السينما

"حكايات عادية" تضع المصريين أمام مرآة الذات والآخر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

محمود عبد الرحيم من القاهرة: أن تكون مصريا وتخوض تجربة الغربة في الخليج والاغتراب في مصر، أو كليهما في ذات الوقت، الفكرة المحورية التي يدور حولها فيلم المخرجة المصرية نهى المعداوي "حكايات عادية"، تلك الحكايات العادية من حيث شيوعها وتكرار حدوثها، وغير العادية في طرحها ودلالاتها،روما تفجِّره من هموم تمس الواقع المعاش للمصريين، للدرجة التي تجعلك تعيد تكرار السؤال الذي طرحه قبل سنوات المفكر المصري جلال أمين "ماذا حدث للمصريين؟".
وربما ما يميز هذا الفيلم باكورة اقتحام هذه المخرجة المتميزة لعالم الفيلم التسجيلي الأصعب في رأيي عن غيره من أجناس الفن السينمائي الأخرى، الحالة الجدلية المتواصلة منذ اللحظة الأولى للعرض بين الذات والآخر، وثنائية الغربة والاغتراب، وتعدد الأصوات ما بين الشخصيات المنسحقة حضاريا، والأخرى ..الواثقة في ذاتها المقاومة للانهزامية، والمتمردة على مبدأ الرضوخ للأمر الواقع، الذي صار شعارا متداولا هذه الأيام يؤمن به الكثيرون، فضلا عن رؤى أجيال متباينة وطبقات اجتماعية مختلفة للقضية، ما ابعد المخرجة عن شبهة الانحياز، أو توجيه الفيلم وجهة محددة مسبقة.
والفيلم يتعرض على مدى أكثر من ساعة ونصف لتجارب مصريين عاشوا فترات متباينة في السعودية أو الكويت، بإسهاب شديد يركز على الرؤية الذاتية لكل شخص عن تجربته ما بين بلده الذي يعاني فيه من ضيق ذات اليد وغياب العدالة والزحام، وبلد المهجر الخليجي الذي يبدو لدى كثيرين أرض الأحلام إلى أن يتعرضوا لصدمة التعرف المباشر.
والسؤال المحوري الذي تبدو صانعة الفيلم مهمومة به:"ماذا ربحت وماذا خسرت من تجربة الغربة الخليجية؟ ليس فقط على الصعيد المادي ولكن على صعيد أشياء أخرى ربما أكثر قيمة، سواء على المستوى الثقافي والاجتماعي أوعلى مستوى التحقق الإنساني؟"، وثمة سؤال متصل تتحسسه دون أن تسمعه عن وضع مصر والمصريين الآن؟، وهل صارت لهم نفس المكانة التي كانت أيام عبد الناصر أم أنها اهتزت وصار السيد المصري ناقل الحضارة أقرب إلى العبد المُهان الذي أتى ليذل نفسه من أجل حفنة من المال، تلاحقه صورة نمطية سلبية عنه وعن بلاده التي كان يتم النظر إليها في حقب سابقة بانبهار واعجاب وأنها أم الدنيا.
ومن خلال روايات عديدة نتعرف على إجابة هذا السؤال غير العادي، والذي يجب طرحه باستمرار والالتفات إلى دلالاته، وهي أن الخسارة قائمة في كل الأحوال، سواء لدى من أكمل مشوار الغربة وتأقلم مع عادات وتقاليد مجتمع آخر، تقليدي في جوهره واستهلاكي في ثقافته، أو لدى من رفض نمط حياة تبدو غريبة وخانقة لمن ذاق طعم الحرية وليس لديه استعداد للتضحية بكرامته من اجل لقمة العيش.
وربما من الجمل التي تستوقفك وتجسد هذا الطرح ما ذكرته إحدى الفتيات التي أصابها تشوّه الهوية، من أنها لا تعتبر مصر هو وطنها وإنما الكويت، وكلما سمعت النشيد الوطني الكويتي تشعر بالفخر، وتردده وتؤدي التحية للعلم الكويتي دون المصري، إلى جانب أنها عندما تأتي لزيارة مصر لا تطيق إطالة المقام وتحن سريعا إلى الكويت.
في المقابل يرى أخوها الصورة من منظور آخر، إذ يشعر بأن ثمة حياة نمطية تشوِّه شخصية الإنسان وتجعله غير مؤهل للاعتماد على النفس، فثمة شارع واحد يذهب ويعود منه وينقله الباص دون أن يبذل جهداً أو يكون لديه فرصة لأن يكتشف العالم من حوله، في حين يذهب في مصر من طريق ويعود لنفس المكان كل مرة من طريق آخر، في إشارة واضحة على الانفتاح والتنوع هنا والانغلاق والأحادية هناك.
ومن مظاهر التشويه الثقافي الأخرى التي تتوقف عندها ما ذكرته إحدى الفتيات التي عادت مع أسرتها الي مصر في سن المراهقة فوجدت صعوبة في التأقلم مع وطنها وظلت لفترة في حالة لا توازن، لا تستطيع استيعاب فكرة الاختلاط بين الجنسين أو مشاهدة أفلام أو سماع أغاني، بعد أن اعتادت في السعودية على وجود فصل دائم بين حياة الرجل والمرأة ، وان الفن حرام.
وتبدو النقطة الفاصلة بين من قبل بالتطبيع والانصهار مع المجتمعي الخليجي وبين من رفضه ولفظه هي النسق القيمي، أو بالأحرى الاختيار ما بين الثقافة الاستهلاكية والانتصار للمكسب المادي والنظرة البراغماتية، وبين الثقافة الأعمق المؤسسة على نهج أخلاقي وفكري، بصرف النظر عن حسابات المكسب والخسارة الماديين، وهذا تجلى بوضوح في الشهادات التي جمعها الفيلم.
ويحضرني هنا المشهد الذي سعت فيه إحدى السيدات إلى البرهنة على تميز المجتمع الخليجي عن المصري، فراحت تقارن بين مذاق الأطعمة والمشروبات هنا وهناك ومدى توافر مكيفات الهواء في البيت والسيارة والمتجر، إلى جانب الوفرة في كل شئ والاهتمام بالعطور والتزين لدى المرأة الخليجية، مقارنة بالمصرية.
وعلى النقيض يحكي أحد المدرسين المصريين من معسكر الرفض أنه كل يوم يحس أن أذنه تكبر وجيبه يمتلئ، في إشارة إلى أن القبول بوضع الحيوان والحمار تحديدا رمز الغباء الشهير، هو المؤهل للتكيف ومن ثم الثراء، وفي النهاية هذا الرجل لم يرضَ بهذه الوضعية المهينة وانتصر لقيمه وكرامته، عاد دون أن يجني شيئا، سوى تجربة غربة سيئة في السعودية ومبلغ من المال تسرب سريعا.
ولعل ما يلفت النظر في الفيلم أيضا رصده لفكرة ارتباط الخليج عند بعض المصريين بوهم الخلاص، علاوة على إدمان البعض للسفر أو بالأحرى الغربة، فرغم كل المآسي التي تحكى عن الخليج، لا يزال البعض يقاتل من أجل الترحال، ويشعر بالإحباط الشديد، لأنه لا يستطيع لظروف قهرية مثل إصابته بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، فيما يبرر أحد الأشخاص إطالة إقامته بالخليج باحتياجات أسرته المادية وتأمين مستقبل أولاده، رغم أنهم كبروا وانتهوا أو قاربوا علي الانتهاء من الدراسة، وصاروا في وضع مادي جيد، ورغم أنهم يطالبونه بالبقاء ولم شمل الأسرة المفككة، لكنها حجة أو مبرر لإخفاء إدمانه للسفر وهوس الثراء، بصرف النظر عن الثمن الذي سيدفعه هو وأسرته.
إنه حقا فيلم غير عادي وحكايات غير عادية في دلالاتها، لمخرجة تنبئ بمستقبل فني متميز، ولعل من أسباب تميزها الجدية الواضحة في عملها والجهد المبذول في التحضير له، والأهم من ذلك الرؤية الفنية والفكرية التي تلمسها بشكل جلي في التقطيع والمزج بين اللقطات لإبراز دلالات معينة أو للمقاربة بين حالتين، مثل اللقطة الدالة ببساطة وعمق والمتكررة من وقت لآخر لسيارة وهي تسير في الصحراء ولا يظهر معها شئ، سوى مساحات شاسعة من الفراغ، في مقابل السيارة التي تسير وسط الزحام، أو وسط مزرواعات، وكأن الرسالة التي تريد أن تنقلها أن هذا هو الإحساس بمصر .. الونس والحياة، وأن الشعور تجاه الخليج هو المناقض تماما ..الخواء والوحدة والضياع.. ضياع الهوية والقيم الحضارية والذات بشكل عام.
وتمكنت ببراعة من توظيف لقطات من حدث مصري كان له أهمية خاصة عند المصريين، إلا وهو دورة الألعاب الإفريقية التي استضافتها مصر قبل سنوات قليلة لتقول بطريقة غير مباشرة معاني كثيرة وتصنع ما يمكن أن يسمى بالإطار لفكرتها الأساسية، حيث استهلت فيلمها بلقطة لفتاة صغيرة ملتفة بعلم مصر واختتمت الفيلم بصورة احتفالات مرفوع فيه الإعلام المصرية بكثافة ربما لتؤكد على فكرة أن الانتماء موجود وان توارى وأن المصريين رغم كل الظروف الضاغطة شعب متمسك بالحياة ويبحث عن الفرح والتفريج عن نفسه والتخلص من احباطاته واغترابه، ولو في الحماس الكروي.
ومن الملفت أيضاً افتتاح كل مشهد او نقلة بصورة تسبق الصوت معظم الأحيان واللجوء كثيرا الى تقنية الصوت خارج الكادر voiceoverrdquo;"،مع محاولة ايجادل معادل بصري باستمرار لكل معنى أو فكرة.
وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن فيلمها ينطلق من سؤال ملِّح عن مساحة المكسب والخسارة من الغربة، فان الموسيقى أكدت على هذا المعنى كثيرا من خلال ثيمة موسيقية توحي بالترقب والتساؤل، جاءت على آلة العود.
غير أن ثمة ملاحظات لا يجب إغفالها، من قبيل إفراط المخرجة في توظيف المعادل البصري باستخدام كم هائل من اللقطات والصور الفوتوغرافية، ومشاهد فيديو خاصة بأصحاب الشهادات بعضها رديء، ولا يضيف جديدا للسرد، فضلا عن اللجوء لتسجيل شهادة ست أسر، ما يقرب من15 شخصا، يكرر بعضهم نفس المعنى، أو يحكي عن تجربة مشابهة، ما أدى إلى تشتيت الانتباه بعض الشيء، وإطالة زمن العرض بدون مبرر، رغم انه كان يكفي رصد تجربة أسرة أو أسرتين، خاصة أن ثمة أصوات متعددة داخل الأسرة الواحدة على المستوى الكمي والكيفي.
لكن يبقى التأكيد على أن نهى المعداوي مخرجة مبشِّرة تمتلك أدوات الفن السينمائي ولديها وعي بتقنيات الصورة والحس الوثائقي، الذي يفتقده الكثيرون من المخرجين المصريين، إلى جانب الاهتمام بالهم العام والانطلاق من خلفية معرفية واعية.
mabdelreheem@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف