السينما لغة التعبير عن الواقع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
باريس: جمال شاب فقير عاش و عرف معنى الجوع و التشرد و قسوة و مرارة فراق الحبيبة. ماتت أمه في إحدى حوادث الشغب و العنصرية. أخذ أخوه طريقه نحو الإجرام. جمال بائع الشاي يلعب القدر لعبته ليشارك ببرنامج من يربح المليون?. هل أراد المخرج "داني بويل" مجرد معالجة قصة" سؤال و جواب" للدبلوماسي الهندي فيكاس سوراب، و هل يستحق هذا الفيلم كل هذه الجوائز الدولية أهمها ثماني أوسكار؟ ما الجديد في هذا الفيلم؟ و لماذا حصد كل هذه الشهرة؟
يُذكِّرنا هذا العمل بفيلم لوس الفاديوس للمخرج الاسباني لويس بونويل، حيث التشرد، والتفكك الاجتماعي و الأسري، حيث القسوة و الحب، حيث الموت بشعًا و مؤلمًا.
لويس بونويل يسخر من السينما الواقعية و يذهب الى أبعد حدٍ ممكن حيث يخلق من الواقع عالمًا ميتافيزيقيًا مرعبًا و يعيد تصوير حكايات دينية ليكشف عن قلة حيلة الدين والنظم الاجتماعية في خلق الخير و السعادة.
لا نريد فعل مقارنة بين هذا و ذاك. هناك فترة زمنية متباعدة و أماكن تصوير مختلفة، لكنه هو الواقع الانساني يظل واحدًا و متكررًا، هو الانسان منذ هابيل و قابيل، الانسان يظل محور اهتمام الفن على مر العصور.
الهند بلد ليس مجهولا للمواطن الغربي و نجاح الفيلم ليس لعرضه العشوائيات و البؤس، كوننا نشاهد عشرات الافلام الوثائقية و الريبورتاجات حول هذه القضية و غيرها من الأمور على القنوات الفضائية بشكل شبه يومي. الهند بلد الشاي و البهارات و القطن، هي بلد الأديان و المذاهب و اللغات، ليس اذًا، هذه النقطة هي العنصر الأهم في نجاح الفيلم.
موضوع العشوائيات أصبح يجذب بعض المخرجين العرب، لكن للاسف تقديم الواقع بصورة مباشرة و ساذجة جعل من هذه الافلام شيئًا مزعجًا و مقرفًا. أصبحت العشوئيات موضوعًا للاستغلال البشع، لكن الحقائق العميقة تظل مدفونه. طرق هذا الموضوع لكسب تعاطف الجمهور، لدفعهم نحو شباك التذاكر، هو نوع من أنواع الاحتيال لا أكثر و لا اقل.
"داني بويل" في هذا الفيلم يجعلنا نحس بعمق الواقع بكل بساطته و قسوته. جمال بائع الشاي يصل للقمة للحصول على عشرة مليون روبية، نراه بغرفة التحقيق. يقوم شرطي ساذج و عنيف بتعذيبة. كل ضربة توجه اليه نحسها توجّه الينا. نراه معلقًا لا نعرف سبب هذا العنف. ينقلنا المخرج من موقف عنيف الى موقف أكثر عنفًا. هل يبحث المخرج عن أجوبة لهذه التناقضات التي تسود المجتمع الهندي؟ هناك مئات الافلام الهندية التي تطرقت للموضوع منذ بداية السينما في الهند. منْ منا لم يشاهد " سلام مومباي"؟، من منا لم يذرف الدموع و يصفق لأفلام أميتاب باتشان؟
استطاع المخرج خلق ملحمة و من أجل ذلك لابد من بطل، لكنه ليس بطلاً خارقًا. الشاب الذي قام بدور جمال ليس ممثلاً مشهورًا. لا توجد شخصيات مشهورة و لا نجوم، و لعل هذا ما منح الفيلم قوة اضافية، حيث لم نتأثر بشخصية نعرفها أو لعبت أدوارًا سابقة مؤثرة. اذًا، البطل واحد منا نحن الناس البسطاء.
استعمل المخرج لغة سينمائية مدهشة باعتمادة على الفلاش باك، هذه التقنية هي قديمة و كما يقول عنها بيرغمان أشبه بموروث سينمائي منذ بداية السينما، لكن المخرج خلق بواسطتها تداخلات معقدة بين الواقع و الماضي. تأخذ الشخصية الرئيسية دور الرواي. في كل مرة نعود للماضي مع كل سؤال. لا تأتي الصورة، لمجرد طرح الجواب. كل لقطة و مشهد هو جواب لأسئلة لم يثرها مقدم برنامج من يربح المليون. هي أجوبة لأسئلة أخرى قديمة و جديدة. الجواب ليس سهلاً. اذًا، كل صورة تحاول أخذ مكانها و تتقدم إلينا و كأنها تعرف الأجوبة ثم تتراجع لتدع المكان لصورة أخرى. نشعر في بعض اللحظات أننا نطير مع الكاميرا التي تحملنا بحركتها الديناميكية النشطة ثم تقذف بنا، في ذلك المشهد الرائع جمال و سليم يقفزون من القطار الى الرمل. لم يكن قفزًا عاديًا من دون الكاميرا جميعًا قفزنا قفزة واحد.
توجد عدة صور للتسلط مثل ذلك الرجل الذي يستغل الأطفال لأغراض مادية. السلطة ليس لها دين و لا أخلاق. بدم بارد يتم فقع عين طفل حتى يثير تعاطف الناس و يكسب أكثر. هذا الكسب سيذهب الى جيب هذا الشرير. اذًا، صورة الشر موجودة بقوة مثل كل الأفلام الهندية. إن الشر يخلق شرًا أكبر منه. سليم شقيق جمال جاء من عالم المحنه و المعاناه. مارس كل الأعمال السرقة و التشرد، ولكننا نجد أنفسنا متعاطفين مع هذه الطفولة البائسة. نجد أنفسنا نركض معهم و نجوع و نعطش معهم في مشهد رائع يظل بالذاكرة عقب موت الأم. يركض جمال و سليم و أخيرًا الوصول للامان يهطل المطر بقوة نشعر بالرعدة و اهتزاز هذه الاجساد الضعيفة في عز المحنة و الحرمان يولد الحب. تظهر لاتيكا هي الأخرى متشردة و محرومة السماء ليس لديها الحنان. السماء هي الاخرى عنيفة و قاسية. يتحد البؤس ضد كل القسوة.
أنا لست من هواة مشاهدة الافلام الواقعية. نحن هنا أمام لغة سينمائية ممتعة و مدهشة، لعل هذا ما أعجبني بالفيلم. نجد نوعًا من التجديد الصوري الخلاق، يدعونا أن نترك مقاعدنا بصالة العرض لننضم الى هذه المغامرة الطفولية. ليس هذا فحسب هي مغامرة تحدي أيضًا. هذا التحدي يجعلنا نحلم بالانتصار. نهاية فيلم مزج بين دراما تراجيدية بموت سليم و نوع من انتصار الحلم بعودة لاتيكا الى احضان جمال. هي قصة حب ليس بين روميو و جولييت، ليس كما تقدمة بعض الأفلام العربية حاليًا بين شاب فقير و فتاة غنية في أغلب الأفلام العربية حاليًا القصص تتشابة. هي نفس الأحداث لقاء بين شاب فقير و فتاة غنية. تولِّد قصة الحب. يرفض الأب أو الأسرة هذا الحب. يتجه الشاب للكابريهات ليغني. يصبح مشهورًا. يتغير موقف عائلة الفتاة، في الختام شهر عسل في شرم الشيخ. هي الحدوتة نفسها تُعاد في نفس المواقع و أحيانًا بنفس الممثلين. هذا الاسلوب المكرر و الساذج يجعلنا نشعر بأن هذه النوعية من الافلام هي نوع من السخرية بعقلية المتفرج. اذا لم يكن هناك جديد فلماذا الانتاج و التعب؟ في فيلم المليونير المتشرد هو حب بين فتاة و شاب بعثرهما القدر. حاول الشر تدمير حبهم، لكن الحب ينتصر بقوة الخير. الخير الكامن في نفس سليم الذي يساعد لاتيكا في الفرار و اللحاق بجمال لتحقيق حلمها.
