قراءة في الشخصية الاشكالية متعددة الدلالات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أثار فيلم "زنديق" للمخرج الفلسطيني جدلاً واسعًا لم تنتهِ تداعياته حتى بعد فوزه بجائزة المهر العربي في الدورة السادسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي لهذا العام. فالفيلم ينطوي على جدلية إشكالية تناقش ثنائية الذات والموضوع لمواطن فلسطيني يقرر العودة من بلدان الشتات الى مدينة رام الله. وحينما يقوم ابن أخيه بقتل مواطن من مدينة الناصرة يضيق به الزمان والمكان فيظل يدور طوال الليل باحثًا عن مأوى يقضي فيه ليلة واحدة فلم يجد سوى جوف سيارته التي تحتوي قلقه وضياعه وحيرته الأبدية كإنسان مرهف.
دبي: بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة الى أن فيلم "زنديق" للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي قد تنافس مع تسعة أفلام روائية طويلة وفاز بجائزة المهر
يسعى أغلب المخرجين لتحقيق رؤيتهم الإخراجية التي خططوا لها أو رسموها في أذهانهم قبل الشروع في تنفيذ هذه المشاريع، غير أن نسبة تجسيد هذه المشاريع المُتخيلة تزداد حينما يكون المخرج و كاتب القصة السينمائية أو السيناريو هو المخرج نفسه. كما هو الحال مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي الذي أنجز فيلم "زنديق" وانتزع بجدارة جائزة أفضل فيلم روائي طويل.
قد يبدو عنوان الفيلم مثيرًا وغريبًا بعض الشيء، ولابد من تسليط الضوء عليه لاستجلاء المعاني الخفية التي يقصدها المخرج وكاتب السيناريو. فما معنى "الزندقة" هنا، ولماذا وُصِف البطل الذي أُختزل اسمه الى حرف واحد وهو الـ "م". ولأننا لا نريد أن نقدم إجابة سريعة تفسد متعة القراءة النقدية لهذا الفيلم الذي توفر على معظم شروطه الإبداعية وحقق لنا، نحن المشاهدين، متعة بصرية وفكرية غاصت في تفاصيل القضية الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى الوقت الحاضر.
هاجس التوثيق
اختار المخرج المبدع ميشيل خليفي تقنية "الفيلم داخل الفيلم". إذ يضعنا في مواجهة مخرج فلسطيني يدعى "م" يقرر العودة من أوروبا الى مدينة رام اللهتحديدًا لكي يصور فيلمًا وثائقيًا عن نكبة 1948 ويوثق بواسطتها الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين. اذًا، فالتوثيق هنا يأخذ بُعدًا آخر يتجاوز حدود التسجيل العابر ليصل الى مرحلة جمع الوثائق الحقيقية التي لا يرقى اليها الشك. فالوثيقة الدامغة هي الشيء الوحيد الذي يخيف
ثمة سؤال لابد من طرحه في هذا السياق مفاده: هل أراد "م" أن يكشف عن آلام تلك النكبة فقط، النكبة التي شردّت ملايين الفلسطينيين سواء في داخل فلسطين، أم في بعض الأقطار العربية، أم في بلدان الشتات؟ أم أنه أراد أن يرصد تداعيات هذه النكبة وإنعكاساتها على الوضع الراهن الذي يمر به الفلسطينيون سواء في رام الله أو الناصرة أو عموم الأراضي الفلسطينية؟ وما دمنا نحاول تعزيز هاجس التوثيق لدى "م" أو المخرج نفسه فإن المشهد الافتتاحي سوف يساعدنا كثيرًا في حل اللعبة الاشكالية التي تقوم عليها عقدة الفيلم المركّبة التي تمزج بين ثنائية الحقيقة والحلم، أو الواقع والفانتازيا، أو الذات والموضوع. في المشهد الافتتاحي نرى "ميمًا" (محمد بكري) وهو يقود سيارته في زقاق ضيق جدًا يحيلنا على الجدار العازل حتمًا، أو على الأحياء الضيقة التي تخنق الأنفاس. وما إن يصل الى الشارع العام حتى نراه يتابع حبيبته (ميرنا عوض) التي تبدو غاضبة ومنفعلة وترفض أن تلج الى جوف السيارة، لكنه يقنعها في نهاية المطاف، الأمر الذي يكشف لنا أن علاقته مع النساء مضطربة ومتوترة وقائمة على الشكوك والتقاطعات الكثيرة التي سوف تبين لاحقًا ذهنيته وطريقة تفكيره التي استمدها من الغرب في أثناء هجرته أو غربته القسرية. غير أنها تستجيب له وتدخل الى جوف السيارة وترافقه في رحلته المحفوفة بالمفاجآت.
