المُخرج السينمائي جون بورمن. .كلّما تعلمّت أكثر كلّما قلّت معرفتي"1"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة علي كامل من لندن: على الرغم من أنني لم ألتقِ المخرج البريطاني جون بورمن من قبل إلا أن الممثلين الذين عملوا معه إتفقوا جميعاً على رأي
يبدو بورمن هادئاً بوضوح إلا أنك تحس مع ذلك أن بمقدوره التعامل مع أي وضع مهما كانت صعوبته برفع الكتفين وإبتسامة.
لقد إلتقيت به عام ١٩٩٨ إبان ظهور فيلمه "الجنرال"، وحين حاولت تهنئته على الفيلم خشيت أن يفسر ذلك بطريقة مخطوئة. قلت له:"لو أنني لم أقرأ إسمه في التايتل لظننت أن الفيلم معمول من قبل شاب لايتجاوز عمره العشرين عاماً". بدا مرتبكاً لهذا التعليق. إن ماكنت أعنيه في الواقع هو أنني دهشت حقاً أنه بعد كل هذه السنوات الطويلة من عمله كمخرج سينمائي إلا أنه مازال يُبدي حيوية لعمل فيلم مبتكر ومتجّدد.
بدأ جون برومن عمله كمخرج عام ١٩٦٥ وقد حاول دائماً، وفي بعض الأحيان دون نجاح، وهذه حقيقة، أن يستكشف كل أساليب السينما، بدءًا من فيلمه التجريبي (Point Blank) إلى ملحمته الأوبرالية المنقحة (Excalibur). وبفضل تلك المحادثة التي جرت بيننا بدأت أدرك الآن السبب الذي جعل من نسخته تلك "أسطورة آرثرية" بطريقة ما أكثر غموضاً وأكثر إمتاعاً وتشويقاً من كل التأويلات السينمائية الأخرى.
لقد تمشينا حوالي الساعة تقريباً أحسست فيها أنه كان مستمتعاً وهو يشرح لي بجدية وإنتباه كبيرين الموضوع الرئيسي لعمله، إلا أنه تجهّم فجأة في نهاية اللقاء وقال:"إنتظر إنتظر لحظة. لقد سرقت كل أسراري الصغيرة". بعدها رفع كتفيه وإبتسم متمنياً لي حظاً سعيداً.
النظرية ممتعة وشيقة فقط حين تكون في موضع التطبيق
لقد تعلمّت الإخراج السينمائي بطريقة طبيعية وتلقائية جداً. لقد إبتدأت ناقدًا سينمائيًا وأنا في سن الثامنة عشر، أستعرض أفلاماً وأكتب عنها نقداً للصحف، بعدها حصلت على عمل كمونتير متدرب، ومن ثم عملت كمونتير، وأخيراً بدأت أخرج أفلاماً وثائقية لمحطة BBC، وبعد حين أصبحت غير مقتنع بالأفلام الوثائقية وبدأت أعالجها بطريقة أجعل منها أكثر درامية لحين صرت أخرج أعمالاً درامية للتلفزيون وبالتالي للسينما. لهذا السبب أقول، إن تعلمي لهذا الفن كان طبيعياً وتلقائياً حقاً، وماساعدني في كل ذلك هو أنني أخرجت أفلاماً وثائقية كثيرة جداً إستطاعت أن تسلحني بالخبرة والإلمام بأسرار هذه المهنة فضلاً عن أنها منحتني الحرية وكل ذلك قد حدث ضمن مجرى عملية الإخراج ذاتها.
أما الجانب التقني فلم يكن يثير قلقي ومخاوفي مطلقاً، وهذا الشعور كان يتملكني حتى قبل أن أصّور فيلمي الأول. ولم ولن أدخل في تعارض وإشكال مع هذا الموضوع.
أنا أعرف أن الكثير من المخرجين السينمائيين اليوم يذهبون للتدريس في معاهد السينما، لكنني مع ذلك غير مؤمن بهكذا طريقة، لأنني أعتقد أن الإخراج
حين تقوم بتهيئة وتحضير فيلم مع مخرج شاب تجد أن الشيء الأكثر أهمية لتعليمه، والذي غالباً ما يفشل في تحقيقها حتىالمخرجين ذوي الخبرة والممارسة، هو كيفية معرفة قياس زمن الفيلم المكتوب في السيناريو التنفيذي قبل مرحلة التصوير. اليوم نرى الكثير من المخرجين يبدأون عملهم بفيلم طويل جداً، وفي النهاية، إذا كان طول التقطيع الأولي لنسخة الفيلم ثلاث ساعات مثلاً وكان عليك أن تقلل من ذلك الطول ليصبح ساعتين مثلاً فهذا يعني أن ثلث الوقت الذي أنفقته في تصوير الفيلم قد ذهب سدىً، لأنك أنفقته في تصوير مشاهد لم تستخدمها في الفيلم.
مهم دائماً بالطبع أن تصّور مشاهد أكثر بقليل مما هو مدوّن في السيناريو التنفيذي حيث يمكنك أن تحذفها فيما بعد أو تقطعها أو تقصرها في مرحلة المونتاج أو حتى تحذفها نهائياً إذا لم تمنتج. لكنك في كل الأحوال كنت تكذب على نفسك لأنك كنت غير صادق في زعمك معرفة كم سيكون طول الفيلم ولأنك غير قادر على أن تتحمل العودة الى السكربت ثانية وعمل تضحيات.
لعمل ذلك بطريقة صائبة وسليمة، هو أن تقوم بجدولة وتنظيم لقطات الفيلم. فلنفترض مثلاً أن لدينا مشهداً هو بحاجة لأربع عشرة لقطة؟ حسناً، هذا يعني أن لدي يومين للتصوير. لكن، هل أن هذا المشهد يستحق ليومين تصوير حقاً؟. إذا كانت الإجابة سلباً عندئذ ما عليك سوى إعادة كتابة المشهد من جديد أو حذفه أصلاً.
بهذه الطريقة تكون قد أخذت بعين الإعتبار الموارد المالية التي تنفقها على الفيلم وكذلك الوقت الذي تهدره والجُهد المخصص لكل مشهد..إلخ.. عند ذاك فقط يمكنك الحكم، هل أن ذلك له تلك الأهمية أم لا؟
الفيلم هو عملية إستكشاف
الإخراج هو عملية تكاد تكون على مقربة من عملية الكتابة حقاً، وكل المخرجين تقريباً يحبذون الكتابة أو المشاركة في كتابة سيناريوهات أفلامهم، لأنك لا
أنا أعمل الفيلم لكي أستكشف. إذا كنت أجهل عن أي شيء يدور الفيلم فإنني بذلك سأواصل العمل عليه بشوق، في حين إذا كنت أعرف تماماً عن أي شيء يدور عندئذ سأفقد الإهتمام به!. لذا فإن متعة عملية الإستكشاف هي التي تحتكم إليّ وكذلك الخطر المتعلق بذلك. أنت تأمل على الدوام بالطبع في أن كل ذلك سيقودك إلى شيء ما جديد حيوي ومبتكر.
بكلمة أخرى، إن اللحظة الوحيدة التي أعرف فيها عن أي شيء يدور الفيلم، هي اللحظة التي أشاهد فيها الفيلم مع الجمهور. وثمة مفاجآت ومفاجآت دائماً.
حين أخرجت فيلم (الإمل والشهرة The hope and Glory) والذي تدور أحداثه عن ذكريات طفولتي لم أكن أعرف، لحين إنتهيت منه، أن الأسطورة الآرثرية التي كانت تستحوذ على تفكيري آنذاك تعني في حقيقة الأمر، أن أفضل صديق لوالدي كان على علاقة حب مع والدتي!. لقد كانوا يشكلون نفس ذلك المثلث المتكون من آرثر، لانسيلوت وغوينيفير، إلا أن ذلك لم يحدث لي لحين إمتلاكي هذه الحقيقة الموضوعية، لحين أصبحت أنا نفسي متفرجاً في القاعة بدلاً من أن أكون ضمن الفيلم.
الواقعية مقابل الوحشية
إنني أعمل بطريقة خاصة ويمكنكم القول إنها كلاسية تماماً. فمثلاً أنا لا أحّرك الكاميرا ما لم يوجد ثمة هدف وتسويغ لتلك الحركة. وأيضاً لا أقّص اللقطة في المونتاج مالم تكن هناك ضرورة حقاً لذلك، وآمل أن لايفهم من ذلك أنني على الضد من التجريبية أو بعيداً عنها، إلا أن ذلك بالنسبة لي يعمل بطريقة مختلفة. فمثلاً، الفيلم الأكثر تجريبية بالنسبة لي من بين كل أفلامي التي أخرجتها هو على الأرجح فيلم (Leo the Last) والذي إستخدمت فيه نوعاً من تقنية ما بعد الحداثة وكان الغرض منها هو جعل المتفرج يدرك حقيقة أن ما يراه على الشاشة ليس سوى فيلم، شيء مختلق، خدعة. لقد كان الموضوع ذاته هو الذي يعّلق على الفيلم. ففيلم Leo The Last يبتدأ مع الممثل مارسيللو ماسترياني يقطع الشارع في سيارته وتصاحبه أغنية تقول:"أنت تشبه نجماً سينمائياً".
لم يكن الفيلم ناجحاً بالطبع، بمعنى أنه لم يصل للمتفرج بالطريقة التقليدية والسائدة، ربما بسبب تجريبيته!.
القواعد التي أستخدمها عادة على أية حال، هي تلك التي تعلمتها مبكراً من الأفلام الصامتة. إذا تأملت مثلاً للقطات القريبة جداً (Close-up) واللقطات الموجزة عند غريفيث والطريقة التي إستخدم فيها تلك اللقطات القريبة لغرض توضيح فكرة ما، تستطيع الحكم أن السينما المعاصرة هي على الأغلب سينما غير متقنة تماماً قياساً بما أنجزته السينما آنذاك.
الشيء الأساسي بالنسبة لي فيما يتعلق بالقواعد البصرية هو العلاقة المكانية بين الشخصيات. فإذا كانت الشخصيات قريبة من بعضها وجدانياً، ففي هذه الحالة سأجعلها قريبة من بعضها فيزيائياً أيضاً. أما إذا كانت بعيدة عن بعضها عاطفياً فسأباعد بينها حّد الإنفصال. لهذا السبب أحب إستخدام السينما سكوب(٢) لأنها تمنحني حرية العمل وسعة المكان بين الممثلين.
في فيلم (الجنرال) مثلاً ستلاحظ أن مشهد السرقة، الذي يُنجز اليوم عبر الكثير من القطع السريع في اللقطات، كنا قد عالجناه بلقطات طويلة وقد كان الحدث كله يجري في إطار اللقطة ذاتها. طريقتنا تلك هي على التضاد مما أسميه أنا بـ (الوحشية الجديدة)
في السينما، والتي هي ليست سوى شكل من أشكال السذاجة، لأن من يمثلها أناس هم حسب ظني، ليس لديهم فهم لتأريخ السينما. إنها نوع من المونتاج التلفزيوني الموسيقي ليس إلا، حيث كلما كانت الفكرة الأساسية مربكة وغير سوية كانت أكثر إثارة وتشويقا. وأنت تراها اليوم تسري كالسرطان في جسد السينما السائدة أكثر فأكثر.
حين تنظر إلى فيلم مثل Armageddon، تظهر أمامك كل الأخطاء التقنية المحظورة في السينما الكلاسية، ككسر الخط الوهمي (cross the line) مثلاً أو الكاميرا وهي تتقافز من مكان إلى آخر، وسواها. إنها طريقة تستجدي الإثارة والتشويق بشكل زائف وهي تفتقد إلى الأساس. إنها أشبه بعجوز يحاول إرتداء ثياب شاب يافع، وهي أشياء تثير الأسى في النفس حقاً.
بعث الحياة في المشهد السينمائي
إن هدفي الأساسي حين أقوم بمعالجة مشهد سينمائي ما هو أن أبعث فيه الحياة بالقدر الممكن. ومن أجل تحقيق ذلك فإن الشيء الأول الذي أقوم به هو التدريب على ذلك المشهد، أي عمل البروفة. ليس في يوم التصوير بالطبع، إنما قبل ذلك.
يتمحور عملي في هذه المرحلة فقط حول سبر وإستكشاف محتوى المشهد، وليس تحديد حركات الممثلين في المكان، وهذا ما يسهم في مساعدة الممثلين على إرتجال مايحدث حقاً قبل المشهد وبعده.
ومن أجل عمل تكوينات اللقطة عادة ما أستخدم جهاز قديم يدعى "Mitchell sidefinder" يكون مكانه عادة إلى جانب الكاميرات. جهاز كبير عليك أن ترفعه أمامك، فبدلاً من أن تضع عينك في شيء ما كالمنظار، تتراجع قليلاً عن هذا الجهاز حيث يمكنك عندئذ من خلاله رؤية تكوين اللقطة وهي أشبه بصورة أو إطار صورة.
أما قرار تحديد موضع الكاميرا فهو عملية منطقية جداً تماماً مثلما هي وجهة النظر مهمة جداً، وهي عملية حدسية في ذات الوقت.
حين إبتدأتْ السينما كان مجرى عملية إنجاز الفيلم سهل جداً بالطبع. كانت الكاميرات توضع في مكان يشبه تماماً وضع المتفرج وهو يجلس في قاعة المسرح، وليس هناك سوى لقطة ثابتة طويلة تصور الحدث الذي يجري على خشبة المسرح. من هنا يمكنك أن تتخيل ما أحدثه "غريفيث" حين إبتدأ يحرّك الكاميرا، تلك الكاميرا التي أصبحت فيما بعد أشبه بعين الخالق، نظرة كلية المعرفة بوسعها التحرك في كل مكان. وهذا هو ما أعطى السينما بُعداً آخر تماماً. فقد رفعها كما أعتقد إلى مصاف الحلم.
حين أمضيتُ بعض الوقت بالعيش في الأمازون مع قبيلة بدائية حاولت أن أشرح لهم ماهية الفيلم وماذا يشبه، وكيف يمكنك عن طريقه الترحال من مكان لآخر، والتطلع نحو الأشياء من زوايا مختلفة، والتقطيع المونتاجي في المكان والزمان معاً. أتذكر أن كاهناً أو ساحر القبيلة قال لي معلقاً:"أوه، نعم، أنا أيضاً أفعل الشيء ذاته. فحين تتقمصني حالة الوجد، أرحل من مكان لآخر بنفس الطريقة".
لهذا، أعتقد أن قوة السينما ينبغي أن تعمل بنفس الطريقة التي ترتبط فيها التجارب الحلمية للناس، لاسيما إذا كان الفيلم مصوراً بالأبيض والأسود، بإعتبار أننا ننزع إلى الحلم بالأسود والأبيض. ولهذا حين نضع الكاميرا في موقع التصوير فإن مانحققه ماهو إلا محاولة خاطفة لخلق حلم واقعي.
التصوير إزاء المونتاج
أنا لا أقوم بتغطية تصويرية كاملة لمشاهد الفيلم (٣)، بمعنى أنني لا أشبع المشهد بتصويره من كل الإتجاهات والزوايا، كما أنني لا أحب أيضاً أن أعيد تصوير اللقطة عدة مرات. والسبب هو أنني أريد أن أرى الممثلين أن كل لقطة نقوم بتصويرها ينبغي أن نستخدمها في الفيلم.
حين تقوم بتصوير المشهد من زوايا وإتجاهات مختلفة عندها ستكون مضطراً، بسبب طول مدة الفيلم طبعاً، إلى الإستتغناء عن الكثير من تلك اللقطات المصورة وإقصائها عن الفيلم. إذا كان الأمر بهذا الشكل، لماذا نزعج أنفسنا إذاً بتصوير لقطات لن نستخدمها في الآخِر؟. لذا فأنا أسعى إلى أن جعل المشهد متوتراً ومشدوداً بشكل متواصل.
ينبغي أن يكون كل شيء مهيئاً حقاً، وبعدها حين تدور الكاميرا فهذا هو كل شيء. يستلزم على كل شخص في هذه اللحظات أن يصل إلى قمة الأداء عند هذه
شيء مضجر حقاً أن تجلس ساعات وساعات يومياً لمشاهدة اللقطات المعاد تصويرها مرات ومرات، لأنك في النتيجة ستفقد ذائقتك ورؤيتك وحكمك. حين تقوم بمشاهدة ست إعادات للقطة واحدة لن تستطيع حتى أن تميز نوعية الإعادة الأولى لتلك اللقطة. لذا فمن عادتي دائماً أن أصور قليلاً.
أنا لا أصور عادة اللقطة الرئيسية "Master Shot"(٤) للمشهد مثلاً، ومع ذلك يمكنني منتجة لقطات المشهد بيسر. إنني أصور خمسة أيام في الأسبوع بدلاً من ستة أيام كما يفعل بقية الناس، وبهذه الطريقة أنفق يوماً واحداً في الأقل في غرفة المونتاج، وهي مدة كافية لتغطية إستحقاق أسبوع واحد من التصوير. وبعدها لديّ يوم آخر لتهيئة لقطات الأسبوع القادم.
لكن يجب أن أذكر هنا أن إتخاذ قرار بعدم تغطية المشهد تصويرياً بشكل كامل ربما من شأنه أن يوقعني في مأزق يُشعرني بالندم في مرحلة المونتاج، وهذه معضلة كبيرة حقاً. لقد إستطاع كوروساوا مثلاً، حل مثل هذه المعضلة بطريقة ذكية. معروف إن جُل أفلام كوروساوا يكون قد خُطط لها بشكل دقيق في السيناريو التنفيذي (السكربت)، لكنه حين يدخل غرفة المونتاج عادة ما يشعر بنوع من الندم وإحساس باللوعة لأن ليس لديه مادة مصورة (راشز) أكثر بقليل مما خطط له في السكربت. لذا فقد سارع حينها لعلاج هذه المشكلة بأنه كان يستأجر مصوراً سينمائياً خاصاً مهمته فقط أن يصور لقطات المشاهد بشكل خفي، طالباً منه أن يستخدم عدسات ذات أحجام طويلة المدى (long lens). كان المصور يقوم بتصوير لقطات قريبة جداً (close-up) للمشهد في اللحظة التي كان فيها كوروساوا يصور اللقطة الرئيسية (Master shot)، وهي اللقطة العامة التي تظهر المنظر كله.
لقد كان هدف كوروساوا من تلك اللقطات القريبة جداً التي أنجزها المصور هو إدخالها بين اللقطات في أثناء منتجة المشهد أو الإستفادة منها في تقطيع المشاهد التي تتضمن حوارات. وهكذا تصبح تلك الأشرطة التي صورها المصور بخفية هي بمثابة مواد إحتياطية يستفيد منها كوروساوا فقط حين يكون بحاجة لها في مرحلة التقطيع. ولم يكن أحد يستطيع بالطبع أن يجرؤ ويسأله عما صُوّر لأنه لم يكن يسمح لأي عنصر عشوائي التدخل في مخططاته.
أعتقد أنه كان على صواب لأنك إذا صوّرت بكامرتين، وهو الشيء الذي لم أفعله أنا مطلقاً، عندذاك ينبغي عليك أن تقوم بعملية تسوية أو توافق بينهما. ومهمة التصوير هي بشكل رئيسي تركيز كل شيء على نقطة واحدة معينة. أما إذا كان لديك كاميرتين فيتطلب ذلك عندئذ التوفيق بينهما بإستمرار.
عليك أن تكّيف الدور مع الممثل وليس العكس
من المثير للدهشة أن الأفلام الوثائقية كانت على الأرجح هي أفضل ممارسة تعلمتها للعمل والتعامل مع الممثلين. لأن ماتعلمته منها أكثر من أي شيء آخر هو الأمر الذي له شأن بالسلوك الإنساني. ولأنني كنت في أفلامي الوثائقية أشاهد وأرقب أناساً واقعيين حقيقيين عن قرب، إستطعت أن أجلب للممثلين شيئاً ما كان يساعدهم على بلوغ عملية الإحساس بالواقع.
الشيء الآخر والمهم هو أن تصغي للممثلين، لأن الممثلين الجيدين يمتلكون على الدوام خزيناً يمكن أن يتحول آلى إسهامات هامة تضاف إلى العمل. إن المخرج الذي تعوزة الخبرة والممارسة يظن أن عليه أن يذهب إلى موقع التصوير ويملي على الممثلين ما عليهم أن يفعلوه، وأن عليه أن يكون قوّياً ليفرض إرادته!. كلا. إن هذا الإعتقاد غير صائب تماماً لأن المهم جداً بالنسبة لك كمخرج هو أن تصغي لهؤلاء الممثلين وتصّوب لهم الأخطاء إن حدثت. وعندما يحين وقت التصوير فإن ما يراد منك ليس سوى الشيء القليل والقليل جداً لتقوله لهم، وسبب ذلك هو أنك كنت مستعداً سلفاً لكل شيء بشكل صحيح، وكنت تدرك وجهتك تماماً.
ثمة مسألة أخرى مهمة حقاً بهذا الشأن وهي ضرورة عمل بعض التعديلات الطفيفة للدور دائماً ودون خوف. أنا أعرف جيداً إن إختيار الممثلين للعب شخصيات الفيلم هي مسأله مهمة وحاسمة بالطبع، بل هي موجعة دائماً، لأن ما تمتلكه قبيل رؤيتك للممثلين لم يكن سوى تصورا ما عن تلك الشخصيات التي سيلعبونها، ومن غير الممكن أن تعثر على الممثل الذى يطابق تماماً صورة الشخصية التي رسمتها في مخيلتك. أنا شخصياً أشعر في كل مرة أقوم فيها بإختيار الممثلين للأدوار أنني أضحي بشيء ما من الفيلم.
حين تنيط الدور إلى الممثل فإنه غالباً ما يجسده بطريقة تختلف عن تصّورك المسبق للدور. لذا فالجواب الشافي لهكذا مأزق هو أن تجري بعض التغييرات للدور المكتوب ليتلائم مع الممثل، أن تعيد كتابته ثانية ليتوافق مع الممثل، بدلاً من أن تُكرهه ليتوافق ويتلائم مع الدور.
الحماقة الخّلاقة!
إذا أردت أن تقارن الفيلم تقنياً بهندسة الطيران مثلاً، أقول أن الفيلم بسيط جداً. إنه إختراع أواخر القرن التاسع عشر. بوسعك قراءة نظرية الفيلم كلها بأسابيع قليلة جداً، لكن ما أن تحاول عملياً تطبيق ما قرأت ستجد أن عليك التعامل مع متغيرات عديدة، كالناس والمناخ والأنوات والقصة وأشياء كثيرة
أعتقد إن الأفلام الأولى التي ينجزها المخرجون تكون غالباً جيدة جداً، لأن المخرج حينها يجهل تماماً كيف سيكون الأمر صعباً!. أنا أعرف ذلك من تجربتي الخاصة حين إبتدأت العمل في هذا الميدان، يوم كنت أتماهى وذلك "الأحمق" أو تلك الحماقة الخلاقة التي تحدّث عنها غودار!. أتذكر جيداً كيف أن الذعر والقلق كانا يلازماني كل يوم تقريباً لأنني كنت أظن أن كل ما أقوم به سيذهب سدىً.
الآن أصبحت أكثر حذراً وإحتراساً ولم أعد أشعر بالخوف بالطبع، بل على العكس أشعر بالراحة والإطمئنان أكثر وأنا في موقع العمل، لأنني أدرك تماماً أن موقع التصوير هو المكان الوحيد الذي أنتمي إليه. لكن ذلك لايعني بالطبع القول أنني أعرف الآن كل شيء عن الإخراج السينمائي، بل على العكس تماماً. أتذكر جملة قالها لي مرة ديفيد لين حين كنت أمضي معه بعض الأوقات، قبل وفاته، وهو يستعد لإخراج فيلمه (Nostromo)، قال:"آمل أن يكون بمقدوري إنجاز هذا الفيلم، لأنني الآن فقط بدأت أحس برؤية الطريق التي تهديني إليه".
هذا الشعور ذاته هو الذي يتملكني دائماً. وأوّد في الواقع أن أضيف أيضاً أنني كلما عملت أفلاماً أكثر، كلما أحسست أنني أعرف القليل. بمعنى آخر، كلما تعلمّت أكثر قلّت معرفتي!.
فيلموغرافيا
(جون بورمان 1933 - إنجلترا، لندن)
(1) 1965 Catch Us if You Can
(2) point blank 1967
(3) Hell in the Pacific 1968
(4) Leo the Last 1970
(5) Deliverance 1972
(6) Zardoz 1974
(7) The Heretic; Exorcise 2 1977
(8) Excalibur 1981
(9) The Emerald Forest 1985
(10) Hope and Glory 1987
(11) Where the Heart is 1990
(12) Beyond Rangoon 1995
(13) Lumiere et compagnie 1995
(14) The General 1999
(15) The Tailor of Panama 2001
(16) 2004 In My Countrty
(17) 2006 The Tiger's Tail
(هوامش)
(١) هذا اللقاء مجتزأ من كتاب بعنوان:
MOVIEMAKERSrsquo; MASTER CLASS: PRIVATE LESSONS FROM THE WORLDrsquo;S FOREMOST DIRECTORS FABER AND FABER 2002
الكتاب صادر باللغة الأنكليزية عن دار النشر، وهو عبارة عن مجموعة من اللقاءات الصحفية كان أجراها الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي "لورينت تيراد" في أوقات وأماكن مختلفة مع عشرين مخرجاً سينمائياً عالمياً ينتمون إلى أجيال ومدارس مختلفة، وغطى الكتاب فترة نصف قرن تقريباً، مبتدئاً منذ أواسط ستينات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي.
(٢) "السينما سكوب" هي أوسع شاشة مستخدمة في السينما وهي ذات نسبة باعّية هي 2.35:1 (بمعنى أن الجزء الأفقي لإطار الصورة هو أطول من الجزء العمودي لها بـحوالي 2.35 مرات. المعروف أن معظم الأفلام السينمائية هي ذات نسبة باعية هي 1.66:1 أو 1.85:1).
(٣) "تغطية المشهد" المقصود به تصوير المشهد من زوايا عديدة ومختلفة وبأحجام عدسات متنوعة تسمح للمخرج بخيارات كثيرة أثناء عملية المونتاج.
(٤) اللقطة الرئيسية (Master shot) هي اللقطة العامة التي يبين فيها كل تفاصيل المكان الذي تدور فيه أحداث المشهد.
التعليقات
شكرا
جبار -ألف شكر استاذ علي كامل على المقال الرائع هذا، وفي انتظار القسم الثاني...شكراً جزيلاً
شكرا
جبار -ألف شكر استاذ علي كامل على المقال الرائع هذا، وفي انتظار القسم الثاني...شكراً جزيلاً