السينما

سينما عن قسوة الإنسان.. بعيداً من المعالجات النمطية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رفقي عساف من عمان:أجلت الكتابة عن هذا الفيلم حتى تتضح معالم جوائز الأكاديمية "الأوسكار" لهذا العام، إذ كنت أتوقع له الكثير، وصدق توقعي، فقد حصد فيلم "لا مكان للرجال العجائز" ثلاثا من أهم الجوائز برأيي وأتبعها برابعة لا تقل أهمية، فحصد جوائز أفضل سيناريو مقتبس، وأفضل إخراج، وأفضل فيلم، بالإضافة إلى الجائزة التي لم يكن ليختلف عليها اثنان، جائزة أفضل ممثل في دور مساعد للإسباني الكاريزمي "خافيير باردام"، وأثبت الأخوان إيثان وجويل كوين في هذا الفيلم بأنك يكفي أن تصنع فيلماً قريباً من الأرض، ومختلفاً عن الثيمات السينمائية المستهلكة والنهايات بل وحتى الحبكات المتوقعة لتحصد ثناء سينمائياً مستحقاً.

من فيلم لامكان للرجال العجائز
فيلم "لا مكان للرجال العجائز" هو تحفة سينمائية حقيقية، ويستحق أن يكون الفيلم رقم ثمانين الذي يحصد أوسكار أفضل فيلم، فالفيلم المقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه لـ "كورماك مكارثي"، والذي بدوره اقتبس الاسم من مقطع من قصيدة للشاعر المعروف "ييتس"، فيلم قريب من الحقيقة المفجعة، بأن العالم مكان قاس للعيش، وبأننا مع مرور الوقت نصنع عالماً يزداد وحشية، ويتأقلم قساته وطغاته مع كل الظروف فيزدادون شراسة واستعصاء على المواجهة.
بني الفيلم على الواقع، وبنى عليه، في تناول سينمائي شيق يعتمد على ما لم تره في السينما من قبل، من جمل يومية، وواقعية مفرطة، وأداء مختلف على كافة الصعد، من تمثيل وتصوير وإخراج، فجاء مبهراً، قريباً من القلب رغم قسوته، يتركك وقد عرفت بأن السينما غير التقليدية هي البوابة للعصر السينمائي القادم، في حبكة مجددة، وأحداث غير متوقعة، ومعالجة بعيدة كل البعد عن أي قوالب سينمائية جاهزة اعتادت السينما الأميركية تقديمها، سواء على صعيد السيناريو، أو على صعيد الإخراج.
الشخصيات، كلمة سر في صنع "لا مكان للرجال العجائز"، فـ "خافيير باردام" مثلاً يقدم شخصية مذهلة ستتذكرها السينما العالمية طويلاً، فدور "أنطون شوجير" القاتل البارد ذو الطقوس الخاصة، قدم لـ "باردام" أوسكار أفضل ممثل مساعد بسهولة قل نظيرها، فيما جاءت شخصية "لويلين موس" التي لعبها "جوش برولين" وشخصية "إد توم بل" الشرطي العجوز التي قام بأدائها "تومي لي جونز" شخصيات غير نمطية، أداها الثلاثة باقتدار مدهش، وقدم لنا من خلالها الفيلم مطاردة ثلاثية عبثية في زمن سقطت فيه كل الحواجز والقيم، فأضحى زمناً لا مكان فيه إلا للقوي في شريعة غاب وصلت إليها الإنسانية رغم أنفها.

شخصياً، لم يفاجئني ترشيح "روجر ديكنز" لأوسكار أفضل تصوير سينمائي عن هذا الفيلم حتى وإن لم يفز بها، فالوحشة التي تتركك فيها الصورة عند مشاهدتك للفيلم، تساهم كثيراً في ما يريد قوله، والحّر الذي قد يصيبك هذا الشتاء عند مشاهدتك مشاهد الصحراء القاحلة يؤكد دور الصورة القوي في هذا الفيلم، فيما يتركك مشهد الجثث المتناثرة لبعض رجال العصابات على الرمال الصفراء تنتظر نسوراً ستأتي لنهش هذه الجثث، اللون في الفيلم أصفر صحراوي، يشي بالإحساس بالوحشة والعزلة والقسوة، فيما تأتي الموسيقى خفية تماماً، فلا أستطيع تذكر شيء عن الموسيقى التي ألفها "كارتر بورويل"، والتي استخدمت بشكل قليل جداً في الفيلم، أما المونتاج فقصته غريبة، فالمسؤول عن المونتاج على شارة الفيلم "رودريك جاينز" هو شخصية خيالية ابتكرها الأخوان كوين قبل سنوات طويلة لتخفيف ظهور اسميهما على أفلامهما حيث يقومان أيضاً بمونتاجها، والطريف في الأمر أن "رودريك جاينز" رشح لأوسكار أفضل مونتاج عام 1997 وعاد ليترشح لهذه الجائزة هذا العام أيضاً، ما يؤكد الإبداع المونتاجي للأخوين في هذا الفيلم.
الإخراج الفني نقلنا إلى مطلع الثمانينات بإبداع، على الرغم من بعض الهفوات القليلة التي قد لا تبدو واضحة في وجود بعض السيارات الأحدث قليلاً من العام التي تدور فيه أحداث الفيلم وبعض الهفوات الأخرى الصغيرة التي لا يخلو منها أي عمل سينمائي، أما الملابس فكانت متناسبة تماماً مع المنطقة والحقبة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث.
على صعيد الإخراج، تألق الأخوان كوين في فيلم يتفوق على أفضل أفلامهما السابقة "فارجو" الذي نال جائزتي أوسكار، فقدما في هذا العمل خلاصة إبداعهما، واستطاعا من خلال شخصيات مرسومة بعناية أن يصنعا ملحمة درامية عبثية، تقدم لك كل ما هو غير متوقع من فيلم سينمائي، في قمة التجديد على صعيدي الشكل والمضمون.
"لا مكان للرجال العجائز"، هو سينما القرن الواحد والعشرين، سينما المختلف واللامتوقع، والبعيد عن النمطية والثيمات المكرورة، وهو صورة قاتمة لما وصل إليه العالم من شر وقسوة في عصرنا الحديث، حيث العنف والقتل عادات يومية بات تقبلها أمراً حتمياً، وهنا، في زاوية لم تطرقها السينما بهذه الطريقة من قبل، وبتركيبة سينمائية إنسانية عميقة، يروي لنا الأخوان كوين قصة عن الموت والحياة، جديرة بالتقدير، وبأرفع الجوائز.

* شاعر ومخرج أردني

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف