أحببتكِ لأمد طويل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"نلقي نظرتنا على العالم، وخفقات قلوبنا تواكب خفقات العالم. أيدينا تلامس منحنياته، وقهقهاتنا تدغدغه، ودموعنا تثير ارتعاشه. لكن العالم لا شيء دون كلماتنا التي تحكيه، وتؤمن به وتبنيه". فيليب كلوديل"مفتاح العالم"
كندا: يمثل فيلم "أحببتك لأمد طويل" أول تجربة سينمائية، من حيث الإخراج، لـ "فيليب كلوديل" الذي هو روائي أصلاً، وهو مشهور بهذه الصفة في
كتب "فيليب كلوديل" روايات و قصصًا كثيرة ومؤثرة، أدبيًا وإنسانيًا، و لمنجزه الروائي صدى كبير داخل و خارج فرنسا. هذا الكاتب المتمكن من صنعته جلب اليه الإنتباه مع صدور روايته "متحف النسيان" في العام 1999، لكنه ضرب ضربته ولمع نجمه مع روايته "الأرواح الرمادية" التي نشرها في العام 2003، و نال عنها جائزة "رونودو"، في حين اختارتها مجلة "لير" كأفضل رواية لذلك العام، وتُرجمت هذه الرواية حتى الآن لنحو أربع و عشرين لغة، و تحولت الى فيلم سينمائي. و في العام 2005 أصدر رواية "حفيدة السيد لِنه". أما روايته "تقرير برودويك" فقد صدرت في العام 2007 .. فتصدّرت المبيعات حال صدورها.
في جميع روايات "كلوديل"، يستذكر أبطالـُه الماضي. هذا الماضي يتماشى و يتماهى لديهم مع الحاضر. ويكاد يقودهم تمامًا، إن لم نقل انه يسيطر عليهم، لذلك فهو يأتي كخلفيات للأحداث التي يعيشها هؤلاء الأبطال فيما بعد. أغلب هذه الخلفيات في روايات "كلوديل" هي حروبٌ كان أبطاله ضحاياها بهذه الصورة أو تلك، فراحوا يستذكرونها ويتفحصون نتائجها على حيواتهم اللاحقة. فرواية "الأرواح الرمادية" خلفيتها الحرب العالمية الأولى. رواية "تقرير برودويك" خلفيتها الحرب العالمية الثانية، أما رواية "حفيدة السيد لِنه" فخلفيتها حرب فييتنام. لكن فيليب كلوديل ينتقل، من خلال فيلمه هذا "أحببتك لأمد طويل"، الى خلفية أخرى، خلفية فردية هذه المرة: وهي السجن.
يبدأ الفيلم بلقطة لسيدة جالسة وحدها في "كافيتريا" المطار، هي جولييت "كرستين سكوت توماس"، و هي تدخن بقلق في انتظار شخص ما، فيما يبدو أن جميع القادمين قد غادروا مع مستقبليهم. ثم تأتي، على عجل، أمرأة متأخرة يتضح أنها شقيقتها ليا "إلزا زلبرستاين"، و كانتا قد افترقتا منذ زمن طويل.
ولكن على الرغم من كل انبساطِ و تفتحِ و بساطةِ "ليا"، التي تبذل جهدًا كبيرًا و صادقًا في مساعدة شقيقتها، إلا أنها لم تسلم من الآثار الجانبية التي باتت "جولييت" تتركها عليها. فقد أصبحت في قلق و توتر، و باتت تُستفز حين يسألها أحد عن شقيقتها "كما في سهرة العائلة والأصدقاء والمعارف في الريف"، بل صارت تغضب بشدة عندما يتعلق الحديث بالجريمة، فحين يتطرق أحد طلابها ـ مثلاً ـ الى الحديث عن شخصية "راسكولينكوف" في رواية "الجريمة والعقاب" لـ "ديستفييسكي" تحتد بشدة، و تـنفعل، وتوبّخ الطالب، وتغادر الفصل في حالة عصبية حادة .. وسط ذهول الطلبة واستغرابهم.
الحقيقة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن تاريخ فيليب كلوديل السينمائي في الإخراج. لأنه ـ ببساطة ـ لا يمتلك هذا التاريخ. فتجربته السينمائية تنحصر في كتابة السيناريو. فهو مشهور كروائي، و معروف عنه أنه أستاذ جامعي. لكن مع ذلك فإن "كلوديل" أسس لنفسه تاريخًا معتبرًا في الإخراج السينمائي ابتداءً من هذا الفيلم "أحببتك لأمد طويل". غير أن التعامل الصحافي معه لا يزال يتم على اعتباره روائيًا أولاً و قبل كل شيء .
في إحدى مقابلاته الصحافية، يصرح "كلوديل" أنه يقرأ روايتين في الأسبوع. و يوضح أن ذلك هو أقصى الممكن، و هذا صحيح. إذًا، بعملية حسابية بسيطة، نجد أنه يقرأ ما معدله ثماني روايات في الشهر، أي نحو مئة رواية في السنة. و لو اعتبرنا أن المعدل المتوسط لعدد الصفحات لكل رواية هو مئة صفحة، فأن المعدل المتوسط لهذه الصفحات في السنة هو مئة ألف صفحة. و هذا ـ فعلاً ـ هو أقصى ما يمكن قراءته في مجال النصوص الروائية. و هو بهذا إنما يكون غارقًا في عالم الرواية و مُشبعًا به. لكن "كلوديل" المتأني لا ينتج أكثر من رواية كل سنتين، كمعدل عام. هذا التأني يعني التأمل في العالم الروائي، وبالتالي الحرص على البناء المتقن للرواية و العناية برسم شخصياتها، هذا ما تعكسه أعماله الروائية، و هو مايبدو أن عدواه قد تعدت الى فيلمه "أحببتك لأمد طويل" الذي كتب له السيناريو أيضا. و يمكن القول أن هذا الفيلم هو عمل روائي آخر لـ "كلوديل"، ولكن بأدوات بصرية هي أدوات السينما. فبصمة و نَفَسُ الروائي واضحان في عمل المخرج هنا. نجد ذلك في اللقطات الطويلة: تلك التي جسدت أغلبها "جولييت"، والتي تصل في بعض الأحيان الى نصف الدقيقة، يستغرقها تمثيل تعبيري ساكن يقدم فرصة لقراءة ملامح الشخصية التي هي انعكاس لدواخلها. لذلك فإن هذا الفيلم ليس مصنوعًا للمشاهد العادي الملول. و إذ يبدو أن المخرج قد بنى فيلمه على غرار بنائه لرواياته، فأن مُشاهده الأول هو قارئ الأدب و المعني الجاد بالسينما الذي لا يستعجل اللقطات الى ما يليها. هذا المُشاهد يجد في هذه المَشاهد المستغرقة لوقت طويل فرصة لإشراكه في المشهد بصورة تلقائية ، بالتأمل و دراسة التعابير، خصوصًا مع ممثلة من طراز كرستين سكوت توماس. انها فرصة لشرح غير المقروء، أو سرده، من قِبل الروائي المخرج أو المخرج الروائي ـ لا فرق ـ مثلما هي فرصة المشاهد لقراءة النص الروائي على الشاشة قراءة ً متفاعلة و متفهمة، بل مفسرة .. فرصة لتخيل ما يدور في ذهن الشخصية على الشاشة كما لو كان المؤلف الروائي يحكي لنا عنها في النص الروائي.
و"فيليب كلوديل" ينجز من خلال هذا العمل اتحادًا نادرًا بين الأدب والسينما، خارج سياق التعامل التقليدي بين الأثنين منذ أن تحولت الروايات الى أعمال سينمائية. و ربما كان من الصعب ايجاد مخرج يأتي بذلك لولم يكن روائيًا أصلاً ، مشبعًا بعالم الرواية قراءة وكتابة وخلاصًا، مثل "كلوديل" الذي جاء الى السينما واثقًا من أدواته في كلا الميدانين، حتى وإنْ لم يخرج على تقاليد السينما الفرنسية في الأخراج .. من حيث الإيقاع في الأقل.