نجد في الفيلم أيضًا تحولات هامة في الصراع يمكن أن ياخذ تفسيرًا أسطوريًا حتى لو أن المخرج ربما لم يقصد ذلك. جمال و سليم و لاتيكا يصارعون من أجل البقاء و الحياة من أجل لقمة العيش، يتفرقون. لاتيكا تظل أسيرة الرجل الشرير الذي يحولها لعاهرة. هنا في خلال مغامرات جمال و سليم هنا أيضًا البحث عن لاتيكا. عند العثور عليها و استرجاعها، يقرر سليم الاستمتاع بها و يهدد أخاه بالقتل. يدرك سليم بأن هذا المجتمع مجتمع وحشي لذلك يتحول لقاتل و وحش ليأخذ مكانه. ينسحب جمال، لكنه لا يستسلم. عندما يكبر يستمر بالبحث، البحث عن الحب و الأخوة. بعد عثورة على سليم يحاول أن يستعيد حبيبته، لكنه يفشل. صعودة للمنصة و مشاركته في هذا البرنامج هو قدر لربط الماضي بالحاضر. هنا في هذا الفيلم تنتصر السينما لنفسها بقوة لغتها و وسائلها التعبيرية لتكشف عيوب التلفاز كجهاز محكوم بيد السلطات ليس للتوعية، بل لبيع الأوهام للناس و تخديرهم.
فيلم جيد كما يرى روبرت بريسون هو الذي يعطيك احساسًا عاليًا بالفن السينمائي. السينما منذ الاخوة لوميير ادهشت الناس، ليس بتصوير الواقع و لكن بخلق واقع مدهش و محسوس قادر على اثارة الفزع أو المرح.
عندما نشير بالنقد لبعض أفلام الاكشن و التجارية التي تنتج حاليًا في العالم العربي و نتحدث عن أفلام غربية فلا يعني إننا نمجد الغربي. هناك أفلام عربية اتجهت للواقع، و لكنها لم تسقط في وحل السطحية و المباشرة. لنذكر على سبيل المثال فيلم "الكيت كات" للرائع و المبدع داود عبدالسيد. في هذا الفيلم الشيخ حسني الرجل الأعمى صاحب المزاج يرى ما لا يراه "المبصرون. يأتي الواقع ليقدم نفسه بكل عمقه المفزع.
في فيلم" المليونير المتشرد" يمكننا أن نلمس و نحس بالفئة المحرومه و المهمشة ليس عبر الحدث كحدث و لكن عبر اللغة السينمائية التي تقدم لنا الحدث. تنوع زوايا الكاميرا و حركتها الديناميكية و أحيانًا سكونها و هدوئها. كل هذا كي يجذبنا للداخل كي يكون لنا موقع داخل الحدث كمتفرجيين.
اذًا، يمكننا ان نستلخص في النهاية أن فوز الفيلم و شهرته و انتشارة ليس بسبب قوة القصة و فظاعة الواقع، و انما بقوة و سحر اللغة السينمائية و ذكاء المخرج في استغلال تقنيات و أساليب سينمائية معروفة و متاحة، و لكن لأنه وظفها بشكل مدهش و فني لتتحول كل لقطة و مشهد أبلغ من عشرات الصفحات. إبتعد المخرج عن الثرثرة الزائدة وزج بنا في عمق الحدث من اللقطة الاولى. عفوية التمثيل لم تلغِها هيبة السينما، بل زادتها جمالاً و صدقًا. السينما هنا ليست مجرد نافذ ة على الواقع، وإنما هي نافذة و مدخل لتلمّس الروح الانسانية. هي وسيلة لاتاحة الفرصة لهذه الارواح المبعثرة و المسحوقة لكي تتحدث. هي متعة و مناسبة لطرح أسئلة قديمة و جديدة صعبة و مربكة.