ظل الغياب فيلم الرسائل الهامسة والحضور المضيء للقضية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمود عبد الرحيم من القاهرة:" ظل الغياب " الفيلم الأخير في سلسلة الأفلام التي حرص مركز الثقافة السينمائية بالقاهرة على عرضها، استذكارا لنكبة فلسطين، وربما كان أهمها وأكثرها جودة على المستويين الفكري والفني.وأتصور أن هذه الخطوة التي أقدم عليها المركز جديرة بكل تقدير، كونها أتاحت الفرصة لمحبي السينما من نقاد ومشاهدين عاديين، أن يشاهدوا تجارب لمخرجين فلسطينيين، ليس متاحا بسهولة التعرف عليها، خاصة الوثائقية منها، اللهم إلا في مناسبات، بعينها، كالمهرجانات مثلا، فضلا عن إتاحة الفرصة للمخرجين الفلسطينيين، كذلك، للوصول إلى جمهور خارج حدوده، الأمر الذي يخلق تواصلا مطلوبا بين الشعوب عبر الفن.
والفيلم الذي نحن، بصدده، للمخرج نصري حجاج، ربما تنبع قوته من الجهد المبذول في التحضير له، الذي على ما يبدو استغرق سنوات، إلي جانب توافر دعم مالي وفر له إمكانية التجوال داخل الأرض المحتلة من شرقها إلي غربها ومن شمالها إلي جنوبها، بالإضافة إلي مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن، والخروج إلي أوروبا وأمريكا وفيتنام ومصر وتونس، والاهم من ذلك الفكرة التي انطلق منها المخرج والتي بدت مختلفة، مقارنة بمثيلاتها التي تعرضت للقضية الفلسطينية، فحجاج انطلق من فكرة الموت وتتبع مقابر الفلسطينيين الشهداء منهم أو غيرهم، المناضلون أو العاديون، من ماتوا في الداخل أو في المنافي.. يحركه هاجس المرقد الأخير والسؤال الذي سأله من قبل مئات، إن لم يكن الآف من الشعب الفلسطيني.. هل يمكن أن ارقد في موطني بعد موتي.. أم أن الشتات سيظل يلاحقني في حياتي وموتي ؟ وأظن أن هذا السؤال الذي سيطر على المخرج لم يكن بالأمر العابر، لكنه كان مقصودا به،عن وعى، إثارة تعاطف العالم وتذكيرهم بمأساة شعب لا يستطيع أن ينعم بأرضه حيا وميتا، بل وتحميلهم مسئولية هذا الوضع الشاذ الذي يسمح فيه لأي يهودي في أصقاع الأرض، لا تربطه بفلسطين صلة من قبل، أن يأتي إليها متى شاء، وان يحرم أهلها حتى من الرقاد الأخير.
ومن اجل مزيد من تعميق هذه الرسالة، توقف المخرج عند تناقض في سلوك الكيان الصهيوني مع الموتى الفلسطينيين، ففي حين يحرمونهم من الدفن في أرضهم، نجدهم حريصين على الاحتفاظ بجاثمين من قاموا بعمليات فدائية بالقرب من قواعد عسكرية، مع عدم التصريح بأسمائهم، وهو ما وصفه المخرج ب " المرض النفسي "، وان كان بالطبع له دلالة، وهو عقاب اهالى من قاموا بالهجمات، وحرمانهم من إتمام مراسم الدفن التي تبدو ذات قداسة، فضلا عن الحرمان من زيارة ضريحهم.
وقد حرص المخرج وهو يتنقل بنا من مقبرة إلي أخرى، أن يصل رسالته بشكل هامس، ويؤكد أن لهذه الأرض التي تحمل الآن اسم " إسرائيل " شعب آخر يعيش إما على حدودها في الأردن أو لبنان أو سوريا أو في أخر الدنيا، لكنهم جميعها لا يعترفون بانقطاع الصلة عن وطنهم الأم، ويتمسكون رغم السنين بحق العودة ولو جثثا، حتى هؤلاء الذين حصلوا على جنسيات أخرى، وارتقوا في مجتمعاتهم الجديدة مثل المفكر الشهير ادوارد سعيد، أوصى إذا تعذر دفنه في فلسطين أن يدفن في لبنان، ليكون قريبا من مسقط رأسه، وكذلك احمد الشقيري الرئيس الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي أوصى بدفنه في أغوار الأردن، ليكون على مرمى حجر من فلسطين.
وفي خضم استعراضه للموتى الفلسطينيين ووصايا الدفن، حرص كذلك علي إيصال رسالة أخرى للعالم، من خلال تقديم شخصيات فلسطينية بارزة في الفكر كادوارد سعيد أو في الفن كناجي العلي أو في الشعر كمعين بسيسو أو في السياسة كعرفات، مفادها أن فلسطين ليست كما يروج الصهاينة ارض بل شعب وإنما ارض لشعب لديها كل الإمكانات والكفاءات مثل غيرها من الشعوب رغم كل الظروف القاهرة، وان الفلسطينيين شعب عادى وليس مجموعة من القتلة، كما يصورون عادة، بل أنهم هم القتلى وليس القتلة.
