دان باغيس: عشر قصائد نثر عبرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالقادر الجنابي من باريس: ولد دان باغيس عام 1930 في مدينة بوكوفينا، من عائلة يهودية ناطقة بالألمانية. يشهد، وهو في السن الرابعة، معاناة حرمان ستؤثر كثيرا في نظرته الى الكوارث: رحيل والده إلى إسرائيل وموت أمه. فهذا الحادث سيؤهله أن ينظر إلى الكوارث البشرية على أنها نتيجة ما حدث في فجر العالم... فتناول الهولوكوست من خلال العودة إلى الصراع الأول هابيل / قابيل.
يتكفل جداه برعايته والعناية بتربيته. وما أن يُصبح في الحادية عشرة، حتى يعتقله الألمان ويودع في معسكر العمل الإجباري لمدة 3 سنوات، وفي مطلع عام 1946، يذهب إلى فلسطين فيلتقي أباه. يقضى فترة في كيبوتز ميرحافيا وفيه يتعرف علىناج من الموت النازي وهو الشاعر توفيا روبنر الذي سيصبح من أقرب أصدقائه.
ورغم أنه قرر عدم الكتابة بالألمانية، إلا أنه أبقى علاقته معهاللقراءة والاطلاع وأكد دائما أنه ينتمي إليها. طفق يتعلم العبرية ويكتب شعرا بها تحت تشجيعالشاعر توفيا روبنر
جمع باغيس محاولاته الشعرية الأولى في ديوان أصدره عام 1959 تحت عنوان "ساعة الظلّ". وفي عام 1964 أصدر ديوانا ثانيا تحت عنوان "مكوث متأخر". لم تبين هاتان المجموعتان انغماس دان باغيس بقضية الهولوكوست، المتوقعة من كل شاعر يكتب بالعبرية الحديثة، وخصوصا إذا كان من بين الناجين من الموت النازي. ولكن عندما قام بزيارة إلى جدته المقيمة في نيويورك، رأى صورة لأمه مطلة من نافذة، شعر فجأة بـ"يقظة الماضي الشفافة" فكتب قصائد وجمعها في ديوان عنوانه "امتساخ" صدر عام (1970)، فأُلتفتَ إليه كشاعر كبير قادر على استنطاق الهولوكوست بشعرية جد عالية فاتحا مقاربة جديدة لهذه المسألة في الرؤيا الشعرية ذاتها. بل أصبحت إحدى قصائد هذا الديوان مادة تُدرّس في المدارس، والقصيدة هي:
مكتوب بقلم رصاص في عربة قطار مختومة
هنا في هذه الشـَّـحْـنة
أنا حواء
مع هابيل ابني
إذا رأيتم ابني الأكبر
قابيل بن آدم
قولوا له إنـّي
في الحقيقة، أن هذه القصيدة التي تبدو وكأنها مبتورة، تتجلى فيها براعة باغيس الشعرية. فباغيس لم ينه السطر الأخير والأفظع أنه لم يضع لا نقطة ولا نقاطا، فاتحا، بالتالي، برزخا من الغموض المطلق في أدب الهولوكوست كله وبالتالي في صلب القول الشعري المحض. وكأنه يريد أن يدلل على مصداقية قول ليوتارد في كتابه "هايدغر واليهود"، بأن الإبداع الطالع من الرماد "لا يقول ما لا يمكن قوله، وإنما يقول أنه لا يمكنه أن يقول".
لكن هذا الديوان يتحمل أيضا مسؤولية اختزال تجربة باغيس الشعرية كلّها إلى "شعر هولوكوست". رغم أن باغيس نفسه كان ضد جعله شاعر هولوكوست، حسب زوجته Adaفي مذكراتها. كما أنه نفسه وضح بأن سنوات اعتقاله تمت في معسكر عمل إجباري يديره جنود رومانيون، وذكره لهذه الحقيقة ينطوي على إيحاء من قبله أنه لم يعان شخصيا الهولوكوست. غير أن النقد الأدبي الإسرائيلي، لغاية ما، يريد أن يولّد انطباعا بأن كل ما يُكتب في العبرية الحديثة، هو بشكل أو آخر، يدور في فلك الهولوكوست. صحيح أن اللغة مهما تجردّت تحمل ندبة الجرح التاريخي المصاب به أبناؤها، وهي في هذه الحال ليست، في نظرهم، سوى تعويذة من أجل الخلاص،ولكنللغة أيضا ولاداتها؛ شفاؤها التاريخي: استخدامها شعريا بقلبها من مجرد موئل أجوبة إلى لغز بحد ذاته. من هنا قلب باغيس تربة العبرية جاعلا منها لغزا أكبر من المحنة. فمن صورة إلى أخرى، ومن مفردة إلى أخرى في تركيب دقيق وشفاف، يأخذنا باغيس إلى أبعد نقطة من الماضي السحيق؛ إلى تباشير الصراع الأولى: هابيل / قابيل، وكأنه يريد أن يحرث باطن الضحية اللغوي شعريا.
والغريب أنه، بعد تصاعد موجة الكتابات السردية عن الهولوكوست على غرار فيزيل، فكر باغيس باتخاذ شكل كتابي مختلف. ذلك أنه صرح في لقاء معه تم في أواخر السبعينات بأنه يفكر بكتابة "نثر غير شخصي، وغير غنائي ومختلف عن النثر الغنائي الذي يكتبه عادة الشعراء". وفي الحقيقة أنه كان يفكر بكتابة قصائد تخرج على التشطير، وتقترب كليا من مفهوم قصيدة النثر. ولانشغاله بأمور التدريس وغيرها، كما وضح، لم يكتب سوى القليل. نشر عددا منها تحت عنوان معبّر "خارج السطر"، في ختام ديوانه الصادر عام 1982 تحت عنوان "كلمات مترادفة". وقد عرّف هذه النمط من الخروج على السطر / البيت بالبيان التالي: "أسطر قصيدة، طوال، قصار: كلّ منها مرتبط بالنهاية المكتوبة عليه." وبعد وفاته عام 1986 بمرض السرطان، جمعت قصائد جديدة له في ديوان تحت عنوان "قصائد أخيرة" وقد ضم قصائد نثر أخرى.
تتميز قصيدة النثر المكتوبة بعبرية دان باغيس، بنقطتين أساسيتين: الأولى هي خلوها من أي تلميح شخصي يمكن أن يتسلل إلى القصيدة من حياة الشاعرالشخصية أو مما قد ترسّب في اللغة من محنة. والثانية هي الايجاز المتخلص من كل شوائب البلاغة والغنائية؛ الإيجاز الذي ينقذ القصيدة من السقوط في غرضية واضحة أو في إنشاء يتوسل التأثير على القارئ. نقطتان تلعبان دورا أساسيا في منح قصيدة النثر استقلالية لا يتشخصن فيها سوى كتلتها هي. وهكذا نجد أنفسنا، "خارج السطر نحلّق في الفضاء، نعود، نشتعل في طرف الهواء، نحترق، نفيض ظلاما حولنا".
وإستراتيجية باغيس تقوم على توليد شعور لدى القارئ بأنه يقرأ أمثولة وعليه أن يستخرج حكمة منها، لكنه سرعان ما يستفيق بأن ما تجلى أمامه أمثولة تتلاشى وكأن خاتمة القصيدة باب تغلق فجأة بوجه التأويل. فقصيدة النثر لدى باغيس هي الضد أمثولة بامتياز. ومما يجعلها قصائد نثر بامتياز، هو الدقة المرفقة بتأمل هادئ، في اختيار كلمات بسيطة في جمل بسيطة تتابع وكأنها في مهمة سرّية. وبعضها تستخدم نموذج ما يسمى قصيدة نثر فقـَريّة (ذات فقرات)، معتمدة على مخططها الإيجازي التي يسمح لها، تحاشي السقوط في سرد زائد، الى القطع المفاجئ والبدء بفقرة جديدة. وهذا النمط من قصائد النثر الفقَريّة متواجد كثيرا لدى بودلير، رامبو، وبالأخص لدى رينيه شار.
صدرت ترجمة لمختارات من أشعار وقصائد نثر دان باغيس بالانجليزية قام بها المترجم المعروف ستيفن ميتشل المشهور بترجمته لأشعار ريلكه و"سفر أيوب". وقد اشرف دان باغيس بنفسه على ترجمة معظم قصائد المختارات. وتبدو أن الترجمة الانجليزية هذه جد أمينة وناجحة شعريا، ذلك لأني قمت بترجمة أربع قصائد نثر منها، وقد راجعها صديقي الناقد رؤوبين سنير على النص العبري فلم يجد فيها هناك انحرافا لا في المعنى ولا في الأسلوب. ولإعطاء صورة واضحة للقارئ العربي عن هذه التجربة التي تكاد تكون يتيمة في اللغة العبرية المعاصرة، طلبت من الزميل رؤوبين سنير أن يترجم ست قصائد نثر أخرى. وأتقدم اليه بالشكر الجزيل أولا على مراجعة ترجمتي للقصائد الأربع "أمسية تذكارية"، "عظة"، "من أجل استفتاء أدبي"، "إلى البيت" وقصيدة "مكتوب بقلم رصاص في عربة قطار مختومة"، وثانيا على قبوله ترجمة قصائد النثر الست التالية: "خارج السطر"، "فن الاختزال"، "تخدير"، "رثاء لصاحب أسلوب"، "التضحية بالنفس" و"التذكار".
خارج السطر
أسطر قصيدة، طوال، قصار: كلّ منها مرتبط بالنهاية المكتوبة عليه. خارج السطر نحلّق في الفضاء، نعود، نشتعل في طرف الهواء، نحترق، نفيض ظلاما حولنا.
ترجمها عن العبرية ر. سنير
من أجل استفتاء أدبي
تسألونني كيف أكتب. فليبق هذا الأمر بيننا! آخذ بصلة ناضجة، أعصرها، أغمس القلم في عصيرها، وأكتب. هذا حبر غير منظور ممتاز: فعصير البصل لا لون له (كالدموع التي يسببها البصل)، وبعد أن يجف، لا يترك أثرا. الصفحة تعود صافية كما كانت. فقط إذا قُرّبت من النار وسُخّنت ، فستظهر الكتابة، أوّلا بتردد؛ حرف هنا وحرف هناك، وأخيرا كاملا، كل جملة وجملة. ولكن ما المشكلة؟ لا أحد يعرف سر النار، ومَنْ سيشك بها، بالصفحة البيضاء، أن شيئا ما مكتوب فيها؟
ترجمها عن الانجليزية ع. الجنابي وراجعها على الأصل العبري ر. سنير
فنّ الاختزال
في البدء يعتقد بأن هذا المرج الغزيز أعطي له برمّته، ألاف المفاجآت الخضراء. بعد ذلك يرى أنه لا يستطيع أن يعيش في هذه الفوضى. صحيح أن أوراق الأعشاب ليست طويلة، لا تصل إلا إلى ركبتيه، بل إلى رسغيه فقط. إلا أن هذا هي متاهة ملتوية: ليس هنا درب، هناك عدد لا يحصى من الدروب: هو حرّ لأن يتوجّه إلى أي اتجاه يرتئيه وحرّ لأن يتيه.
يختار، إذًا، الاختزال! ليس المرج، بل قطعة عشبية صغيرة؛ لا، ليس قطعة، ثلاث أوراق عشبية؛ لا، ليس ثلاث، بل ليس ورقة واحدة (وهنا يبدو أنه وصل إلى الصميم)، حتّى لا ورقة واحدة، ولكن رسم لورقة. هذا هو الموجود.
في النهاية فقط، بعد أن علّقه على الحائط، يستطيع أن يرى: رسم الورقة الذي يشمل المرج بأكمله، هو الذي ينكر المرج بأكمله.
ترجمها عن العبرية ر. سنير
إلى البيت
ليلا، وساعة يدي بطيئة. إنه ذنـْبُ اليد. اجلس على حافة السطح وأسأل (مَن؟) كيف يمكنني أن أصل. يعتمد على ما إذا كان ذلك زحفا أو قفزا؟ ذات مرة كانت ثمّة أدراج، ملصقة بالحائط، صاعدة من الباحة إلى السطح. لم يبق لها سوى آثار، لولب من الجص. حسنا، ليس هناك اختيار: علي أن اقفز. أتدلّى قريبا من الحائط، أحاول حك كـَتـفَي بالجص حتى لا اسقط، وأسقط.
في زاوية الباحة البئر لا يزال بانتظاري، مربّع، ثقيل له غطاء حديدي. فوق، على برج الكنيسة اللوثرية، ساعة قمرية تحوّم: لقد يئست مني وتخلت عن عقربيها الاثنين. لم أدرك أني كنت متأخرا إلى هذا الحد.
والآن بعد أن ضاع كل شيء، تنتابني طمأنينة كبرى. البئر ينعس، الغطاء الحديدي يدوّي من شدّة الصمت. أرفعه بحذر؛ في الدائرة المائية، قريبا مني، يطفو وجهٌ قمري. أعرفه من مكان ما. إذا تعمّقت فيه فسأتذكر يقينا من أين.
ترجمها عن الانجليزية ع. الجنابي وراجعها على الأصل العبري ر. سنير
تخدير
الراديو القديم يلمع ثانية في الظلام مع لائحة المدن. لم أعرف أنه ما زال على قيد الحياة. إذًا، فأنا ما زلت شابًّا. المدن، وهي ما زالت بعيدة ورائعة، تتغنّى من أجلي، تسرد أنباء السنين.
الباب ينفتح. من يقبل عليّ؟! أنا مقبل عليّ، لكي آخذني. أنظر، من الصعب عليّ أن أتحاور بضمير واحد، من الأفضل العودة إلى خطاب أنا/أنت، كما كان في الماضي. بعد قليل يجب أن نذهب، ولكن لا حاجة للخوف، صدّقني. وقبل أن نصل للنهاية، إليكم حالة الطقس: سيكون الجوّ غدا باردا. هل تأخذ شالا؟ خذْ، من الأفضل أن تأخذ، إذا كنت هكذا أكثر اطمئنانا.
والجسم الذي ستتركه سيجمدونه لمدّة يوم أو يومين، وبعد ذلك، ولو بثمن باهظ، سيغسلونه، سيقمّطونه، سيخلقونه رضيعا كبيرا. بعد ذلك سيدعون الابن لكي يعيّن هوية والده بين جميع المولودين المنتظرين العودة إلي بطن الأمّ. أراك تضحك! هذه آية، الآية الرائعة من سفر أيوب: "عريانا خرجت من بطن أمّي وعريانا أعود إلى هناك". ما معنى "إلى هناك"؟ هل فكرت في ذلك؟
وإليكم نبأ وصلنا الآن: هنا ينتهي بثّنا لهذا المساء. بعد قليل سنغادر. أنظرْ، الرأس هادئ، اليدان مرتخيتان، مفتوحتان - لم أتوقّع أن تكون هذه الساعة سخيّة إلى هذا الحدّ.
ترجمها عن العبرية ر. سنير
أمسية تذكارية
في الأمسية المخصصة لذكرى ما اسمُه، الشاعر القديم، أجلس بين جمهور الحاضرين في المركز الثقافي. أعضاء اللجنة جلسوا أمامي على خشبة المسرح. طاولة ضيقة وطويلة تقطعهم في الوسط، وفوق ستة وجوه مرتبكة، وتحت اثنا عشر حذاء مرتبكا. يفتح المُفتتحُ قائلا: "أيها الحضور الكرام، تصبحون على خير، نشكركم على مجيئكم. رجاء!" ستة حمّالين يصعدون على خشبة المسرح، يقلبون الطاولة رأسا على عقب، وبحذر يحزمون أعضاء اللجنة في داخلها، كل واحد على كرسيه: تابوت جماعي. كان جمهور الحاضرين قد قفز سلفا على قدميه مندفعا نحو المخرج، نحو التوابيت التي تنتظرهم في الخارج. أنا أيضا أشق الطريق بالمرفقين، وبالقبضات، حتى لا يفوتني تابوتي.
ترجمها عن الانجليزية ع. الجنابي وراجعها على الأصل العبري ر. سنير
عظة
في الأصل لم تكن القوى متعادلة: الشيطان سيد أكبر في السماء، وأيوب مجرد لحم ودم. على كل حال، كانت المسابقة غير عادلة. فأيوب الذي خسر كل ثروته وفقد بنيه وبناته وضُرِبَ بقرْح خبيث، لم يكن حتى واعيا بأن الأمر كان مسابقة.
ولأنه اشتكى أكثر مما يجب، أسكته القاضي. وهكذا، بعد أن اعترف وصمت، أوقع هزيمة بخصمه من دون أن يدرك ذلك. عندئذ، استعاد ثروته وصار له بنون وبنات - جُدد، طبعا- وشُفي من حزنه على أطفاله الأولين.
ربما يمكننا تصور هذا الجزاء بأنه الأفظع؛ ربما يمكننا أن نتصور بان الأفظع هو جهل أيوب، عدم إدراكه بأنه أحرز نصرا، وعدم إدراكه بمن أوقع الهزيمة. ولكن في الحقيقة، إن الشيء الأفظع هو أن أيوب لم يكن له وجود على الإطلاق، وإنما كان مجرد أمثولة.
ترجمها عن الانجليزية ع. الجنابي وراجعها على الأصل العبري ر. سنير
رثاء لصاحب أسلوب
دائما كان يطارد الكلمة اللائقة. وهي كانت تسخر منه، تقفز كالجندب من بين أصابعه. ولأنه لم يتخلّ عنها أخذت ثأرها منه: سحابة مظلمة طلعت في الأفق، آلاف الجنادب، جراد من الكلمات الجائعة غطّت مؤلفاته، وجهه، وفمه، وجعلتها صحراء قاحلة.
ترجمها عن العبرية ر. سنير
التضحية بالنفس
قفّازات مطّاطيّة: للمطبخ - فظاظة مسلّحة؛ لمائدة العمليات - مرونة ملساء، نبش في التفاصيل الشخصية، تعقيم. بين جميع القفّازات المطّاطيّة ليست إلاّ واحدة نبيلة، هذه الخالدة التي ليست موجودة، القفّازة في لوحة دي-كيريكو rdquo;قصيدة حبّrdquo;. تلصق بمسمار إلى حائط بسيط، مجصّص، وبالقرب من رجليها تحلم كرة حلما لا تفسير له، وإلى جانبها رأس رجل من جسّ، ربّما لأبوللو، يتطلّع مذهولا في الفضاء. إنّه لا يعرف أنّ قاطرةً سوداء، على مسافة بعيدة من الخلف، في الفضاء المعاكس، تتملّص، والدخان يتصاعد منها، وسرعان ما يأتي المساء. ولكن القفّازة ما زالت معلّقة هنا، أمامنا، تضحّي بنفسها، وجميع أصابعها المتدلّية تومئ إلى تحت، وترشدنا إلى أين؟! إلى أين؟!
ترجمها عن العبرية ر. سنير
التذكار
المدينة التي وُلدت فيها، "رداؤتس" في محافظة "بوكوبينا"، تقيّأتني عندما كنت في العاشرة من عمري، وفي اليوم ذاته نسيتني، وكأنني ميّت، وأنا كذلك نسيتها، هكذا كل منا كان مطمئنا.
أمس، بعد أربعين سنة، أرسلت إليّ تذكارا. وكأنها امرأة مزعجة من أفراد العائلة، تطالب بالمحبّة بفضل قرابة الدم. تلقّيت منها صورة شمسية، مشهد شتائها الأخير. مركبة مع هودج تنتظر في الساحة. الحصان يلتفت ويحدّق، متعاطفا، بالرجل العجوز الذي يغلق بوّابة. هذه، إذًا، جنازة. عضوان فقط ما زالا ينتميان إلى "حبرا قدّيشا"*: حفّار القبور والحصان.
بيد أن الجنازة فاخرة: من كلّ جانب، في الريح الكبيرة، آلاف الندف الثلجية، كلّ واحدة منها نجمة في قالبها البلّوري. ما زالت هناك الرغبة ذاتهالإحراز التميّز، ما زالت هناك الأوهام ذاتها. فكلّ نجوم الشمس تتمتّع بهيكل عظمي واحد: ستّة أطراف، بالفعل، نجمة داود. بعد لحظة كلّها تتلاشى، تنصهر إلى كتلة ثلجية واحدة ليس إلاّ. وفي وسطها حفرت مدينتي العجوز من أجلي أيضا، قبرا. (ترجمها عن العبرية ر. سنير)
* "حبرا قدّيشا" - الجمعية التي تتولّى شؤون دفن الموتى.
التعليقات
التطبيع
همام -أن أيلاف أذ تقوم بنشر هذا المقال تدعو بشكل غير مباشر ألى التطبيع مع الكيان الصهيوني تلك السياسية المنهجية التي تسعى بالمنطقة تلبية للسياسية الأمريكية تلك السياسية التي تقوم ع تقوية الكيان الغاصب و جعله جزء حقيقي من المنطقةو جعل الشعوب تتقبل ثقافته و جعلها جزء من ثقافتناايلاف كفى تلاعب بالقارئ العربي كفى استهتار و نشر الاكاذيب و مهاجمة شرفاء الامة و تمجيد ثقافة العدو الغاصب
شكرا
احمد الزبيدي -نشكر إيلاف على محاولاتها الجريئة بتقديم الآخر دون عقدة النقص، تقديمه كما هو لكي نتعرف عليه وكيف نتعامل معه. لا افهم هذا الهمام ما قصده: العالم العربي كله الآن اسفل من التطبيع: التطييع... شكرا أستاذ الجنابي على هذا العمل الجاد...
الترجمة والتطبيع
أحمد أبو مطر، أوسلو -إن ترجمة الأدب والإبداع العالمي حتى من اللغة العبرية ولأدباء إسرائيليين لا علاقة له بمسألة التطبيع ، خاصة أن التطبيع كمصطلح سياسي محل خلاف بين القوى الإسلامية والقومية نفسها، فعندما تعلن حركة حماس الهدنة مع دولة إسرائيل لمدة ستين عاما، أليس هذا تطبيعا، لذلك فإن هكذا ترجمات من الأدب العالمي أهم من كل العروض السياسية لأن فهم مشاعر وأحاسيس الآخر من خلال الإبداع ربما تدلل أن هذا الآخر أقرب لي من بعض أبناء جلدتي كما لاحظنا سابقا في إيلاف أشعار بعض الشعراء الإسرائيليين عن مجزرة صبرا و شاتيلا...فليستمر القادرون على تقديم هذا الأدب العالمي وترجمته، فهم يخدموننا بفهم الآخر من لغات لا نجيدها...فلهم الشكر والتطبيع للسياسيين.
التواصل الثقافي
موسى علي -التواصل الثقافي هو تواصل أخلاقي وروحي بالدرجة الأولى.مادام العدو الصهيوني مغتصباً لارضنا وذابحاً لأهلنا ومنتهكاً لحقوقنا فيجب أن لانقبل باي شكل من اشكال التواصل معه، خصوصاً على المستوى الثقافي والأخلاقي. والشعر هو أحد أرقى أنماط التواصل الروحي مع الآخر وأنا أرفض أن اتواصل أخلاقياً وروحياً مع القتلة العنصريين الذين يقيمون دولة الظلم على أرض فلسطين. والشاعر Dan Pagis هو صهيوني اسرائيلي من الطبقة الأولى فلماذا التواصل معه عبر الترجمة والنشر. هذه ليست مزايدة وطنية على أحد.. إنها إيماني الخاص الذي أدعوكم إلى مناقشته. مع الاحترام موسى علي
البعثيون
سليم جواد -في احد كتبه يدرج دوستويفسكي حوارا بين إثنين يقول احدهما للآخر وهو يحدثه عن صديق لهما مشترك كيف هو ..فيجيبه لاتسأل عنه انه سيء للغاية فيسأل الآخر كيف؟ فيجيبه ، انه يكره بوشكين وهل تتصور ان من يكره بوشكين يمكن ان يكون طيبا ؟..لقد استخلص مقياسا دقيقا وبسيطا جدا..والآن ومثله يمكنني القول،اعطني رأيك بالرسوم الخاصة بمحمد ورأيك بقناة الجزيرة وقاعدة السيليةوهل تشتم الغرب مستخدما هاتفك النقال الذي هو من صنعهم وهل تسير تحت العلم الاسرائيلي المنصوب فوق سفارتها في بلادك بينما تدعو العراقيين لحربها ، وسأقول لك من انت .... انها اخلاق البعثيين:الرفض والرفض والرفض والدعوة للقتال، ولكنهم اول من يهرب في المعركة واول من يسلم نفسه وبالملابس الداخلية مخافة الخطر،..قال الصنم مرة ، أن كل العرقيين الجيدين هم بعثيون وإن لم ينتموا،ونحن نرد مقولته عليهمصححين وموسعين فيها قليلا لتستوعب اخوتنا العربمن العنتريين ذوي الهمة من امثال هذا الهمام الصنديد فنقول: كل العرب السيئين هم بعثيون وإن لم ينتموا..وشكرا للجهود العظيمة التي يبذلها الجنابي
الآخر هو آخر وهو لغة
سعيد مهران -الاستاذ الجنابىسعدت كثيرا بترجمتك كما هو الحال دائما، واسعدنى هذه المرة أكثر هو ترجمتك شعر عن العبرية، مع الاحتفاظ التام بصوت الآخر وبوجهه. سنذهب الى أبعد شوط فى التكلم مع الآخر الذى هو نحن واخر ايضا، فهو ليس وحسب طريقنا الى ذاتنا، ولا دليل حضور ذاتنا، ولكنه آخر أيضا، له صوت وله وجهه خاصين ومنفردين، ودونهما نحن فى عزلة تامة.تحبة طيبة لك.