السينما

حوار مع المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أجرى الحوار: إليج ونيوجر

القاهرة: هذه المقابلة سُجلت صوتيًا في استوكهولم في مارس 1985، باللغة البولندية. قام بترجمتها من البولندية إلى الإنجليزية "جان بيلويسكي". إليكم المقدمة التي كتبها "إليج ونيوجر" اللذان عقدا المقابلة مع تاركوفسكي، وقاما بكتابتها عام 1987.
جرت المحادثة المقدمة هنا في استوكهولم، في مارس 1985. في الوقت الذي كان فيه تاركوفسكي يعمل في - إنهاء - فيلمه الأخير، المُعنون بـ "القربان" وهو رسالة ميتافيزيقية عميقة، ذات أهمية بالغة تمامًا كما في فيلمه الأسبق.
كان محجوبًا عن الصحفيين والفضوليين بمجموعة كبيرة من المعاونين والشركاء، وبصفة خاصة تمت مقابلتنا مع تاركوفسكي بعدما عرف أنه سيقابل بولنديين، البلد القريب إلى قلبه، والذي حقق إنجازات وتحولات أوائل الثمانينات، كان تاركوفسكي قد رحّب بها - كما اعترف - بفرحة غامرة، وقلق، وأمل. وهكذا أصبحت هذه من أروع المقابلات فوق العادة التي مُنِحت للصحافة من قبل مبدع عظيم مثله. وبعد أن كانت المدة المتفق عليها للمحادثة ساعة واحدة استغرقت أربع ساعات خلالها كان انتقالنا من مبنى التليفزيون باستوكهولم إلى منزل تاركوفسكي.
كان مٌحبطًا، فعلاقته مع الناس في الغرب تعرضت لكثير من سوء الفهم، بيد أنه كانت السعادة بادية عليه لأنه يتكلم مع أشخاص من "هناك" . تم تسجيل أكثر من ساعتين على شريط الكاسيت ثم تفريغهما كتابة كما سيلي في واحد من آخر الحوارات الطويلة التي أُجريت مع تاركوفسكي بعد أن حدث وانتشرت أخبار المرض الذي كان قد تمكّن منه في جميع أنحاء العالم.
وتم نشر وإعادة نشر هذه المحادثة كما ترجمت إلى العديد من اللغات كالألمانية والسويدية والنرويجية والروسية والفرنسية والإيطالية.

- قدمت لنا في "المرآة" سيرتك الذاتية. ما نوع المرآة التي استخدمتها؟ هل هي مرآة "ستندال"، التي ترحل عبر الدروب، أم أنها المرآة التي وجدتنفسك فيها، تعلمت شيئًا عن نفسك لم تكن تعرفه من قبل؟ بعبارة أخرى: هل هذا العمل واقعي أم أنه من وحي إبداعك الذاتي؟ أو ربما يكون فيلمك محاولة تجميع قطع المرآة المهشمة وتأطيرها مُستخدمًا الصورة السينمائية لتأليف وحدة كاملة منها؟
تاركوفسكي: السينما بصفة عامة هي دائمًا خلق إمكانية لوضع قطع متجاورة داخل وحدة واحدة. برغم كل شيء فإن الفيلم يتكون من مجموعة من المشاهد المنفصلة التي تشبه الفسيفساء - قطع مختلفة في اللون والنسيج. وكل قطعة وحدها أو مستقلة بذاتها قد تبدو وهي منعزلة بلا مغزى. لكنها ضمن الكل ستصبح عنصرًا ضروريًا تمامًا، إن معناها أو تواجدها هو فقط بتواجدها داخل حدود أو إطار هذا الكل، لذلك تبدو السينما بالنسبة لي مهمة بمعنى أن كل جزئية صغيرة في الفيلم لا يجوز النظر إليها منعزلة، ولا يمكن أن تكون أية قطعة في الفيلم محلاً للتأمل والتفكير فيها بالعينين معًا، إذ لابد من توجيه إحدى العينين بعيدًا، وعين في الآن نفسه تنظر إلى النتيجة النهائية. وكل قطعة على حدة تحمل لونها باعتباره مساهمة ضمن اللون النهائي للعمل ككل. لذا، فإن كل قطعة لا تؤدي دورًا رمزيًا مستقلاً ذا دلالة مستقلة بذاتها ولكنها تتواجد فقط كجزء من عالم معين له أصالته وله تفرده وخصوصيته التي تخالف تمامًا مدلول أي قطعة منعزلة في حد ذاتها.

لذلك فإن فيلم المرآة قريب بمعنى معين أو من زاوية بذاتها من مفهومي النظري عن السينما. ولعلك تتساءل: أي نوع من المرايا هذه؟

- حسنًا، قبل كل شيء هذا الفيلم اعتمد في بنائه على سيناريو حياتي الشخصية وليست به أية أحداث مُختلقة. الأحداث كلها كانت جزءًا حقيقيًا من تاريخعائلتي. كلها، دون استثناء. والحدث الوحيد الذي تم اختلاقه هو مرض الراوي، المؤلف (الذي لم نره على الشاشة). بالمناسبة، كان هذا الحدث شيقًا جدًا وضروريًا لكي ينقل الأزمة الروحية للمؤلف، الحالة التي كانت عليها روحه. ربما كان مريضًا بشكل مميت وربما هذا هو سبب استدعاء الذكريات، التي حيك منها الفيلم - ببساطة كأي رجل يتذكر أهم لحظات حياته وهو يحتضر.
لذا فإن هذه ليست قسوة سهلة يمارسها المؤلف على ذاكرته - أتذكر فقط ما أريده - لا، فهذه الذكريات خاصة برجل يحتضر، الأحداث التي يستدعيها لها قدرها ووزنها في ضميره ووعيه. هكذا فإن الحدث الوحيد المخترع أصبح ضرورة، مطلبًا أساسيًا يخدم بقية الأحداث وكلها حقيقية تمامًا. أنت تسأل إن كان هذا النوع من الإبداع، حين يخلق الفرد عالمه الشخصي، هل هذا الإبداع هو الحقيقة: حسنًا، إنها الحقيقة بالطبع لكن بعد أن انكسرت أشعتها في منشور خلال ذاكرتي. لنأخذ على سبيل المثال بيت طفولتي الذي صوّرناه، الذي رأيته في الفيلم. هذا البيت كان موقع تصوير على الطبيعة، أُعيد بناؤه بالتحديد في نفس البقعة حيث كان موجودًا من قبل، منذ سنوات عديدة، قبل التصوير.
ما كان موجودًا هناك كان... ليس حتى الأساس، فقط الحفرة التي كانت تحتويه يومًا ما. وبالتحديد في هذه البقعة أُعيد بناء البيت، شُيّد من جديد عن طريق الصور الفوتوغرافية، بمنتهى الدقة.
كان هذا مهمًا جدًا بالنسبة لي - ليس لأنني أردت أن أكون واقعيًا أو طبيعيًا نوعًا ما، ولكن لأن موقفي الشخصي كله نحو مضمون هذا الفيلم بُني على هذا البيت؛ وكانت ستصبح دراما شخصية بالنسبة لي لو بدا البيت مختلفًا. بالطبع نمت كثير من الأشجار في هذا المكان، كل شيء نما بشكل مُفرط، كان علينا أن نقطع الكثير من الأشجار. لكنني عندما أحضرت أمي إلى هناك، وهي قد ظهرت في أحداث عديدة، أثار المشهد مشاعرها إلى حد كبير، ولحظتها أدركت أنني خلقت الانطباع الحقيقي.
سيُفكّر أحدهم: لماذا كان إتقان إعادة بناء الماضي عملية ضرورية إلى هذا الحد؟ بل ليس مجرد الماضي لكن أيضًا ما قمت بتذكّره وكيفية تذكّره. لم أحاول البحث عن إطار محدد لما كان داخل نفسي وللذكريات الشخصية، بل إذا جاز التعبير؛ على العكس - لقد جاهدت لإعادة تقديم كل شيء بالطريقة التي كان عليها، كررت حرفيًا ما تركّز بشكل ثابت في ذاكرتي. والنتيجة صارت غريبة جدًا... كانت تجربة فريدة ورائعة بالنسبة لي. صنعت الفيلم من دون حدث واحد اصطناعي أو مُختلق، من أجل إثارة الجمهور، وجذب انتباهه، أو شرح أي شيء كان له - كانت هذه الذكريات الحقيقية المستعادة خاصة بعائلتنا، سيرتي الذاتية، حياتي. وبرغم الحقيقة وأن المسألة شخصية - أو ربما بسببها - فقد كانت فعلاً قصة حقيقية خاصة جدًا، تلقيت عديدًا من الخطابات فيما بعد من المشاهدين الذين سألني كل واحد منهم السؤال البلاغي: "كيف استطعت أن تكتشف حياتي أنا؟" وهذا مهم جدًا، مهم جدًا بالمعنى الروحاني الداخلي بالذات. ماذا يعني هذا؟ لقد ذكرته كحقيقة أخلاقية مهمة جدًا وذات معنى روحاني،لأنه إذا عبّر شخص ما عن مشاعره الصادقة في شكل عمل فني، فإن هذه المشاعر لن تستمر كأسرار محجوبة عن الآخرين. وإذا كان المخرج أو المؤلف كاذبًا، ويعمل الأشياء باصطناع ، فسيصبح عمله بكل ما في الكلمة من معنى.

- "مُتكلّف".
تاركوفسكي: نعم. في إيطاليا يقولون "سيرفيلوتيكو"، "تروبو سيرفيلوتيكو"، أي "مصطنع"، "شديد الاصطناع". مثل هذا العمل لا يؤثر في أي شخص. لذا فإن الفهم المتبادل بين المؤلف والجمهور، والذي لا يمكن أن يوجد بدونه العمل الفني، سيكون ممكنًا فقط عندما يكون المبدع صادقًا.
ذلك لا يعني تلقائيًا أن أمانة المؤلف تجعل العمل بارزًا، حيث تظل القدرة والموهبة هما الشرطين الأساسيين، وبدون المصداقية الفنية، رغم وجود القدرة والموهبة، يستحيل تحقق صدق العمل الفني وإبداعه الحقيقي.
أعتقد أن الشخص إذا قال الحقيقة، شيئًا من الحقيقة الداخلية، فإنه سيكون مفهومًا على الدوام. هل تفهم ما أقوله؟ - حتى حينما تكون المشاكل الأساسية غاية في التعقيد، وتتابع الصور، والبنية الأساسية للعمل أكثر تعقيدًا - بالنسبة للمبدع فإن المشكلة الأساسية ستكون دائمًا هي الصدق. وبالنسبة لبنية وهيكل الفيلم، أرى "المرآة" بالنسبة لي وعمومًا أكثر أفلامي تعقيدًا - كبناء، ليس باعتباره اجتماع قطع مُنفصلة، لكن بالتحديد كبناء، إنه تركيب معقد غير عادي كتأليف، كالتفاف.

- تمامًا كبنية الأحلام أو الذكريات. وبصرف النظر عن كل شيء فهو ليس مجرد اجترار منتظم لذكريات أو لقطات من الماضي.
تاركوفسكي:
صحيح. هذا ليس تذكّرًا عاديًا. هناك تعقيدات كثيرة حتى أنني لا أستطيع في ضوئها أن أفهم نفسي كلية. على سبيل المثال، كان مهمًا جدًا بالنسبة لي وجود أمي في بعض المشاهد. هناك حدث واحد في الفيلم فيه الولد، "إيجنات"، يجلس... ليس "إيجنات"... ماذا كان اسمه؟ - ابن المؤلف، جلس في حجرة أبيه الخالية، في الحاضر، في زماننا. هذا هو ابن الراوي بالرغم من أن الولد لعب دورين ابن المؤلف والمؤلف نفسه عندما كان صبيًا. وبينما كان جالسًا هناك سمعنا جرس الباب، فتح الباب ودخلت امرأة وقالت: "آه، أعتقد أنني أخطأت المكان" - كانت بالباب الخطأ. هذه هي أمي. وهي جدة الولد الذي فتح لها الباب.

لكن لماذا لم تتعرف عليه، لماذا لم يتعرف الحفيد عليها؟

تاركوفسكي: بصفة عامة لا أحد يعرف. ذلك - أولاً، الحبكة لم توضح هذا، في السيناريو وثانيًا - حتى بالنسبة لي كان هذا غير واضح.

- ليس كل شيء في الحياة مفهومًا وواضحًا...
تاركوفسكي: لا، بالنسبة لي هو - كيف أستطيع أن أُصنّفه - إنه يندرج تحت ترابط العواطف المتنوعة.
كان مهمًا لي إلى أقصى حد رؤية وجه أمي، فالقصة في نهاية المطاف هي قصتها، دخولها المدخل في قلق، نوع من الارتباك، قليلاً على طريقة ديستويفسكي، من "آل مارميلادوف". قالت لحفيدها آنذاك: "أعتقد أنني أخطأت المكان". هل تتخيل هذا الموقف النفسي؟ كان مهمًا جدًا بالنسبة لي رؤية أمي في هذه الحالة، رؤية وجهها عندما تكون مضطربة، عندما تشعر بالرهبة، بالخجل.
لكنني فهمت متأخرًا جدًا أن تجميع عدة حبكات فرعية محددة، لكتابة سيناريو، مثل هذه الطريقة لإيضاح لماذا لم تتعرف عليه - سواء كان هذا بسبب ضعف بصرها أو غيره... كان سيصبح سببًا سهلاً جدًا في تفسير ما حدث، لكنني قلت لنفسي ببساطة: أنا لن أخترع أي شيء. دعها تفتح الباب، تدخل لا تتعرف على ابنها (كما يقول الراوي) والولد لا يتعرف عليها بدوره وفي هذه الحالة سترحل وتغلق الباب. إنها حالة روح إنسانية شديدة القرب مني، حالة من حالات الكآبة، حصار روحي - كان مهمًا بالنسبة لي رؤية هذا. إنه بورتريه لإنسان في حالة ذُل بَيّن، شعور بيّن بالانسحاق.
وعندما نضع هذا جنبًا إلى جنب مع مشاهد من شبابها، فإن هذا التسلسل يذكّرني على الفور بحدث آخر: عندما جاءت وهي امرأة شابة إلى الدكتور لبيع أقراطها. تقف تحت المطر، تشرح شيئًا ما، تتحدث عن شيء ما، لماذا تحت المطر؟ ولِمَ؟ ربما سيكون الأمر أفضل كثيرًا إذا لم يكن هناك ألغاز من هذا النوع. لكن هناك أحداثًا عديدة مثل هذا بالضبط، بلا تفسير، مبهمة، ليس لدينا أي فكرة بالمرة عما وراءها. على سبيل المثال، سيقول الناس: "ومن هذه المرأة العجوز التي تجلس هناك تسأله أن يقرأ لها خطاب بوشكين إلى شادييف؟ أي امرأة هذه؟ أخماتوفا؟" - كل شخص سيقول هذا. هي في الحقيقة بدت ضئيلة مثلها، لديها نفس البروفيل وهي قادرة على أن تذكّر بها. المرأة لعبت دورها "تامارا أوجورودنيكوفا"، مديرة إنتاجنا، في الحقيقة كانت بالفعل مديرة إنتاجنا في "روبلوف"، إنها صديقتنا الحميمة التي قمت بتصويرها تقريبًا في معظم أفلامي. إنها كانت لي كتعويذة. لم أفكر أنها أخماتوفا. كانت بالنسبة لي شخص من "هناك" يمثل عادات وتقاليد ثقافية معينة مستمرة لا تموت، تحاول دائمًا بكل ما في وسعها أن تربط هذا الولد بهم، وتربطهم بشخص صغير السن، بالشخص الذي يعيش في هذا اليوم وهذا العصر. هذا مهم جدًا، باختصار - إنه ميل أكيد، جذور ثقافية محددة. هنا في هذا البيت، ثمة رجل يعيش فيه، المؤلف، وها هو ابنه الذي يتأثر بهذا المناخ، بتلك الجذور. برغم كل هذا لا نعرف بالتحديد من تكون هذه المرأة. لماذا "أخماتوفا"؟ - تحمل قليلاً من الطموح. ليست هذه أية "أخماتوفا". ببساطة اعتبر هذه المرأة بالضبط هي التي تصلح ما تمزق في مجرى الزمن - تمامًا كما عند شكسبير، في هاملت. إنها تقوم بترميمه بالمعنى الروحي والثقافي. إنها الرابطة بين الزمن الحاضر والماضي من الأوقات، أوقات "بوشكين" أو ربما زمن لاحق - لا يهم.
اكسبني هذا الفيلم خبرة عظيمة جدًا، وفي منتهى الأهمية، فقد أصبح مهمًا للجمهور تمامًا كما أصبح بالنسبة لي. ولم يكن مهمًا أن تكون القصة خاصة فقط بعائلتنا ولا شيء آخر، المهم أنه بفضل هذه الخبرة تمكنت أن أرى وأفهم أشياء كثيرة. هذا الفيلم أثبت أن هناك رابطة بيني كمخرج، وكفنان إذا أردت، وبين الناس الذين عملت من أجلهم. لهذا كله صار هذا الفيلم مهمًا جدًا بالنسبة لي لأنني منذ فهمت ذلك، لم يستطيع أحد أن يشكو من أنني لا أصنع أفلام للناس. بالرغم من أن الكل اشتكوا من ذلك فيما بعد، على أية حال. لكنني لا أستطيع أن أوجه هذه الشكوى إلى نفسي بعد الآن.

- حياتك وكذلك حياة أسرتك لم يتشكّلا وفقًا للنموذج الأساسي للواقعية. فلم تكن ثمة نموذجية - بالرغم من أن المشاهدين وجدوا في الفيلم، كما ذكرت، صور حياتهم الشخصية متجسدة فيه. ماذا قدم لك والداك وبيتهما ونطاق الأسرة اللصيق بك؟ وأخيرًا، ما هو مصدر إلهامك الفني والثقافي؟ نحن نسأل هذه الأسئلة لأن الفنانين الروس بالنسبة للمشاهد البولندي بدون سيرة ذاتية - هذه صفة مميزة جدًا - في حين لا يعرف المشاهد البولندي عن الفنانين الغربيين تقريبًا أي شيء عدا سيرهم الذاتية.
تاركوفسكي: أتعرف - هذا صحيح، لكنه أيضًا غير صحيح. أنت على صواب وأيضًا مخطئ بمعنى من المعاني. مخطئ بخصوص الانطباع الذي أخذته عن الفنانين الروس حيث لم تنتبه للقصص الأصلية لحياتهم . بالطبع، إذا قارنهم أحد بغيرهم من الفنانين المُحدثين عندئذ ربما تكون على صواب. أنا عن نفسي لم أعقد أبدًا أية مقارنات بيني وبين الفنانين الحاليين.
أشعر دائمًا بشيء ما يربطني بفناني القرن التاسع عشر. خذ مثلاً "توليستوي، ديستويفسكي"، والكتاب الآخرون من نفس النوعية، "تشيخوف، تورجنيف، ليرمنتوف" أو، قل "بونين" - عندئذ سترى أي حياة فريدة تلك التي كانوا يعيشونها وكيف كانت أعمالهم قريبة جدًا ومتصلة بحياتهم، بأقدراهم.
طبعًا، ما أريد أن أقوله لا يعني تمامًا أنني ألغي نفسي، إن صح القول، من السياق الثقافي للـستينات، والسبعينات والثمانينات في الإتحاد السوفيتي. ليست هذه هي القضية. لكنني بشكل قاطع ضد بعض الآراء الفجائية التي قامت بفتح تلك الهوة عقب الثورة. هذه الهوة تم خلقها عمدًا، لكي تكون إلى حد ما بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الثقافة الروسية، لكنني أعتقد أن الثقافة لا يمكن أن تتطور في الفراغ . نحن قادرون على محاولة نقل بعض النباتات عالية القيمة، نقطفها ونستزرعها. لكنها لن تنمو، لا شيء سينمو ويكبُر. لذلك فإن الكتاب الذين مروا بنقطة التحول هذه انتهت بهم أقدارهم إلى صورة مأساوية جدًا، هؤلاء الذين بدأو الكتابة قبل الثورة وواصلوا عملهم بعد ذلك: ألكسي تولستوي، جوركي، مايا كوفسكي، بلوك، تلك هي المأساة. و"بونين"... هذا يشكل بصفة عامة دراما فظيعة. "أخماتوفا"... الله يعلم من أيضًا. مأساة. "تسفيتيفا"... لم يربح أحد أي شيء، كان الاستزراع مستحيلاً. كان من الضروري ألاَّ يكون هناك استزراع. ببساطة يجب ألاّ يُسمح لأحد بهذا التجريب الفظيع في الثقافة مثل هذه التشريحات أكثر قسوة من الانتهاكات التي تمارس على جسم الإنسان، إنهم يسجنون الأرواح، خذ على سبيل المثال "بلاتونوف"، وهو ينتمي إلى هذه الفترة تمامًا، ألا وهي فترة التطور الخاصة بروسيا السوفيتية. إنه كاتب روسي نموذجي. كانت حياته بالطبع لا تستحق اسم الحياة من أوجه عديدة وقد انعكست بوضوح في أعماله.
لذا فإنك بصفة عامة لست على صواب. وعندما تتحدث عني في هذا السياق، فإن الروابط التي تربطني بالثقافة الروسية الكلاسيكية مهمة جدًا بالنسبة لي. كانت لهذه الثقافة الفطرية استمراريتها ولا يزال لديها حتى يومنا هذا. لا أعتقد أنها ماتت. كنت أحد هؤلاء الفنانين الذين خلال حياتهم عملوا - ربما حتى دون وعي

- على محاولة إدراك العلاقة بين ماضي روسيا ومستقبلها. خسارة هذه الروابط سيكون شيئًا قاتلاً بالنسبة لي، لا أستطيع أن أحيا بدونها. دائمًا الفنان هو الذي يعمل على ربط الماضي والمستقبل. يعيش ليس فقط في لحظته الآنية، إنه وسيط إن جاز التعبير، إنه المر اكبي الذي يتولى نقل الماضي إلى المستقبل.
تاركوفسكي:
ما الذي يمكنني أن أقوله عن عائلتي؟ كان والدي شاعرًا. كان صبيًا رائعًا عندما قامت الثورة، حقًا لا أحد يستطيع أن يقول أنه كان بالغًا قبل الثورة. لن يكون هذا صحيحًا على الإطلاق. لقد شبَّ بالفعل أثناء الفترة السوفيتية. ولد في 1906 ، لذا ففي 1917 كان قد بلغ الحادية عشر، حقًا لقد كان ولدًا غير ناضج، لكنه كان مُتشربًا للثقافة التقليدية، لقد كان مثقفًا. تخرج في معهد "بريوسوف" الأدبي وقد عرف الكثير، تقريبًا كل الشعراء الروس الرواد العظام. بالطبع لا يستطيع أحد أن يتخيله منفصلاً عن الشعر الروسي التقليدي، من نوعية "بلوك، أخماتوفا، مانديليستام، باسترناك، زابولوتسكي". كان هذا مهم جدًا بالنسبة لي، وبطريقة ما تلقيت هذا كله من والدي.
قام أبي وأمي بتربيتي، وبصفة خاصة أمي لأن وأبي تركها عندما كنت في الثالثة. لذا فإن من رباني بالفعل هي والدتي. سيكون من الصعب أن أقول بالتحديد أي شيء واضح عن تأثري بوالدي كشاعر. بالنسبة لأبي، أكثر ما أثّر فيَّ كان على مستوى الحس البيولوجي، على مستوى اللاوعي - بالرغم من أنني ببساطة لست من أنصار "فرويد". أنا غير مُعجب بـ "فرويد" على الإطلاق. أيضًا "يونج" لا يناسبني. فرويد مادي ببساطة مادي وقح، مثل "بافلوف" لكن فقط من زاوية مختلفة. نظريته قائمة على احتمال مادي واحد لتفسير النفس البشرية.
أعتقد أن والدي لم يكن له تأثير عليّ، تأثير داخلي. إنني أُدين بكل شيء بصفة أساسية إلى أمي. هي من ساعدني أن أجد نفسي. إن من ينظر الفيلم سيرى بوضوح كيف كانت ظروفنا المعيشية قاسية جدًا، وصعبة جدًا. هذا في كل الأوقات. عندما تُرِكَت أمي وحيدة، كنت أنا في الثالثة، وأختي في عمر سنة ونصف وببساطة كرّست بقية عمرها لتربيتنا، لم تتزوج أبدًا، كانت معنا دائمًا. لم تتزوج ثانية، أحبت زوجها، أبي، طوال حياتها.
كانت امرأة غير عادية، قديسة بالفعل. في البداية كانت غير مستعدة للحياة بالمرة، بأي حال من الأحوال وجدت نفسها امرأة بلا أية وسائل دفاعية بينما ينهار العالم بالكامل من حولها، بمعنى من المعاني. أولاً، كان عندها طفلين ولم يكن لديها أي عمل ترتزق منه. والداي كانا يدرسان في معهد "برسيلوف" لكن أمي كانت حاملاً في أختي ولم تكن قد حصلت على أية شهادة، لم تحصل على أي شيء، لم يكن عندها وقت لتجد نفسها كامرأة مثقفة، مؤهلة. حاولت ممارسة الأدب، رأيت عينات من نثرها وغيره. كان من الممكن أن تدرك نفسها بطريقة مختلفة كلية إن لم تحاصرها هذه الكارثة.
لذا لم يكن لدينا بالفعل أية وسيلة، أمي حصلت على عمل بسيط كمصححة بروفات في دار نشر وظلّت تعمل هناك حتى النهاية، أي، حتى بعد انتهاء الحرب، لفترة طويلة، حتى أتيحت لها فرصة للتقاعد. لا أستطيع أن أفهم على الإطلاق كيف تدبَّرت الأمر، كيف صمدت هكذا، على الأقل جسديًا... إنه أمر غير مفهوم. كيف استطاعت أن تتيح لنا أن نتعلم؟ أنهيت دراستي في مدرسة الرسم والنحت في موسكو وكانت بمصروفات. من أين كانت تحصل على المال؟ أيضًا أنهيت مدرسة الموسيقا وأخذت دروسًا عند مدرس كانت أمي تدفع أجره.

- كان هذا قبل الحرب؟
تاركوفسكي: كان قبل، وأثناء، وبعد الحرب. كان من المفترض أن أصبح موسيقارًًا أو عازفًا محترفًا لم أكن راغبًا في هذا. أنا لا أستطيع أن أفهم بصفة عامة كيف كان هذا كله ممكنًا. يمكن أن يقول أحدهم: حسنًا، بالطبع، كان من المفترض أن يكون هناك بعض الإمكانية، طفل في عائلة مثقفة، إلخ...، شيء طبيعي . حسنًا، ليس هناك أي شيء طبيعي في هذا لأننا كنا نمشي حفاة بمعنى الكلمة... بلا أحذية. لم نكن نلبس أحذية في الصيف على الإطلاق، لم نكن نمتلك أيًا منها. في الشتاء لبست أحذية من اللّباد، وكانت أمي تحتاجها عندما تذهب إلى الخارج... نحن... - حتى الفقر ليس هو الكلمة الصحيحة، كان هذا أسوأ من الفقر المدقع. غير مفهوم كلية، إنها... غير مفهوم. لولاها ما كان شيء ليحدث بالمرة طبعًا. إنني ببساطة مدين بكل شيء إلى أمي.
لأجل هذا كله فإن تأثيرها عليّ واضح بقوة - حتى تأثيرها ليس هو الكلمة الدقيقة - ببساطة العالم برمته بالنسبة لي مرتبط بأمي. باستثناء أنني فعلاً لم أدرك هذا أثناء حياتها. فقط فيما بعد، عندما توفيت، فجأة أدركت هذا. ماذا أيضًا، حتى عندما كنت أعمل في هذا الفيلم - بالطبع كانت وقتها لا تزال على قيد الحياة - لم أفهم تمامًا عمن أو عما كان الفيلم. أعتقد أنني عملت فيلمًا عن نفسي، مثل "تولستوي" الذي كتب عن الطفولة، والصبا، وفترة الشباب عندما كان يعيش في "أوديسا" - لقد قام بالكتابة عن نفسه. وفقط عندما أنهيت الفيلم فهمت أنه لم يكن عني ولكن كان عن أمي. هذا الفيلم الذي - من وجهة نظري.
- أصبح بهذه الطريقة أكثر نبلاً إلى حد بعيد من فكرته الأصلية. والتغيير الذي أضفى النبل على الفكرة حدث بالضبط وبالكامل أثناء العمل في الفيلم، يمكن أن نقول أن الفيلم بدأ معي وكأنني كنت عين لهذه الذكريات التي كانت تخصني إن جاز التعبير، لكن حينها حدث أن انقلب شيء ما، واختلف كلية. وكنت كلما عملت في الفيلم، أرى أنه من الواضح أكثر فأكثر بالنسبة لي ما الذي يدور حوله هذا الفيلم.

-عندما تركت دار العرض اعتقدت أن الفيلم كان قد صُنع كقصيدة شعرية، لكنه - يبدو أنه كان مستحيل سينمائيًا - مونولوج شاعري غنائي حميم.
تاركوفسكي:
ربما، لست أدري. وقتها لم أفكر في الفيلم كشكل على الإطلاق، لم أحول استدعاء أو اختلاق أي شيء خاص أو غير عادي. ما الذي انبعث في ذاكرتي بعد هذا، لم يكن إلى حد ما في ذاكرتي بل بالأحرى على الشاشة، لم يكن هناك شيء سوى الأشياء التي كانت هامة بالنسبة لي. وبصفة عامة أهم شيء، كان فقط السير في هذا الطريق وليس في طريق آخر كالذي اتخذه مثلاً، "ألن رينيه" الذي يُرَكِّب ذكرياته، أو على سبيل المثال أيضًا "آلان روب جرييه" من الأدب الحديث، هناك مظهر هام جدًا في العمل الفني الإبداعي عند الفنانين الروس بصفة دائمة وهو عدم التركيز على الجماليات وإنما التركيز على الإحساس بالواجب الأخلاقي.

- ما هي علاقتك بتقاليد السينما الروسية العظيمة؟ من هم أساتذتك؟
تاركوفسكي:
وما الذي تعنيه السينما الروسية العظيمة.

- إيزنشتاين، وبودوفكين؟
تاركوفسكي: آه نعم. نعم... أتعرف، بالنسبة لي "دوفجينكو" و"بودوفكين" أكثر أهمية من "إيزنشتاين" بكثير.

- كمبدع "إيفان الرهيب" و"ألكسندر نيفيسكي"؟
تاركوفسكي:
بصفة عامة. بالمناسبة، "إيزنشتاين" نُظر إليه كمخرج بشكل خاطئ تمامًا من قبل القيادة السوفيتية خاصة ستالين. أُسيء فهمه - لأن ستالين لو كان قد فهم أعمال إيزنشتاين في جوهرها، ما كان قد قام باضطهاده أبدًا. وهذا كله لغز بالنسبة لي. أعرف كيف حدث، كثيرًا أو قليلاً لديً فكرة. إيزنشتاين كان ألمعيًا، مثقفًا متمكنًا، في الوقت الذي كان فيه المخرجين في السينما غير مثقفين على الإطلاق، كان ذكيًاً جدًا.
آنئذ كان الإخراج السينمائي بيد صغار الأولاد الشبان، الصغار هم الذين صنعوا السينما، علموا أنفسهم بأنفسهم، بدون تعليم نظامي على الإطلاق، لقد جاءوا إلى السينما كإفراز مباشر أفرزته الثورة وقذفت به إلى الحقل السينمائي.

- لكن كانت هناك عواطف...
تاركوفسكي: آه طبعًا، كانت هناك عواطف... مشاعر ثورية، أماني مستقبلية، تحول ما في البناء الثقافي... بصفة عامة كان شيئًا جيدًا... "إيزنشتاين" كانأحد القلائل، ربما كان الوحيد الذي قدَّر أهمية التقاليد، كان يعرف ما هو التواصل، والتراث الثقافي. لكنه لم يستوعبه، في قلبه، كان عقلانيًا إلى أقصى الحدود، عقلانيًا بشكل مرعب، يحسب حسابات لكل الأشياء، في برج عاجي، ويمارس الإخراج انطلاقًا من قوانين العقل وحدها، كان يرسم السينما التي صنعها على الورق أولاً، وكأنه آلة حاسبة، كان يرسم الأشكال التخطيطية لكل شيء. إنه لا يرسم فقط إطارات الأفلام ولكنه يفكر في كل شيء من البداية إلى النهاية ثم بعد ذلك يحشر ويستف كل شيء داخل الإطار. لم يقترب من الحياة، الحياة لم تؤثر فيه بأية حال من الأحوال. الأفكار التي أثرت فيه، أي، التي قام بتركيبها، وتحويلها إلى بعض الأشكال، وكقاعدة، كانت هذه الأشكال ميتة تمامًا، صارمة كالحديد، شكلية للغاية، وجافة، ومجردة من أي شعور. إطار الفيلم، مقوماته وسماته الشكلية، الفوتوغرافيا، الإضاءة، الجو العام - لا شيء منها على الإطلاق نابع منه، كل شخصياته مدروسة بإمعان، سواء التي اقتبسها من الرسوم واللوحات الزيتية أو بعض المؤلفات المختلقة. كان هذا على مستوى الحس مطابقًا تمامًا لصناعة السينما باعتبارها إحدى الصنائع، حيث تبدو السينما من هذا المنظور الضيق كتجميع أو كاتحاد مجموعة من الفنون التخطيطية، والرسم، والمسرح، والموسيقا، وكل شيء آخر - ما عدا السينما التي لم تكن هناك. كما لو أن مجموع كل هذه الأجزاء يعطي هذا الفن الجديد.
لنكن منصفين - ثمة سوء فهم هائل، فالسينما محكومة بطبيعة خاصة ومحددة لها تميزها عن الفنون الأخرى. إيزنشتاين لم ينجح في التعبير من خلال فنه عمّا نسميه خصوصية الفن السينمائي. لقد قام بتوظيف شيء ما من كل أنواع التخصصات والفنون لكن دون أن يدرك ما هو بالضبط المطلوب في الفن السينمائي، ولو كان قد أدرك ذلك لحذف كل إسهامات الفنون الأخرى وأبقى فقط على ذلك الشيء الجوهري فيما قدمه إلينا.

- هناك، رغم كل شيء، هذا الفيلم عن المكسيك...
تاركوفسكي: نعم شاهدت هذه المادة عندما كنت في الخارج. بالنسبة لي تبدو لي ضعيفة جدًا، ساذجة، سواء في التمثيل، أو تطور الشخصية، أو المواقف المعروضة. إنه مسرح أحداث فقير، بوستر مُصمم بسذاجة بالغة.
لكن دعنا نتأمل "إيفان الرهيب" على سبيل المثال. أنا لم أفهم على الإطلاق لِمَ كان الجزء الأول من الفيلم هكذا، فكما تعرف، فإن هذا الجزء قد نال الموافقة بل والإطراء، بينما كان الجزء الثاني موضعًا لإدانة صارخة. لماذا؟! لا أستطيع أن أفهم هذا. لقد تحدث أيضًا عن "أوبريشنا" أو تبرير الإرهاب، تحدث بالتحديد عن ذلك، مبررًا الإرهاب، حيث كانت تقطع الرؤوس من اليمين واليسار، وبخاصة رؤوس "البوير"، أبناء العائلات الأرستقراطية العريقة الروسية.
يقف "إيزنشتاين" في هذا الفيلم إلى جانب تدعيم الاستبداد (الأوتوقراطية)، مع تقوية نظام السلطة المركزية. كان واضحًا حتى للعميان ما الذي يريده هذا الفيلم. وفجأة بدلاً من أن يمطرونه بالذهب والميداليات بدأوا في اضطهاده بسبب هذا الفيلم. لغز كامل!
بعد ذلك صنع فيلمه التالي (وأنا لن أشير هنا إلى "ألكسندر نيفسكي" فكل شيء واضح، الرغبة في إرضاء توقعات المجتمع واضحة) وعنوانه "مروج بيزين".

- أنا لا أعرف هذا.
تاركوفسكي: ما الذي تعنيه بأنك لا تعرف؟ لابد أنك تعرفه إذا كنت تسألني عن "إيزنشتاين". كان عن أحد أبطال العشرينيات والثلاثينيات في القرن العشرين، في زمن المشاعية الاشتراكية، كان صبيًا، كان تلميذًا رائدًا (عضو كشافة)، ومن سوء حظه أنه كان من عائلة من "الكولاك" (المزارعون الأغنياء في روسيا)، ثم أصبح، كيف لي أن أصف هذا، أحد القديسين السوفيت لأنه أبلغ السلطات عن والديه.

- آه، إذًا لقد عرفته، ذلك هو "بافليك موروزوف".
تاركوفسكي: حسنًا، بالضبط هذا هو من أتحدث عنه.

- لكنني لا أعرف هذا الفيلم.

تاركوفسكي: هذا هو بطل الفيلم الذي قدمه "إيزنشتاين" كقديس، كضحية، كضحية مقدسة، الشهيد الذي ضحى بحياته لأجل فكرة. وإيزنشتاين يفقد نفسه، فجأة يبدو أنه على شفا كارثة. أنا لا أفهمها. إنها تبدو ككل شيء مجرد خلفية وأجزاء من الماضي. كان يبحث عن إمكانية تعزيز بعض أفكار بعينها كانت ضبابية في ذلك الوقت وانتشرت فيما بعد. وعلى نحو مفاجئ رفضوا كل هذا. بالرغم من أن... هذا لا بد أن يقال - كان تاريخ هذا الفيلم كما يلي. عندما بدأ "إيزنشتاين" التصوير، أصدقائه، الزملاء، حذروا السلطات من أن "إيزنشتاين" يصنع فيلمًا مضادًا للسوفيت، شكلاني ومضاد للسوفيت مع بعض الصوفية المشبوهة إضافة إلى تشويش الذهن، وهكذا على تلك الوتيرة. الرعب الذي أصيبت به إدارة التصوير السينمائي جعلها تبلغ "ستالين". كانت هناك حسابات في الموضوع. وطالب "ستالين" بضرورة إحضار المادة إلى الكرملين. أخذ يشاهد المادة: رأى شيئًا يحترق، براميل تتدحرج إلى أسفل المنحدر من الطابق الثاني، محاولة لإنقاذ سلع "الكلوخز" (المزرعة التعاونية) التي أشعل المزارعون "الكولاك" الأغنياء - طبيعيًا - النار فيها. البراميل تتدحرج من حظيرة تحترق، مرة، مرتين، ثلاث مرات، في لقطة طويلة وعن قرب، من زاوية مرتفعة، ومن زاوية منخفضة... بعد هذا لم يستطع "ستالين" أن يتحمل أو أن ينتظر وصاح: هذه الفضيحة كافية! وترك الغرفة. من وجهة نظري كان "إيزنشتاين" هو أحد أعظم المُنَظرين وأشهر المتميزين المتفردين في السينما السوفيتية، كان ضحية لتآمر أصدقائه عليه، لقد تم تحطيمه بيد زملائه.
ولأنني أعرف الناس، وقد اعتدت مقابلة هؤلاء الذين أخذوا في هذه الاجتماعات، التي لم تكن تنتهي، يتهمونه بالشكلية والشذوذ الأيديولوجي، كانوا يصيحون، وطالبوا أن يعترف بصحة اتهاماتهم ضده، وأن يدين نفسه، أعرفهم، ناقشت هذا الموضوع معهم، لقد اختلفت نظرتهم تمامًا عقب المؤتمر العشرين، وقدموا أنفسهم كزملائه الذين يدافعون عنه، كانوا يحكون بعض الحكايات الخرافية عن "إيزنشتاين" الذي ادعوا صداقته لهم. كلهم كانوا يدوسونه بأحذيتهم . معظمهم. أعلم هذا جيدًا من هؤلاء الناس أنفسهم الذين كانوا يزعمون صداقتهم له. حسنًا، ذلك هو ما كان... إنها مجموعة قصص حياتية غريبة جدًا.

- ودوفجينكو؟
تاركوفسكي: بالتأكيد "دوفجينكو" هو المُقرّب إلى قلبي، لأنه شعر بالطبيعة كما لم يفعل غيره، إنه مولع بالفعل بهذه الأرض، وملتصق بها. وهذا بصفة عامة مهم جدًا بالنسبة لي.
بالطبع أتذكّر بدايات دوفجينكو المبكرة خلال فترة السينما الصامتة الخاصة به - كان يعني الكثير بالنسبة لي. أفكر قبل كل شيء في مفهومه عن روحانية الطبيعة، هذا النوع من وحدة الوجود.
من زاوية ما أو بمعنى من المعاني - ليس حرفيًا بالطبع - أشعر بقربي الشديد من وحدة الوجود. ومذهب وحدة الوجود ترك لدى دوفشينكو انطباعًا قويًا، لقد أحب الطبيعة جدًا، كان قادرًا على رؤيتها والشعور بها. وهو ما مثل معنى كبيرًا بالنسبة لي، وأنا أعتبره مهمًا جدًا. برغم كل هذا لم يستطع صناع الفيلم السوفيت أن يشعروا بالطبيعة على أية حال، لم يستطيعوا فهمها، لم تلق لديهم أي صدى من أي جانب، لم تكن تعني لهم شيئًا. "دوفجينكو" كان المخرج الوحيد الذي لم يشق طريقًا للصورة السينمائية بعيدًا عن المناخ والجو العام، بعيدًا عن هذه الأرض، عن هذه الحياة، إلخ. بالنسبة للمخرجين الآخرين كل هذا كان مجرد خلفية، طبيعية تقريبًا في إطار الصنعة، خلفية خرساء وميتة بينما بالنسبة له كان هذا هو الجوهر والعنصر الأساسي، لقد كان يشعر بطريقة ما أنه مرتبط داخليًا بحياة الطبيعة.

- مثل هذا الفنان الحساس للطبيعة، الشاعر بها والمندمج بها، ربما يكون في أيامنا هذه هو "شوكشين" في "شجرة التوت البري الأحمر" على سبيل المثال.
تاركوفسكي: آه نعم، نعم... بالطبع، هذا يمكنه أن يشعر بالطبيعة، لقد نشأ وصار يافعًا في الريف ولم يكن ممكنًا له سوى أن يشعر بالريف ويفهمه.
لقد عاش هذا الجوهر، بالتأكيد. لكن "دوفجينكو" كانت لديه المقدرة على إظهاره، "شوكشين" لم يظهره على الإطلاق، الواحد منا على الأكثر يستطيع فقط أن يحدسه. فمناظره تفتقر إلى المهارة الفنية، بل هي مبتذلة أحيانًا، كأنها تدخل أفلامه بمحض الصدفة. لكن "دوفجينكو" أولاها اهتمامًا كبيرًا لقد كافح من أجل أن يجد نفسه في الطبيعة.

- هل توافق على أن نطلق على أفلامك رومانسية.
تاركوفسكي: لا، لا أرغب.

- رغم أننا نجد فيها مثل هذه القضايا الرومانسية تتواتر كالرحلات الرومانتيكية للبحث عن الهوية الفردية، والقيم المطلقة، نتعامل مع تقديس العالم، ونبحث عن المقدس، نُؤسطر الأحداث (نخترع الأساطير للأحداث)، وأخيرًا، نحن لدينا ثقة تامة في الصفاء والنقاء الأصلي للثقافة الروحية التي يعرضها الفنان. كل هذه الروحية هي شيء رومانتيكي جدًا.

تاركوفسكي: قلت هذا بشكل جميل جدًا لكن تولّد عندي انطباع بأن ما ميزته هنا ليس من الرومانسية في شيء. فما قمت بوصفه الآن لا شيء منه بالتأكيد يتناسب معها. أظن "إضفاء الرومانسية"... حينما أسمع لفظتي "إضفاء الرومانسية" أخاف. لأن هذا الإضفاء هو محاولة... بل هو ليس محاولة، إنه طريقة مبالغ فيها للتعبير عن رؤيتك للعالم، إدراكك للحقيقة حيث الإنسان يرى ويعيش الأحداث الحقيقية - في عالم حقيقي أكثر مما هي عليه من حقيقة. والحال هكذا عندما تذكر شيئًا ما مقدس، عليك أن تبحث عن الحقيقة، إلخ... - بالنسبة لي هذه...

- هذه ليست الرومانسية؟
تاركوفسكي: هذه ليست الرومانسية لأنني لن أتمكن من أن أجعل الحقيقة أكبر مما هي عليه. بصفة عامة الحقيقة بالنسبة لي أكبر بكثير مما يمكن أن أجده فيها، أكثر عمقًا وأكثر قداسة من قدرتي على الإدراك. الرومانسيون الحقيقيون اعتقدوا أن الحياة كانت أغنى بكثير مما كانوا يرونها عليه، أعني كانوا يخمنون، اعتقدوا أن الحياة لم تكن بسيطة أبدًا، بل أن بها عمق، قليل مما يمكن أن نسميه غرابة، وميتافيزيقا، ما بداخلها يفلت من إدراكنا، ما لا يمكن أن نفهمه عن طريق المعرفة.
كانوا يحاولون تخمينه، يحاولون أن يُظهروه ويعبروا عنه. دعني أضرب مثالاً: هناك أناس بإمكانهم أن يروا الهالة، بالتحديد وهج متعدد الألوان يحيط بالجسم البشري، هؤلاء الناس الذين يمتلكون هذه الأحاسيس المتطورة إلى درجة أعلى من غالبية الناس. تحدثت منذ فترة ليست بالبعيدة إلى رجل كهؤلاء في برلين، صيني - يمكن أن يعالج أمراضك، يعرف جيدًا أو بالضبط ما هي ظروفك، حالتك، ما الذي تشعر به، ما هي مشاكلك - بإمكانه أن يرى كل هذا عن طريق الهالة.

- هذه الظاهرة أكدها المصور الفوتوغرافي "كيرليان".
تاركوفسكي: نعم هذه التجارب ذات صلة بها - لكن مثل هذا الشخص ببساطة يستطيع رؤية هذه الهالة بعينيه، بينما الرومانسيون حاولوا اختراعها، خمنوا افتراض حدوثها - بينما الشاعر بإمكانه أن يراها. لربما تقول: لكن كان هناك شعراء فيما بين الرومانسيون. بالطبع، أنا لا أنكر هذا. كان هناك "هوفمان" الذي أهيم به ببساطة، كان هناك "ليرمونتوف"، "تيتشيف"، واحد من أكثر الناس عمقًا، شاعر مذهل، كان هناك العديد منهم... هذا كله حقيقي. لكن هل بإمكاننا أن نطلق عليهم بالفعل رومانسيون؟ - إنهم ليسوا رومانسيين، بالتأكيد هم ليسوا رومانسيين. و"هوفمان" رومانسي. لذا عندما يقولون لي: الرومانسية... يكون من الواضح أن الشكل المستخدم من قِبَل هؤلاء الفنانيين يصبح مُبجلاً، مُفخمًا، موقرًا. اعتقد أن الحياة جميلة بالقدر الكافي، بها ما يكفي من العمق والروحانية وهي تنطق بأشياء كثيرة غير ظاهرة لحواسنا العادية، وإنه ليس من الضروري تغيير أي شيء - نحن الذين من الواجب عليهم أن يهتموا بتطورهم الخاص، على مستوى الإيمان أي الحس الروحي أو الكشف، بدلاً من محاولة جعل الحقيقة أكثر جمالاً. لذا كان الرداء الذي لبسه الرومانسيون أو هم يلبسونه للظواهر قد نتج عن نقص الإيمان في داخل الفرد وغالبًا نقص الإيمان في كل إنتاج لخيالنا.

- إنها الأنانة، أي إنكار الوجود الخارجي.
تاركوفسكي: نعم. بالنسبة لي على المستوى الشخصي الرومانسية، أو على الأقل واحدة من أهم مكوناتها هي أنانة، أما معالجتي للوجود الخارجي فهي شيء مختلف تمامًا. حسنًا، "دوفجينكو" قال ذات مرة بذكاء شديد أنه حتى في بركة صغيرة عَكِرة بإمكانه أن يرى انعكاسات النجوم. هذا النوع م ن الصور أستطيع أن أفهمه تمامًا. لكن إذا قال أحدهم أنه يستطيع أن يرى "حشد من النجوم المرصعة في السماء وملاك يحلق حولها"، سيكون شكلاً مجازيًا مفتعلاً، غير صحيح بالمرة، زال من الحياة. لكن هذا هو المفتاح، "دوفجينكو" استطاع أن يراه لأنه كان شاعرًا، الحياة بالنسبة له كانت أكثر خصوبة جدًا، مليئة بالروحانية، أكثر مما هي عند هؤلاء الذين يرون في الواقع من حولهم ليس غير تكملة أو ملحق أو إضافة، أي ما يُتمم أنشطتهم الإبداعية الخاصة، التي هي الأصل والأساس من وجهة نظرهم.
الحياة الرومانسية تزود الفنان بالأسباب، أو هو يحتاج إليها، ليبدع في حين أن الشاعر يبدع دون اتكال على أدوات أو وسائل، يبدع لزومًا، لأنه من داخله هو ذاته تبدأ الروح الحية الواعية في الفيض بالإبداع. هكذا يكون الفنان الروحاني، والشاعر - بعكس الرومانسي - يفهم جيدًا أكثر من أي شخص آخر أنه شبيه بالإله. هذا شيء منطقي. هذا هو ما تعنيه القدرة على الإبداع. كما لو أن هذه المقدرة كانت مُفترضة ومزروعة فيه منذ البداية، لا دخل له فيها ولا هو من زرعها. الرومانسي يحاول دائمًا على العكس أن يوجد أو يجد في موهبته، في نشاطاته الإبداعية الخاصة، بعض الجمال الخصوصي الذي من وجهة نظره.

- أو بِشارة.
تاركوفسكي: بشارة . جميل. هنا أنا متفق معك.

- هناك كلمة في البولندية ، "فشيز"، نقول على سبيل المثال "آدم ميكيوفيتش" كان "فشيز" الأمة، نبي، العراف الذي يكتشف أو يرى قبل الأمة، الحقائق المخفية...
تاركوفسكي:
نعم ، نعم ، نعم. ما عدا أن هذه ليست هي الرومانسية.

- ما سبب ذلك؟
تاركوفسكي: أيضًا "بوشكين" كان هكذا، وأيضًا العديد من الفنانين التاليين، إنهم ما يزالوا موجودون حتى اليوم وهم يقدمون إنتاجهم... أعتقد أن الرومانسية، بمعناها الضيق، أعلنت عن نفسها عندما أسكرت الفنان بعبادة نفسه، بخلق نفسه في فنه. هذه ميزة رومانسية أجدها بغيضة. أيضًا هذا التأكيد الذاتي هذا العرض اللانهائي للذات، ليس نتيجة للإبداع، إنه هدفهم وليس الإبداع الذي هو وسيلة وحسب لتأكيد الذات. هذا شيء لا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
عجبي أين المعلقون !
فاطمة -

لقد ادخرت اليوم كاملا لهذه الحوار الرائع ، المترجم مبدع ... شكرا

كنز ثمين
مهتم جدا -

اعتقدان هذا اللقاء يضع النقاط على الحروف فيما يخص شاعر السينما تاركوفسكي وفعلا ان المتذوق والمهتم بالفن السابع يجد متعه معرفيه كبيرة عند قرائته هذا اللقاء شكرا ايلاف وشكرا لمسؤول صفحة السينما في ايلاف

تصحيح...
فاطمة -

سؤال: ألا يمكن للمسئول عن التعليقات أن يصحح الأخطاء ان لم تكن كثيرة ، مثل ردي أعلاه حيث يفترض (هذا الحوار) ...فقط أريد أن أعرف إلى أي مدى يمكننا كمتابعين أن نعتمد على من يتابع ردودنا لا سيما في مثل هذه الأقسام من إيلاف