ولعلنا لا نعجب من تكرار استعراض الكاميرا لجبال ومزارع فلسطين الغناء وهي خاوية، وتوقفه من وقت لآخر عند الأسلاك الشائكة، مع توالي اللقطات مع أخرى، داخل أزقة ضيقة وحياة خانقة بالمخيمات، في مغز لا يخلو من إشارة قوية، ألا وهى أن فلسطين ارض تنتظر أبنائها الذي يحول بينها وبينهم الحدود التي وضعها الاحتلال الصهيوني، وان هذه الأرض البراح موجودة، بينما الفلسطينيون يعيشون حياة الشقاء في الشتات.
كما حرص كذلك، وهو يجول بين شواهد القبور واللوحات التذكارية أن يتوقف عند محطات رئيسية في مسيرة النضال الفلسطيني ولحظات المد والجزر فيها، أو بالأحرى الانتصار والانكسار، وما ارتبطت به من رموز، من قبيل أيلول الأسود الذي سبقها حلم فلسطيني كبير بان تكون الأردن هي المنطلق نحو استعادة الأرض، ثم حدثت المأساة الشهيرة، وتبعها حلم آخر في لبنان، لكنه انكسر كذلك، ثم كان ذهاب المقاومين إلي تونس وبقاء من بقى، سواء على الحدود أو لاجئين في أصقاع الأرض، وان كان هنا قد وجد فرصة ليسلط الضوء، على رموز فلسطينية كأحمد الشقيري وعرفات وفيصل الحسيني وأبو جهاد وغيرهم، فهو، أيضا، قدم انتقادا مبطنا لا يخلو من مرارة وهو يشير إلي الدماء الفلسطينية التي سالت ليست بيد إسرائيلية فقط، وإنما بأيد عربية، كذلك، سواء لبنانية من حزب الكتائب أو حركة أمل أو الحزب الاجتماعي السوري، أو أردنية أو سورية.
وبحكم انتمائه لمخيم عين الحلوة، فقد أعطاه مساحة كبيرة لدرجة انه عاد إليه أكثر من مرة وجال في أزقته الضيقة، وتوقف عند ذكرياته الخاصة بهذا المكان الذي بدا له وهو طفل كأنه العالم، وعن مدرسته والمساجد التي تحوي مقابر، وعن المرقص في صبرا وشاتيلا الذي تحته مقبرة جماعية من زمن الحرب الأهلية التي تبدو مشتعلة في ذاكرته، وعن هؤلاء المعادين لعبد الناصر الذين رفضت لجان المقاومة إقامة مراسم دفن لهم أو رقودهم بجوار الموتى الفلسطينيين، فاضطر أهلهم إلي دفنهم في فناء المنزل، وكأنهم خارجين عن الملة، لأنهم وقفوا ضد من تبنى القضية الفلسطينية.. رمز العروبة وتحرير الأرض وقتها، بينما يستوقفه في المقابل، مقبرة الشهداء في بيروت التي حوت جاثمين مسلمين ومسحيين وسنة وشيعة ومصريين وفيتناميين، وكأنهم اجتمعوا على القضية بصرف النظر عن انتماءاتهم.
انه فيلم جيد بكل المقاييس، خاصة انه وظف الموسيقي ومقتطفات من شعر محمود درويش أو معين بسيسو ليؤكد لمن يشاهده، أن فيلمه وان تمحور حول المقابر والموتى، إلا انه يدعو إلي الحياة، الحياة التي تولد من الموت، وان الموت من اجل قضية حياة، وان الصمود والمقاومة تخلق حياة وان سالت دماء، ولعله كان حريصا على تأكيد هذا المعنى في اللقطات الأخيرة حين ركز الكاميرا على طفلة تلعب بدراجة وكأنها الأمل القادم، إلي جانب الوقوف على لوحة إحدى المقابر التي كتب عليها " ماتوا من اجل أن نحيا " وزاد على ذلك، بالأغنية التي انهي به فيلمها والتي تشدد على قيمة الحياة وبزوغ فجر جديد.
لقد عالج فكرته بشكل شاعري وبحساسية غير عادية، وبدا عميقا في طرحه، بدءا من العنوان المفارق الذي قصد عكسه، قصد النور بدلا من الظل، قصد الحضور بدلا عن الغياب، حضور القضية وسطوعها من جديد، وان كان من ملاحظة على الفيلم، فهي طوال المقاطع المروية وإعاقتها، أحيانا، للتدفق الشعوري وأخذها من لغة الصورة، إلي جانب إيصال المشاهد أكثر من مرة إلي الذروة، وبدلا من أن ينهي فيلمه، نجده يفاجئنا بان ثمة المزيد من المشاهد وان النهاية لم تأت بعد، فضلا عن إقحام شخصية إسرائيلية لا مبرر لوجودها في فيلم كهذا، بالإضافة إلي التحيز الفصائلي بالتركيز على الفتحاوية واستبعاد الحمساوية، مثلا، ورموزهم مثل الشيخ احمد ياسين، وكأن موتهم أو استشهادهم لا معنى له ولا قيمة.
mabdelreheem@hotmail.com