السينما

قراءة في فيلم جريمة حقيقية لكلنت إيستوود

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بغداد: بشاهدين لم يشاهدا شيئًا يتحول البريء الحر الى مجرم يطالب الجميع بأزهاق روحه بلا رحمة هكذا وببساطة يتحول رجل له عائلته وعمله وحياته الى محكوم بالاعدام "لاتهامه بقتل فتاة كانت تدين له بمبلغ 96 دولاراً فقط وفعل ذلك لانها لم تسدد دينها له" وعليه الاعتراف أمام القس بجريمة ليس له أي علاقة بها. بهذه البداية الغامضة يبدأ فيلم "جريمة حقيقية" الذي يشدك حتى آخر دقيقة منه الى درجة تجعلك تحسب الدقائق مع البطل. الفيلم من تمثيل و اخراج كلينت استيوود وهو عن رواية للكاتب "اندرو كليفن" حولها للسينما "لاري كروس".
يبدأ الفيلم بتسليط الضوء على الصحفي ستيف "كلينت استيوود" الذي يعيش حياة فوضوية فيهمل زوجته ليتجه الى علاقات مع اخريات ومنهن زوجة زميله في العمل. مع سجل ملغوم بالاخطاء والادمان وهذا يؤدي الى أن الجريدة التي يعمل بها لاتوكل اليه مهمات تتعلق بالجريمة والمحاكم, لكن وبسبب حادث يحدث لزميلته لايجد رئيسه في العمل سواه فيكلفه بكتابة مقال "انساني" عن احساس رجل يعيش ساعاته الاخيرة قبل الاعدام, وكان من المفروض ان يقابله لخمس عشرة دقيقة فقط ليسأله عدة اسئلة تشكل محور مقاله وينتهي الموضوع لكنه بعد ان يبدأ بالسؤال عن الرجل وعن جريمته "بطريقة رتيبة واعتيادية" تشده ملابسات الحادث ويشم "انفه الصحفي" رائحة غريبة تجره الى محاولة البحث عن الحقيقة.. وبدلاً من الكتابة عن الرجل وعن احاسيسه قبل الاعدام يبدأ بالبحث عن حقيقة الحادث وعن احتمالية برائته يساعده في ذلك حدسه وتحليلاته معتمدا على ان الشاهدين الرئيسيين لم يشاهداه يقتل بل رأوه في مكان الجريمة. ويستمر في تجميع ادلة البراءة وسط استهجان رؤساءه الذين لايريدون تكرار خطأ ارتكبه قبل سنة عندما شنّ حملة لاثبات براءة شخص كان متهماً بالاغتصاب وكادت الحملة ان تنحج لولا ان المتهم اعترف بجريمته بعد ان هددوه بمطابقة حمضه النووي، فأدى هذا الخطأ الى فقدان ستيف لسمعته بين رفاقه اضف الى ذلك علاقات جنسية مشبوهة كان متورطاً بها، لكنه هذه المرة يحس بأن الموضوع يختلف ويأخذ على عاتقه اثبات براءة المتهم فرانك لويس "اشعيا واشنطن" من ناحية اُخرى يسلط الفيلم الضوء على حياة "فرانك" التي لم تكن بالمستقيمة فلديه سجل اِجرامي ومشاكل وصدامات مع رجال الشرطة "وضعت هذه المعلومات لتوازن بين شكوك ستيف بضلوعه بالجريمة و تشكيك المشاهد بشخصية فرانك وبأحتمالية ان يكون هو الجاني لغرض زيادة التشويق" ولكي يبقى المُشاهد حائرًا بين تصديق انه بريء وبين المعطيات التي يدسها المؤلف بين حين وآخر والتي تلمح الى تورطه في الجريمة كل هذا والوقت يمضي وساعة الاعدام تقترب "فالفيلم كان عبارة عن آخر 24 ساعة قبل الاعدام منذ بدايته حتى نهايته" مع ملاحظة ان التحقيقات في القضية اخذت وقتها الكافي ولم تكن تعسفية فالمحاكمات والاستئناف وكل هذه التفاصيل استمرت 6 سنوات من اليوم الاول للقبض عليه حتى يوم اعدامه وهي مدة طويلة وكافية استوفيت فيها كل الاجراءآت واعطي المتهم كل حقوقه للدفاع عن نفسه، في المشاهد الاولى للفيلم وضع المخرج مشهدًا اعتبره من اهم المشاهد في الفيلم لخص فيه الحبكة القصصية وذلك بتصويره فرانك "من الاعلى" وهو نائم في سريره "وكأنه في منزله" يراوده حلم عادي عن عائلته وابنته ثم يصحو لتتغير زاوية الكاميرا لتظهر قضبان السجن والسجان في عمق الشاشة لنكتشف انه في داخل زنزانة "ونعرف فيما بعد ان ساعات حياته معدودة" وهكذا نقله المُخرج من حالة الاستقرار والحياة الاعتيادية الى رجل داخل زنزانة ومحكوم عليه بالاعدام "دون ان يكون له فعل استحق عليه الموت" تماما كفعل صحوته من اِغفائته، وبعد صحوته يتفحص المكان كأنه كان في داخله يتمنى ان يكون كل هذا كابوسًا مزعجًا لايلبث ان يصحو منه "كما يراودنا هذا عندما نمرّ بمشكلة ما" وهو في هذا المشهد عبّر عّما يجول في داخله بل جعلنا نتبنى دواخله كل هذا في مشهد لم يتجاوز الدقيقة! علما ان هذا المشهد وضعه المخرج قبل ان نتعرف على "فرانك" ولم نعرف ملابسات جريمته لكنه سحبنا للتعاطف معه دون ان نشعر.
يستمر ستيف بجمع الادلة ويستمر الوقت بالذوبان كالملح هكذا "يحس المُشاهد" فالساعات تمرّ وستيف لم يحقق تقدماً سوى ان التحقيقات في الجريمة ذكرت فتى ورد اسمه في مجرياتها وتم اهماله لضعف احتمال تورطه بالجريمة فيتعلق ستيف بهذا الخيط الذي كان يبحث عنه "فقد كان يبحث عن شخص ثالث تتعلق براءة فرانك بأفادته" لكن هذا الخيط لايلبث ان ينقطع بسبب تلقي الفتى طعنة اردته قتيلا قبل ثلاث سنوات "علم بهذا من جدة الفتى بعد محاولات وجهود كبيرة للوصول الى عنوانه" فيشعر ستيف بخيبة امله بالقضية كلها ويترك التفكير بالقضية خصوصاً بعد ان علم ان فرانك كان قد طلب تعريضه لجهاز فحص الكذب وفشل في الاختبار وايضاً بعد ان اعلن القس ان فرانك اعترف بجريمته للتكفير عن ذنبه. وفي خضم حالة الاحباط التي المت به ينتبه الى ان القتيلة كانت تضع قلادة على صدرها وتلك القلادة كانت ترتديها جدة الفتى "يكتشف هذا والاعدام سيكون بعد نصف ساعة" فيسرع الى الجدة "بعد ان يستنتج ان الفتى اخذ القلادة بعد قتل الفتاة واعطاها لجدته" ويأخذها الى النائب العام ثم يظهر القس وهو يوبَخ من قبل مسؤول السجن على تصريحه الكاذب بأعترف فرانك, من جهة اُخرى تدق الساعة الثانية عشر ليلا وهو وقت التنفيذ فيبدأ السجن بتنفيذ الاعدام بالحقن المكون من ثلاث حقن وبعد الانهاء من الحقنة الاولى يأتيهم هاتف من النائب العام بايقاف التنفيذ لكن هل فات الاوان؟. هنا ستكون حالة الشد عندك في ذروتها خصوصا ان المشهد انتهى بلقطة قريبة ليد زوجة فرانك التي تصرخ بيأس، ينتهي المشهد ليظهر ستيف في مشهد خارجي لحديقة عامة وبعد نقاش له مع فتاة نعرف من خلاله انه بسبب تلك القضية هجرته زوجته واخذت معها ابنته وانه خسر عمله ايضًا "ولا يفوته التلميح لها بطلب علاقة معها" وفي عمق الشاشة نرى فرانك ومعه زوجته وابنته وهو يلقي عليه التحية نفهم عندها ان ستيف فقد كل شيء لكنه ربح حياة انسان وهذا امر يستحق العناء وتلك الخسائر.

الملون المتهم والابيض المُنقذ
وضع المؤلف الشخصيتين الرئيسيتين ستيف وفرانك في كفتين متقابلتين بتشابه وضعهما الاُسري فكلاهما له زوجة وبنت رغم ان ستيف هجرته زوجته ليأسها من اصلاح اوضاعه على كل المستويات بينما يكاد فرانك ان يغادر العائلة بسبب حكم الاعدام الصادر بحقه وايضا بالمقارنة بين البنتين ومطالبهما فأبنة ستيف تريد مشاهد فرس النهر فيأخذها الى حديقة الحيوانات لكنه وبسبب ضيق الوقت واقتراب اعدام فرانك يجعل ابنته في عربة ويمررها على الحيوانات بسرعة خاطفة. بينما يكون جلً همّ ابنة فرانك هو اكمال اللوحة التي رسمتها لابيها "الموشك على الموت" وعندما تكتشف ان اللون الاخضر مفقود تجهش بالبكاء لان اللوحة التي هي عبارة عن منظر لحديقة فيها مروج خضراء لا يمكن اكمالها بدون رسم تلك المروج باللون الاخضر فينصبّ اهتمام الجميع على القلم الاخضر ليخبر السجان فرانك بأن المشكلة حلت فقد وجدوا القلم بعد تلقيه اتصالاً هاتفياً "فرانك كان ينتظر اتصالاً بأيقاف تنفيذ الاعدام" الامر الآخر في المقارنة بينهما هو العِرق فستيف ابيض اما فرانك فزنجي وهو بهذا نكأ جرحًا عميقًا في ضمير المجتمع الامريكي وهو التمايز العنصري والعرقي وتم التطرق الى هذا الموضوع صراحة في اكثر من مشهد كأستهجان البعض من اصدقاء ستيف دفاعه عن زنجي بينما تتهم جدة الفتى ان حفيدها متهم لمجرد انه زنجي ليخبرها ستيف ان المتهم الذي سيعدم زنجي ايضا وهو يريد انقاذه لانه انسان بغض النظر عن لونه. والفيلم حاول اظهار الرفض القاطع لتلك النزعة العنصرية بهذه الانتقائية العرقية لشخصياته. كل تلك المقارنات اعطت مُسحة انسانية وبُعدًا وجدانيًا جميلاً. كما ركز الفيلم ايضا على القس المتذبذب الذي يحاول بكل الطرق دفع فرانك الى الاعتراف بالجريمة ويلفق اعترافأ كاذباً بعد ذلك لأرضاء اهل الضحية للتأكيد بأنه هو القاتل بينما يطرده فرانك داعيا قس آخر يعرفه والفيلم هنا يلمح الى انه ليس جميع رجال الدين انقياء.
الممثل والمخرج المخضرم كلينت استيوود (الذي شاهدناه في الفلم الشهير "من اجل حفنة من الدولارات" وافلام كثيره منها "الراكب الشاحب، البركة الميتة، سلطة مطلقة، جسور مقاطعة ماديسن، في خطِّ النار، المجند الجديد، قلب هنتر الأبيض الأسود, التأثير المفاجئ، بِكُلّ إتجاه لكن طليقَ، القفاز، المنفّذ، هاري القذر) وقائمة طويلة من الافلام بدأت في عام 1955 في فيلم "انتقام المخلوق" ولازالت مفتوحة الى الان) ادى دوره بتميز ولم يؤثر على ادائه مهام المخرج الملقاة على عاتقه علمًا ان له قائمة طويلة من الافلام في مجال الاخراج منها "الكآبة، النهر الباطني، فضاء رعاة البقر، منتصف الليل في حديقةِ الخير والشر، سلطة مطلقة، جسور مقاطعةِ ماديسن، المجنّد الجديد، قلب هنتر الأبيض الأسود، الطير وقصص مُدهِشة"، فيما تميز "اشعيا واشنطن" في ادائه التمثيلي غير المتكلف الى جانب زملائه "ليزا هاملتون وجيمس وودزوميشيل جيتير" وآخرين.
الفيلم ينتمي الى الافلام البوليسية والجريمة في طابعه العام، لكنه ركز بشكل كبير على التناول الانساني لمثل تلك الجرائم واعطانا فكرة ان حياة الانسان غالية جدًا لايمكن التعامل معها بتساهل في اي حال وفي اي وضع كان ومهما كانت الظروف فالجريمة الحقيقية هي ازهاق روح انسان لاذنب له وبسبب شاهدين لم يشاهدا شيئاً

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف