السينما

فيلم حدود السيطرة لجيم جارموش

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

القاهرة: ولد المخرج الأمريكي "جيم جارموش" في الثاني والعشرين من يناير عام 1953 بأوهايو، ودرس الأدب الأمريكي والإنجليزي في بداية حياته بجامعة كولومبيا، وقبل تخرجه بعام، سافر إلى فرنسا لدراسة الأدب الفرنسي، وهناك تردد بكثرة على "السينماتيك" الفرنسي وشاهد تراث السينما، وعند عودته إلى أمريكا قرر دراسة السينما في نيويورك. وقد أخرج "جارموش" الأفلام التالية: "إجازة دائمة"، "أغرب من الفردوس"، "مدان بحكم القانون"، "القطار الغامض"، "ليلة على الأرض"، "قهوة وسجائر"، "رجل ميت"، "الكلب الشبح: طريقة الساموراي"، "زهور ذابلة"، "حدود السيطرة"، إلى جانب العديد من المقاطع القصيرة في أفلام مشتركة مع مخرجين مختلفين. وقد عرض فيلمه الأخير "حدود السيطرة" (2009) في العديد من المهرجانات الدولية كان آخرها "مهرجان لندن السينمائي الدولي" في أكتوبر الفائت.
في أحد حوارات الصحفية قال المخرج القدير والمتميز "ثيو أنجلوبولس": "يتراءى لي فعلا أن المرء ينفذ نفس الفيلم دائمًا، مرارًا وتكرارًا. شاهدت مؤخرًا عددًا من أفلام "برجمان" مرة ثانية، وهذا ينطبق عليه أيضًا". ومن وجهة نظري، ينطبق هذا أيضًا على عدد غير قليل من المخرجين السينمائيين ومن بينهم المخرج "جيم جارموش"، وقد برز هذا على نحو خاص في فيلمه الأخير "حدود السيطرة".
يعود جارموش في فيلمه الجديد هذا إلى الاعتماد على العديد من الثوابت التي ارتكز عليها في أكثر من فيلم من أفلامه وبالتحديد منذ فيلمه "أغرب من الفردوس" (1984)، ويأتي على رأسها انتماء فيلمه الجديد إلى نوعية أفلام الطريق حيث صنع جارموش من قبل عدة أفلام تندرج بجدارة تحت هذا النوع من السينما، وإن كان بتنويعات طفيفة في بعض الأحيان كأن يلجأ على سبيل المثال إلى الويسترن في فيلمه "رجل ميت" (1995) أو إلى نوعية أفلام الإثارة والجريمة كما في فيلمه "الكلب الشبح" (1999) وفيلمه الجديد "حدود السيطرة". من بين مرتكزات جارموش المعتادة أو الثابتة أيضًا، تعامله الثابت مع ممثلين بعينهم، مثل "إسحاق دي بانكولي" بطل فيلم "حدود السيطرة" الذي ظهر من قبل في أكثر من فيلم لجارموش حيث قام بأدوار متنوعة ومتفاوتة من حيث المساحة. كذلك، نجاح جارموش في تجريد الفيلم وقصته من كل ما هو زائد عن الحد، فالدراما عنده دائمًا في أقصى حالاتها تقشفًا، والإيقاع دائمًا هو ذاته تقريبًا حتى عند تصديه لإخراج أفلام الإثارة التي لا يستقيم معها مثل هذا الإيقاع البطيء البارد. أيضًا، تفضيل جارموش الدائم في معظم لقطاته، ومن ثم أفلامه، لتجريد الكادر السينمائي من كل ما يحول دون تركيز المتفرج على الشخصية أو الحدث الذي يحتوي عليه الكادر، فكل ما هو ثانوي بمعنى الكلمة لا وجود له في كادرات جارموش ومنها على سبيل المثال، خلو الشوارع أو القطارات أو المقاهي أو غيرها من أماكن تتواجد فيها الشخصيات من أدنى أثر للحياة، فلا وجود بالمرة لمشاة يقطعون هذه الشوارع المقفرة تمامًا أو لا نجد أي أثر لمسافرين في القطارت أو للجالسين في المقاهي إلا فيما ندر، هذا إلى جانب الانتفاء التام لضوضاء الحياة وصخبها في مثل هذه الأماكن، وقد يكون في هذا بالطبع بعض الرتابة والملل خاصة إذا أضفنا إلى كل هذا الموضوعات والشخصيات التي يتناولها جارموش في أفلامه، لكن هذا نادرًا ما يتسبب في لفت انتباه المتفرج أو إثارة تساؤله أو إنزعاجه. فمخرج متميز كجارموش يهتم في أفلامه بكل ما هو هامشي في الحياة، ويهتم ضمن هذا الهامش بالهامش الضيق الذي تعيش فيه شخصياته التي ليس لها هدف واضح في الحياة وتبدو فاقدة لأدنى قدر من الطموح أيضًا، يعمد إلى التركيز والإمعان في تلك الأسلبة حتى لا يجعل تلك الشخصيات تعيش في إطارات أو كادرات تجردها أو تفقدها هذه الخاصية. أيضًا، وهي من ضمن الممارسات المحببة لجارموش والتي يواظب عليها دائمًا، اعتماده في معظم أفلامه على شخصيات أجنبية تتحدث بلغات عديدة، كالفنلندية أو الألمانية أو الإيطالية على لسان الممثل "روبيرتو بينيني" أو الفرنسية على لسان "إسحاق دي بانكولي" أو اليابانية على لسان "يوكي كودوه" ومؤخرًا العربية - ليس العبرية كما ورد في أكثر من مراجعة أجنبية للفيلم وأيضًا في الموقع العالمي لقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت، دون أدنى تمييز بين العربية والعبرية - على لسان "هيام عباس" في فيلمه الأخير هذا، حيث نطقت بعربية واضحة وسليمة نفس الجملة التي تكررت كثيرًا طوال الفيلم بلغات عديدة وأحيانًا مغناه بالإسبانية: "يجب على هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أعظم من الغير أن يقطنون المقابر، هناك سوف يفهمون معنى الحياة".
وعليه نجد أننا في هذا الفيلم، "حدود السيطرة" نسير مع جارموش على نفس الدرب، كما في أفلامه السابقة، باستناء أن بطل فيلم "حدود السيطرة" يعرفجيدًا منذ البداية ما هو مقدم عليه ويسعى لتنفيذه، بالإضافة إلى أن الفيلم برمته يُسرد من منظور أو من وجهة نظر البطل ويحاول المتفرج، حتى قرب انتهاء الفيلم، التكهن بما يسعى البطل لتنفيذه طيلة رحلته.
الحقيقة أن جارموش قد اجتهد في فيلمه الجديد في أن يحافظ على السمات الأسلوبية التي ميزت مشواره السينمائي ووسمت العديد من أفلامه بسماتها الخاصة، فنجده، على سبيل المثال، يحرص على تصديره الفيلم باقتباس لأبيات شعرية من رامبو، "وأنا أخوض في أنهار لا يمكن عبورها / لم أعد أشعر بأن أصحاب القوارب يرشدونني"، تتفتح بعدها أحداث الفيلم. ثم، بعد الافتتاحية التمهيدية المعتادة في أفلامه، القصيرة في الغالب، ومقابلة البطل لشخصين يعطيانه تعليمات غامضة عن خطته، نجده يركز من فوره على بطله (وهو بلا اسم في الفيلم) الذي سيشرع منذ تلك اللحظة في رحلة ستستمر طيلة الفيلم وحتى النهاية، التي هي دائمًا عند جارموش مبهمة ومفتوحة على جميع الاحتمالات، إلى أن نجد البطل في نهاية الفيلم يقوم باستبدال ملابس العمل وارتداء ملابسه العادية، ووضع ملابس العمل في خزانة بالمطار وألقاء علبة الثقاب التي صاحبته على مدى الفيلم في صندوق القمامة لينطلق بعد ذلك إلى خارج المطار.
أراد جارموش في فيلم "الكلب الشبح: طريقة الساموراي"، وهو من وجهة نظري أضعف أفلامه، أراد أن يخلق شخصية يتميز أسلوبها أو حياتها بصفة عامة ووظيفتها بالعنف، وفي نفس الوقت، تبدو الشخصية مقبولة وذات أبعاد عميقة، وتتسم بنوع من القانون المفروض ذاتيًا الذي تتبعه بصرامة دون أن تحيد عنه أبدًا. وقد حاول جارموش سلوك نفس المنحى في هذا الفيلم، لكن مع حشر الكثير من الجمل والاقتباسات التأملية والفلسفية فيه بغية تعقيد الفيلم وإكسابه بعض الثقل الميتافيزيقي أو الوجودي وإضفاء البعد التأملي الصرف عليه، وربما فعل هذا أيضًا لإبعاد أدنى شبهة قد تلتصق بالفيلم جراء اندراجه تحت نوعية أفلام الإثارة والجريمة والعنف، فلا ينصرف الجمهور عن التفكير في ماهية المهمة التي يضطلع بها بطل الفيلم، جريمة القتل، ويمعن أكثر في محاولة البحث عن تفسير أعمق لكُنه أو ماهية هذه الرحلة ومجازية تلك الجريمة التي نفذت في خاتمتها، وهو ما حاوله أيضًا في فيلم "الكلب الشبح" عن طريق إضفاء مسحة من فلسفة شرق آسيا "الزن". وفي ظني أن هذا من ضمن الأسباب الجوهرية التي جلعت جارموش ينأى، عندما يصل البطل إلى الحصن الحصين الذي يحرسه أفراد من القوات الخاصة المزودين بأحدث الأسلحة والأجهزة وغيرها، عن التطرق لتوضيح الطريقة التي دخل بها البطل أو بالأحرى اقتحم هذا الحصن وكيفية تغلبه على كل هؤلاء الرجال بأسلحتهم الحديثة والخروج منه في النهاية بعد تنفيذه لمهمته، المتمثلة في قتل أحد الساسة بوتر جيتار قديم يرجع إلى بدايات القرن العشرين.
وهذا قد يحسب لجارموش بالطبع، أقصد عدم ارتكانه إلى الكلاشيهات المعتادة في مثل هذه المواجهات والتي أحيانًا ما تقوم على أحداثها سلسلة كاملة من الأفلام، وأنه بتخطيه لمثل هذا الكلاشيه المعتاد في السينما التجارية نجح في أن يترك لجمهوره الحرية الكاملة في التفسير، لأن ثمة تلميحات كثيرة في الفيلم عن مدى دقة وتنظيم وتحكم البطل/القاتل المحترف، وعليه فهناك إمكانية لتخيل حدوث مواجهة مباشرة، وثمة تلميحات أيضًا إلى تحقق الأمر بطريقة ما خارقة، لأننا سبق لنا مشاهدة البطل يمارس التأمل ويواظب على ممارسة تمارين "التاي - شي" طيلة الفيلم منذ تواجده بحمّام المطار في لقطة الفيلم الافتتاحية، وبالتالي فثمة إحتمالية كبيرة لتفسير أو تأويل الرحلة والمهمة والفيلم برمته على نحو متافيزيقي يتجاوز مجرد التفكير في كيفية حدوث الاقتحام من أجل تنفيذ جريمة القتل، والتركيز أكثر على رسالة الفيلم المتمثلة في الانتقاص من أو تقويض فكرة السيطرة والسخرية من حدودها. ومن وجهة نظري المتواضعة كان بإمكان جارموش تحقيق مثل هذا العمق أو إكساب فيلمه الكثير من العمق الفني والابتعاد به تمامًا عن شبهة الإسقاط السياسي أو الاجتماعي أو حتى التأويل الكوني للفكرة وذلك بتخلصه التام من مشهد خنق "بيل موراي" بوتر الجيتار، والإبقاء على مشاهد تأمل المجرم للحصن من الخارج وتفحصه عن كثب، وذلك لكي يبقي على كنه المهمة ذاتها خفية أو غير معرفة أو معلنة لنا، أي على وجه التحديد، إسقاطه للتسلسل الخاص باللقاء بين "إسحاق دي بانكولي" و"بيل موراي" والحوار الذي دار بينهما قبل قيام "إسحاق" بقتله، والقطع مباشرة إلى تسلسل العودة ثم تواجد القاتل بالمطار وإلقاء علبة الثقاب في صندوق المهملات، وبذا يمكن التفكير في الرحلة أو المهمة بأكلمها أو تأملها كحلقة ضمن سلسلة لا تنتهي من حلقات المهام الغامضة، وأن ثمة آخر (وليس قاتلا في هذه الحالة) سيلتقط علبة الثقاب هذه، وسيرتدي هذه الملابس فيما بعد من أجل مهمة أخرى، ومن ثم، يحافظ أيضًا على البنية الدائرية أو المتكررة التي تبناها في صياغته لحوارات الفيلم.
عندما سئل المبدع والرائد الأرجنتيني الكبير "خورخي لويس بورخيس" عن سبب كتابته للقصة القصيرة دون غيرها، وعدم إقدامه على ممارسة الكتابة الروائية، كانت من ضمن إجاباته أنه لا يعرف كيفية كتابة الرواية وأنه يبرع ويشعر بنفسه أكثر في كتابة القصة القصيرة دون الرواية. بمعنى أن "بورخيس" كان على دراية تامة بحدوده، ولم يتخطاها. وأعتقد أن هذا الإدراك لحدود سيطرة المرء هو ما يفتقر إليه جارموش. فمن بين ما أبرزه هذا الفيلم على نحو جلي أن القوة السردية التي تتسم بها أفلام جارموش كلها تكمن، في اعتقادي، في براعته البالغة في إخراج أفلام قوامها الأساسي مجموعة من القصص أو الحكايات أو الحوارات القصيرة المتصلة المنفصلة، فلو تتبعنا مسيرته المهنية نجد أنه باستثناء "أغرب من الفردوس" و"مدان بحكم القانون" (1986) و"رجل ميت"، لم يفلح جارموش في سرد قصة فيلم روائي طويل تتسم بالعمق والإقناع والفنية أيضًا، وأن أبرز أفلامه الحديثة تميزًا مثل "قهوة وسجائر" (2003) أو حتى "ليلة على الأرض" (1992) تقوم بالأساس على مجموعة من القصص القصيرة المترابطة أو المنفصلة المتصلة. ويتضح لنا أنه عندما يتصدى لسرد أحداث فيلم روائي طويل يخونه التوفيق إلى حد كبير، على الأقل حتى هذا الحين، والدليل على هذا أن "زهور ذابلة" (2005) و"الكلب الشبح" و"حدود السيطرة" ليست أفضل أفلام جارموش، على الرغم من أنه بذل فيها الكثير بالفعل من أجل إحكام السيطرة على مادته الفيلميه وجودتها الفنية.
وفي ظني أن هذا يرجع بالأساس، كما أوضحت من قبل، إلى عدم إدراك جارموش لحدود جمالياته الفنية الإخراجية، أقصد نقاط القوة والضعف عنده، وكيف أنه عندما يترك نفسه على سجيتها دون التقيد بحدود أو جماليات أو فلسفات بعينها يود طرحها يكون دائمًا في أفضل حالاته كمخرج، وتأتي أفلامه على قدر كبير من العمق والجمال والفلسفة أيضًا. وأنه عندما يعمد إلى خلق كل هذا عنوة، يفشل فشلا ذريعًا. والدليل على هذا أنه عندما حاول بكل جهده أن يأتي فيلم "حدود السيطرة" على قدر من العمق جعل الشخصيات العارضة في رحلة القاتل تتحدث بنبرة ثقافية متبحرة بعض الشيء عن العلم والموسيقا والسينما أو تطلق بعض الجمل التأملية التي خرجت ضعيفة كالكلاشيهات، ومنها على سبيل المثال: "الحياة لا قيمة لها"، "ليس للكون مركز ولا حدود"، "لا شيء حقيقي" "كل شيء من صنع الخيال" "يقول الصوفيون.. كل واحد منا عبارة عن كوكب"، إلخ. ونفس الشيء ينطبق على محاولته إيهامنا بأن شخصيات الفيلم مستمدة أو مستوحاة من أعمال فنية، أو باقتراف الجريمة بواسطة أداة فنية هي وتر جيتار، أو عن طريق التردد المتكرر لبطله على متحف الفن الحديث في مدريد بإسبانيا، وأيضًا محاولته الربط بين اللوحات الفنية التي يشاهدها في المتحف (على سبيل المثال، لوحة "الكمان" لـ "خوان جريس") وبين الخطوات التالية التي يقدم عليها في مهمته، قبل أو بعد مقابلته وتبادله لعلب الثقاب المتماثلة مع الشخصيات العارضة في الفيلم وسماعه لما تسترسل فيه، ثم سحبه للورقة الصغيرة المشفرة من داخل العلبة وقراءة رموزها ثم ابتلاع الورقة بعد ذلك.
ليس هناك أدنى شك في قيمة "جيم جارموش" كمخرج فني متفرد، ولا في إعجابي به وبأعماله التي يقدمها، ولا في تقدير البالغ لتجربته ومشواره الفني، واحترامي فيه احتقاره للسينما الأمريكية التجارية وكل سينما تجارية غير فنية، وميله إلى السينما الأوروبية أو أنه من المنتمين لتيار المستقل في السينما الأمريكية. لكن جارموش في النهاية يجبرني على طرح السؤال التالي: هل هذا الفيلم يستحق المشاهدة بالفعل؟ والإجابة نعم بالطبع، بل ويجب مشاهدته، لكن، برغم هذا، هل هو من ضمن أفلامه التي أحب معاودة مشاهدتها أو الرجوع إليها مرارًا وتكرارًا؟ في تصوري، لا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف