك". وفي الإنجيل يقولون:"إبحث في البدء عن مملكة السماء التي تكمن في داخلك.... إلخ"..
الإنسان يمتلك هكذا إمكانية، ويمكن أن تسند إليه إمكانية التنوير، التحرر، الخلاص، وتحقيق إمكانات هائلة للبشرية.
نحن لسنا بحاجة إلى معاناة. الإنسان لم يُخلق ليعاني. حين نقوم بتنشيط هذه الطاقات الكامنة داخلنا سندرك أن السعادة هي طبيعتنا. ومثلما يعّلم مهاراشي، بإن الكائن البشري لم يُخلق ليعاني. الحياة ستهبنا السعادة، والسعادة هنا لاتعني مجرد بهجة صغيرة طارئة، بل قيمة كبيرة وعميقة. شيء أشبه بالكمال.

نحن أشبه بعربات سعيدة تتدفق منها الأفكار، مثل كلاب صغيرة تهز بذيولها. وهذه ليست بأشياء حمقاء، إنها أشياء جميلة، ممتلئة وعظيمة، عظيمة حقا.

س: هل أنا على صواب إذا قلت أن علاقتك بكل ذلك يعكس مهنتك كمخرج سينمائي، فأنت قد بدأت تمارس "التأمل المتسامي" في ذات الفترة التي أنجزت فيها فيلمك (رأس الممحاة)، هل هذا صحيح؟

ج: نعم صحيح.

س: وهل ظلت هذه الحالة تلازمك طوال فترة مهنتك؟

ج: نعم.

س: إذن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو إذا كان "التأمل المتسامي" يمتلك كل هذه الإيجابيات، وبوسعي رؤية تأثيره الصادق والحقيقي عليك، لماذا إذن كل هذه العتمة في أفلامك؟

ج: نحن جميعاً نختلف في المظهر لكننا نأتلف ونتوحد في الجوهر. نحن عائلة كونية واحدة، لكننا نختلف في المظهر. أنا أحب هذا، أنت لاتحب هذا. إلخ...
نحن نصطاد الأفكار. أحياناً نمسك بفكرة ما ونقع في غرامها. وإذا كانت هذه الفكرة سينمائية فسنرى مابوسع السينما عمله لهذه الفكرة ونحن ندور على محورها.

القصص تتضمن نزاعات وتعارضات، ذروات ومنحدرات، حياة وموت وصراعات إنسانية وكل أنواع الأشياء. الفنان ليس عليه بالضرورة أن يعاني كل هذا ليرينا المعاناة على الشاشة. بمعنى آخر، أنت لست ملزماً أن تموت بشكل واقعي حسي لكي تجسّد مشهد الموت في عملك الفني. ماعليك فقط هو أن تفهم الموت بطريقتك الخاصة، أن تفهم معاناة تلك الشخصيات. وهذا الفهم هو الشيء الجوهري.

حين إبتدأتُ تجربة التأمل هذه ظننت أنني سأحصل على الهدوء والسكينة والسلام، إلا أن ذلك لم يحصل على الأطلاق. لم يكن الأمر بهذه الصورة التي تخيلتها في البدء. على العكس، الأمر مفعم باليقظة والحيوية والطاقة. هنا تكمن كل الطاقة والإبداع. إنها عملية خلق مذهلة.
لن تفقد حدودك بالطبع، بل العكس، ستحصل على مشاعر قوية أكثر نحو شيء ما، ويمكن أن يكون هذا الشيء كبير جداً.

حين تجلس أو وتستلقي إلى الخلف بهدوء وإسترخاء وتغمض عينيك في هذا النوع المسطح من السلام لن تشعر بنوع من النعاس. إنه سلام حيوي، قوي جداً، إنه هناك حيث تكمن جل الطاقة. لذا فالشيء الجوهري هنا هو أن بوسعك عمل كل هذه القصص وأنت منفصل عنها. وهذه هي المسألة الأساسية.

***

(هوامش)


(*) Frame (الإطار ـ الصورة)
هي الصورة الواحدة الثابتة (إطار) من سلسلة الصور الثابتة المتتابعة على الشريط السينمائي، والتي توحي بالحركة فقط عند عرضها على الشاشة بفضل خاصية العين المعروفة بإسم إستمرارية الرؤية. ومن الجدير بالذكر أن كل قدم من الفيلم مقاس 35 مللي يحتوي على 16 صورة أو إطار ويمر هذا الفيلم خلال آلة العرض بمعدل 90 قدماً في الدقيقة، أي بمعدل 24 صورة (إطار) في الثانية الواحدة. ويعرف الإطار أو الصورة في اللغة الدارجة بإسم (الكادر) المأخوذة أصلاً من الفرنسية.
المصدر: معجم الفن السينمائي: أحمد مرسي و مجدي وهبة. وزارة الثقافة والإعلام. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1973

***


(فيلموغرافيا)


ـ Eraserhead 1978
ـ The Elephant Man 1980
ـDune 1984
ـ Blue Velvet 1986
ـWild at Heart 1990
ـTwin Peaks: Fire Walk with Me 1992
ـLost Highway 1997
ـThe Straight Story 1999
ـ Mulholland Drive 2001
Inland Empire 2006-



alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لينش مرة أخرى
البيروني -

تبكمت الآن تبكما جميلا ولا يسعني أن أقولب المعاني الجميلة التي أشعر بها جراءالغوص في فكر ديفيد لينش ..كلما قرأت حوارا له أنبهرت بكل هذه الافكار التي تغمرني وتجذبني إلى العمق ..شكرا جزيلا ديفيد والشكر موصول بمترجم الحوار الأخ الكريم

تقديرالجهد الثمين
خالد ماهر -

شكرا لك ايها المبدع وشكرا لايلاف وعندي طلب كيف او اين اجد كتب الفنان على كامل .الحقيقة كتاباتهفي المسرح والسينما تبهر القاريء..