يصور "م" بعض اللقاءات مع أناس كبار طاعنين في السن يروون له المحن المتلاحقة التي مروا بها أو رأوها رأي العين، غير أنه يتلقى مكالمة هاتفية يخبرونه فيها أن ابن أخيه قد قتل شخصًا ما من مدينة الناصرة فتنقلب حياته الى جحيم لا يُطاق، إذ يحذره أهله وذووه من مغبة العودة الى البيت "الذي يرمز حتمًا الى البيت الفلسطيني الكبير" وهنا تتجسد دلالة معنى الـ "زنديق" الذي انتقاه المخرج عنوانًا لفيلمه الجميل. فالكل يتحاشونه وكأنه كائن منبوذ.
حبكة النص
ينعطف السياق السردي للفيلم ليأخذ أبعادًا رمزية تنأى به كثيرًا عن الواقع المعروف بتداعياته الخطرة. وعلى الرغم من أن خطر الانتقام واحد وهو الموت
لابد من الأخذفي الاعتبار العديد من الجُمل التي تفوّه بها أبطال هذا الفيلم. فالطفل الصغير، تمثيلاً لا حصرًا، يجيب على سؤال "م" بأن "أباه مسجون عند حماس" الأمر الذي يكشف عن طبيعة العلاقة بين فصائل الشعب الفلسطيني.
وعودًا على موضوع الزندقة فإن "م" الذي ظل يدور طوال الليل باحثًا عن مأوى أو ملاذ لم يجده في وطنه مردّه الى الشك به أولاً، ونبذه ثانيًا، فها هو يُعامَل معاملة الزنديق الذي ينأى عنه الجميع. فأحد معاني الزندقة كما ورد في "المنجد" هو "الكفر باطنًا مع التظاهر بالايمان". أما "الزنديق" في "لسان العرب" فيعني "الملحد والدهري" ولذلك فإن الناس يتفادون هذا "الملحد الذي لا يُراعي حرمة ولا يحفظ مودة". فلا غرابة أن نراه نائمًا في مساحة ضيقة من جوف سيارته.
علامات دالة
يكتظ فيلم "زنديق" لميشيل خليفي بالعديد من الاشارات والعلامات الدالة التي تسلّط الضوء على شخصية "م" الاشكالية. ففي البدء نراه "زير نساء" مرتبطا بأكثر من امرأة في آنٍ واحد. وهذا يعني أن الثقافة الغربية التي تربى عليها تتيح له أن يلبي رغباته الجنسية، ويحققها من خلال التواصل مع أي امرأة حتى وإن كانت إسرائيلية. وكنا نشاهده وهو يقبل بحرارة كبيرة فتاة إسرائيلية كانت تقول له إنها "تقبّل للمرة الأولى شخصًا فلسطينيًا". غير أن ردود الفعل كانت قوية من قبل حبيبته التي صفعته أول الأمر، ثم أجبرته من خلال موقفها القوي أن يتراجع لكي يضعها هي وحدها نصب عينيه. وربما يكون المشهد النهائي للفيلم هو أكثر المشاهد تعبيرًا عن قوة الشخصية النسوية التي إستدرجته في نهاية المطاف الى فضائها الأنثوي الرحب وهي ترتدي حلّة زفافها البيضاء.
نخلص الى القول إن "م" يمكن أن يكون الحرف المُختصَر لأي "مواطن فلسطيني"، كما يمكن أن يكون دلالة لأي شخص "مُُحتَل أو مُضطهَد" في العالم، على الرغم من أنني أرجح أن يكون هذا الـ "م" هو الوجه الآخر للمخرج الذي أطلّ علينا بصورة الزنديق الذي يتفاداه الآخرون وينفرون من حضوره الثقيل.
لابد من الاشادة بأداء الفنان محمد بكري الذي جسد دور هذه الشخصية الاشكالية ومنحها الكثير من القوة والمصداقية وأتاح للمشاهدين فرصة متابعة عمل سينمائي فلسطيني سلس مبني بناءً دراميًا قويًا يفحص ثنائية الذات والموضوع في آن معًا، ولا يتيح للضجر أن يتسرّب الى بصر المتلقي وبصيرته لأن الأحداث والمشاهد المتتابعة مليئة بعناصر الشدّ والتشويق والترقّب.
التعليقات
congratulations
nadia -Palestinians movies are the best in the Arab world and can be compared to the best world films. Congratulations.
500و12
حمد -ههههههههههههههههه والله حلوه تسسسسسسسسلمو
congratulations
nadia -Palestinians movies are the best in the Arab world and can be compared to the best world films. Congratulations.