ثقافات

الموسيقى الداخلية في الشعر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تتردّد في الكتابات النقدية الحديثة عبارة: الموسيقى الداخلية في الشعر، خاصّة لدى هؤلاء الذين سنحت لهم الفرص، في قراءة المؤلفات النقدية، بلغاتها الأصلية. لكنّها على كثرة تردّدها، لم تزددْ إلاّ غموضاً. التصقت تلك العبارة بالشعر الحديث في معرض درء الآتهام الموحي بخلوّه من الموسيقى.
في الظاهر، لم يتصدّ ناقد - كما يبدو - لتحليل الموسيقى الداخلية المعنية من جهة، أو كيفية آستنباطها، والتمتّع بها من جهة أخرى. يمكن بصورةٍ ما إساغة هذا التقصير وتبريره. فالموسيقى الداخلية إحساس تختلف كميته، وكذلك نوعيّته من فرد إلى فرد، كالآستجابة إلى العطور والألوان والأصوات.
بالمقابل فما وضعه الأقدمون من أوزان لقياس موسيقى الشعر القديم، أضرّتْ به من حيثُ قدّرتْ أنها تنفعه، وكأن الشعر لا يقاس إلاّ بالتفاعيل الفراهيدية المدرسية، وهي كالفتاة وإنْ آنطبقت عليها كل شروط الجمال، فلا يعني أنها أكثر ذكاء وفطنة. ولا حتى أحدّ فتنة، كما لا يعني أنّ ذرّيتها سيكونون موفوري الصحة، أو أنهم أكثر لمّاحية.
فوق ذلك، حاول الأقدمون كذلك، آختراع قواعدَ ذوقية للألفاظ، فقُسّمتْ إلى موسيقية وناشزة، وكأنّ الألفاظ وُلِدتْ بجينات ثابتة، ثمّ أضافوا القوافي، وخصصوا لها علماً أسموْه: علم القوافي.
هذه البحوث وما إليها، معنية بالدرجة الأولى بدراسة الموسيقى الخارجية للشعر، وهي نقرٌ على القشرة الخارجية وليستْ إصغاء لعمليّات نموّ اللبّ. إنها خشخشة الريح في الغصن، وليست إصغاء للتفاعلات الكيمياوية من نتحٍ وكلوروفيل وشمس.
الموسيقى الخارجية بهذا المعنى صوت وصدى. رنين مهما آتسقت ذبذباته ونفذتْ. أمّا الموسيقى الداخلية فإصغاء تامّ بكلّ الحواسّ، كالإصغاء إلى فراغ ساكن. يصعد بك بيتهوفن مثلاً إلى أعلى القمم الروحية. وتحلّق وتحلّق، ومرّة واحدة تتوقّف الآلات الموسيقية وهي في أعلى طاقاتها الصوتية، فتسقط في هوّة، في صمتٍ أكثر صراخاً وهوْلاً، وكأنّما تكوّم عليك جبل.
قيل إنّ الصمت من أكبر مخلوقات بيتهوفن المسحورة.
للصمت في مسرحية: "إيهْ يا جو"، لصامويل بيكت، مساحة أكبر من الحوار، (قيل إنّ بيكت درس التلفزة لمدة ستة أشهر قبل أن يكتب هذه المسرحية الخاصة بالتلفزيون) وهو وإن قاس حركة الكاميرا بالثواني حرفيّاً، إلاّ أنّه كغصّة طويلة آختنقتْ بشتى الانفعالات. إنها تبدو للمشاهد وكأنّها ثوان راكدة، وكلّ ثانية فيها أطول من مئات الثواني الزمنية. ربّما يُعَدّ بيكت أوّل من نقل الزمن من عقارب الساعة إلى زمن مختبري يمكن آستحضاره بمواصفات معينة.
يُذكر أن هذه المسرحية إنّما كتبها بيكت باللغة الإنكليزية خصّيصاً للممثل الشهير جاك MacGowan، وهي تحكي قصة رجل ممزّق في أواخر الخمسينات من عمره. تترصّده الكاميرا في غرفته الصغيرة ليلاً. تحصي عليه أنفاسه حرفيّاً. يظهر جالساً أوّلاً. ينهض. يذهب إلى الشباك. يفتح الشباك. ينظر إلى الخارج. يغلق الشباك. يغلق الستائر. يقف. الكاميرا تحصيه زمناًً. "جو" لا ينبس بأية كلمة. صوتُ أنثى فقط يقرّعه. يعنّفه.
إذا كان بيكت قد آكتشف الوقت المختبري، فإنّ الممثل جاك مككاون المدهش آكتشف كنوزاً عجيبة في الوجه البشري، فقام بأكثر من ثلاثمائة حركة في عضلات وجهه كرد فعل للكلمات التي كان يسمعها من ذلك الصوت الأنثوي.
على أيّة حال، إنْ هي إلاّ بديهية، أنْ لا موسيقى بدون سلّم، سواء أكانت في لوحة رسم أم نحت أم رقص أم تأليف لفظي، شعراً أمْ نثراً. على هذا يمكن القول إنّ هناك من النثر ماهو أجود الشعر، وقد يكون بعض الشعر أردأ النثر، بحيثُ لا تجد فيه هلة ولا بلّة. على العموم لا بدّ للكاتب من معرفة التدرجات الهارمونية في اللون، في الصوت، في الحركة أوّلاً ومن معرفة توقيتها، وكيفيّة توظيفها، وهذا هو الأهمّ في التأليف الشعري خاصّة، بحيث تبدو اللفظة على أشُدِّها وقعاً وجرساً، حتى وإن كانت حروفها كامدة، وعلى أشُدِّها لألأة وإن كانت غائمة ومعتمة. فقط إذا أحسنت تصوير السكون سيكون لسقوط إبرة، زلزلة وآرتطام صخور. فقط إذا جسّدتَ صلابة الظلمة سيكون للنور طعم الماء الليّن في صحراءَ قحط.
يعمد الشاعر لسكب عواطفه إلى إحدى حواسّه الخمس. (عموماً وثمّة آستثناءات أكيدة، يعتمد الشعر العربي على حاسّة واحدة هي حاسة البصر أكثر من أية حاسة أخرى في رسم الصورة الشعرية) لكنْ لا تتكثّف الصورة الشعرية إلاّ بتوظيف حاسّتيْن معاً، كالسمع والبصر، أو السمع واللمس، أو البصر والشمّ ...إلخ. أمّا شاعر كرامبو مَثَلاً فإنّه يعمد إلى" تدمير الحواس" أيْ إلى صهرها جميعاً، فتظهر لنا حاسة كلية جديدة بخمسةِ قرونِ آستشعارٍ أوخمسةِ مجسّات لرسم صورة شعرية متواشجة مؤثّرة وشاملة، ثمّ يختار الشاعر، لا إراديّاً، الوعاء الذي يسكب فيه العواطف. قد يختار اللون وتدرجاته، أو الصوت وتدرجاته، أو الحركة وتدرجاتها. (في فيلم "تكبير الصورة Blow -up للمخرج الإيطالي انطونيوني، توظيف مدهش لنموّ الألوان من الشحوب الذي يدلل على عدم نضج العواطف والحوادث في البداية، إلى الألوان الداكنة حينما يشتدّ الصراع وتتعقّد الأمور. "تُرجم عنوان الفيلم في النسخ العربية بـ "انفجار").
قد تعطينا أوبرا:"مدام بترفلاي" لبوتشيني أجمل وأعمق نموّ تدرجيّ ولاسيّما في التصويتة التي تغنيها البطلة وهي تتخيّل مجئ حبيبها في باخرة تظهر في أبعد بقعة في الأفق، على شكل خيط من الدخان، ثمّ يكبر إلى باخرة. نموّ ذلك الخيط إلى باخرة يستغرق وقتاً عاطفيّاً طويلاً يقطّع النياط، ويزيد من اللهفة المتوقّدة. كذلك تبدو صورة الزوج المتخيّل. يبدو أوّل الأمر على شكل بقعة صغيرة في زحام. تقترب البقعة أكثر فأكثر فتستوي رجلاً. وحتى يزيد ناظم الكلمات من تلهفات اللقاء جعله يصعد تلاّ، فأبطأ اللقاء بينهما.
تبدأ التصويتة ARIA بصوت دقيق ضعيف كأنّه يخرج من أبعد نقطة في الأفق، ثمّ يصعد ويصعد، ويقترب مع آقتراب الباخرة الموهومة".
هذه التدرجات هي ما يمكن أن نعني بها الموسيقى الداخلية للوحة أو النحت أو الرقص، أو النصّ اللفظي، وما همّ بعد ذلك إن كان النصّ نثراً أمْ شعراً. لنأخذْ مقطوعة قديمة، ونحاول تتبّع تدرجات الحركة وأصداءها:
"أنزلني الدهرُ على حكمه
من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ
لولا بنيّاتٌ كزُغْب القطا
أُجْمِعْنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لَكان لي مضـطَرَبٌ واسـعٌ
في الأرض ذاتِ الطولِ والعرضِ
وإنّـمـا أولادنـا بينـنا
أكبادنا تمشي على الأرضِ
لوْ هبّتِ الريحُ على بعضهم
لآمتنعتْ عيني عن الغمضِ"

هذه المقطوعة التي لا تُنسب إلى أحد، مع ذلك تُنسَب إلى آحاد، هي من معجزات الشعر، في موسيقاها الداخلية. لِننْسّ للحظات أنها من مجزوء السريع (مسْتَفْعِلُنْ مستفعلن فِعْلنْ، ولنحاولْ إيجاد العلاقة الهارمونية بين الأمزجة المتقابلة المتضادّة.
حتى بقراءة سريعة لهذه المقطوعة ندرك على الفور، أن الشاعر آستحال نصفاً طيراً ونصفاً إنساناً. بكلمات أخرى أصبح لهذا الإنسان جناحان وعشٌّ وفراخ. هكذا اضاف الشاعر إلى أمزجته الإنسية، أمزجة طيورية، وإلى حركاته المقيّدة خفقات أجنحة، وإلى حناناته، حنان حوصلةٍ وهديل.
منذ البداية، وبجملة: "على حكمه" الآعتراضية، صوّر الشاعر حالة لا مفرّ منها، قَدَراً محتَّماً. تدلّ "على حكمه" أيضاً على أن الشاعر لم يكنْ راغباً في النزول. جمع الشاعر بجملة:"أنزلني"، حالتيْن:الدرجة الآجتماعية المتدنية للإنسان، والكفّ عن التحليق لدى الطائر، بدليل قوله:"شامخ"، وهي صفة يبدو أنّ الشاعر تعمّد حذف موصوفها، حتى يتداعى إلى الذهن كلّ شامخ. عدم تحديد الموصوف زاد من سعة الغموض الذي لا بدّ أنْ يحثّ السامع على أن يكون طرفاً في النصّ بدافع الفضول. وحتى يُعطي الشاعر ذلك الشئ "الشامخ" مسافة بصرية تدقّ على النظر الحديد، أضاف كلمة:"عالٍ". بهذه الوسيلة هيّأ الشاعر مسافة يكون معها السقوط اكثر مأساوية وصعقاً.
بكلمة: خفْضِ (فِعْلنْ) الحادة القاطعة، أصبح النزول حادّاً وسريعاً. بالمناسبة يعرف أصحاب الطيور، كيف ينزل الطيرُ البيتيّ الذَّكَر من علياء سمائه، ومرّة واحدة، وكأنّه كتلة بلا أجنحة إنْ هو رأى أنثاه على الأرض.
هذا السلّم في الحركة، الصاعدة الشامخة، وهي تتقابل مع الهبوط المفاجئ، هو أحد مظاهر الموسيقى الداخلية للشعر، بغضّ النظر عن البحر الذي كتبت فيه. ثمّ إنّ كلمة: خفض لا تعني السقوط كلّياً على الأرض أو القاع، وإنما تعني الطيران الواطئ، أو الطيران المشدود إلى بقعة معيّنة.
مهما دار الأمر لم تنقطعِ الموسيقى الداخلية للبيت الأوّل بآنتهائه.
لننظرْ إذن كيف آستمرّ الشاعر في تقليص المسافة وكأنّها نتيجة حتمية إلى كلمة: خفّض. ففي البيت الثاني نجد كلمة: "بنيّات" مصغّرة، تدلّ على آقتراب الرائي منهنّ، سواء أكان آقتراباً ذهنياً أم واقعيّاً. وبتشبيههنّ بـ:كزغب القطا، تقلّصت المسافة أكثر، فإذا وصلنا إلى الشطر الثاني:"أجمعْنَ من بعض إلى بعضِ" فلا تدري هل يصف الشاعر البنيّات أم الفراخ؟ وما همّ؟
يتوضّح تقليص المسافة أكثر في البيت الرابع بجملتيْ:"بيننا" و"تمشي على الأرض". من ناحيةٍ أخرى، يظهر السلّم الموسيقي على أشُدّه وضوحاً وتأثيراً، إذا ما قابلنا في البداية الطيران الشامل، الشامخ العالي، بما آنتهت إليه المقطوعة من "مشي" على الأرض.
المظهر الآخر الذي يمكن الآستدلال به على الموسيقى الداخلية، هو مقدرة الشاعر المدهشة على تبعيض الكلّ إلى أجزاء، منفصلة متصلة في آن واحد. فبمجرّد تصغير بنات إلى بُنيّات إنّما نقلنا الشاعر من شئ عام، إلى تفاصيل حميمة. وحينما ذكر: "كزغب القطا"، لمس في قلوبنا الوتر الحسّاس، لا بالتجاوب مع جمالهنّ فقط، بل بإستدرار العطف، فلا ندري ما الذي نقوله:"لأفراخٍ بذي مَرَخٍ/ زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجرُ"، فنقف مكتوفي الأيدي، وكأننا مع الحطيئة:"في قعر مظلمة". وبشطر:"أُجمعن من بعض إلى بعض"، أضاف الشاعر إلى جمال البنات ومسكنتهنّ، صفة جديدة هي الهشاشة، وكأنّ جمعهنّ من بعض إلى بعض، ما هو إلاّ شئ شبيه ببناء عشّ، محكم وواهٍ في الوقت نفسه.
يبدو أنّ أهمّ ما جاء من تبعيض في المقطوعة أعلاه، هو ما ورد في البيت الرابع:"أكبادنا تمشي على الأرض".
المشي للطير كما هو للإنسان. لكنّ توقيته هنا يثير القلق والخوف لدى الأبويْن خشية أن يدرج الأطفال، بعيداً فلا يُروْن، وكأنّ الشاعر كان يمهّد بهذا البيت، إلى القلق والخوف في البيت الأخير:
لو هبّتِ الريحُ على بعضهم
لآمتنعتْ عيني عن الغمضِ

آمتناع العين عن الغمض، حنوّ لا ريب. لكنّه عملٌ آنعكاسي هذه المرّة، وهو أسرع من أيّ عمل إرادي. بهذه المثابة عزل الشاعر حاسّة البصر عن بقيّة الحواس، وكأنّ لها آستقلالاً خاصاً عن بقية جوارح الجسد. يمكن بالطريقة نفسها مقارنة الفعل:"أنزلني"، في أوّل المقطوعة الذي يدلّ على الإكراه والإجبار، من قبل قوّة غامضة هي الدهر، بفعل:"آمتنعت" الذي يدلّ على ردّة فعل غريزية لا إرادية، حتى كأنّ الريح lsquo;إذا هبّت لا تهدّد أطفالاً حسب بل تهدّد فراخاً، إنْ هي أودتْ بعيدان أعشاشها الهشّة.
من نافلة القول إننا بالعراق، وخاصة النساء، يكنّين عن الآبناء بالأكباد، أو فلذات الأكباد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف