ثقافات

أدب الفوضوية وفوضوية الأدباء

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"الفوضوية أقدم من الإنسانية" روكليس !
عبد الله كرمون من باريس: "من لم يعرف قط في الصباح "ذلك الانزعاج الذي نستشعره في الساعة التي علينا أن نغادر فيها الوسادة والأحلام كي ندخل في نهار بارد لم يعد يخبئ لنا أي سر والذي نعرف من قبل رتابة تفاهته". من لم يعرف ذلك؟
إنهقلق مالارميه المبثوث في رسالته هذه إلى غازاليس حوالي 1865. تلك الرغبة في العيش وفي التهام الحياة هي التي جعلت جان بيير لوسيركل يستشهد بها ضمن غيرها في كتابه "أدب، فوضوية" حول الأدب والفوضوية في أواخر القرن التاسع عشرة والصادر قبيل الصيف الماضي لدى مطابع بلاس دارم بباريس.
الكتاب غريب أمره، إذ تصعب قراءته ويرجع منها كل من ليس متعنتا خائبا قبل سلالم الصفحات الأولى. قد يتيه ويمل محبي العناوين الفرعية ومحبي الفصول وترقيمها وغير ذلك من عكاكيز القراءة. فالكتاب سيل كثيف ليس يلتوي قط قبل أن يصل إلى نهايته التي تشبه نفسها بداية تدفق جديد. هذا يعني، عكس ما قد يبدر للبعض أنني أنوي التدليل عليه، أنني قد عانيت بنفسي في قراءة هذه الفوضوية الجميلة.
في الكتاب إذن تحليل وتأريخ للأدب الذي ينسب إلى تيارات الفوضوية إضافة إلى حديث وافر عن الفوضوية في فعلها السياسي إبان الفترة التي يدرسها لوسيركل. على أنه أتى على ذكر فصيلة كبيرة من الكتاب الثوار الذين يغيبون تماما في كتابات الآخرين. ثم يأتي على ذكر مالارميه!
يقول أن على طاولة عمله المصنوعة من قطع خشب الأرز ثمة مالارميه...مالارميه والفوضوية. الفوضوية ومالارميه!
لقد انتبه الكاتب إلى العلاقة التي تربط مالارميه بالفوضوية انطلاقا من نصوصه النثرية التي ليست تخلو قط من أحد المفاتيح التي تقود إلى الإشكال الاجتماعي دون أن تثيرها بالدقة اللازمة. في إحدى رسائله إلى غازاليس، يكتب له عن كون كل أوهامه السياسية ظلت تمحي واحدا واحدا. وصرح أنه لا يحب العمال لأنهم أدعياء! وذلك بعد حضوره إذ ذاك للقاء حول بولندا. يتساءل فمن أجل من إذن نؤسس جمهورية؟ هل من أجل الأغنياء يقول؟ لكن هؤلاء ليست لهم روح! ينتهي إذن إلى أن "كل شيء سوف يمضي ويهلك العالم وليست تبقى سوى السمفونية الرابعة"!
وكتب بنفسه إلى ميسترال حوالي 1870 "أنذال باريس قد يثورون في هذا المساء نفسه".
يصف لوسيركل طاولة عمله، يتحدث في تفاصيل عما يتواجد عليها من وثائق وكتب مثل تلك الرزنامات السنوية التي تحتوي على أكثر من ثماتمائة صفحة من جذاذات أخذت من الأرشيف الوطني ومن مصالح الشرطة حوالي 1882 إلى 1914 وغير ذلك من تقارير الوشاة المندسين داخل المجموعات الفوضوية والثورية.
الأمر يشير إلى جدية مبحثه هذا إذ حتى الهوامش التي نجد في آخر الكتاب تصل إلى 567 حاشية.
إذا كان لوسيركل قد تجشم مشقة تفحص كل ذلك الأرشيف فلأنه يبحث ثمة عن شيء عن "ثلاثاء مالارميه" اللقاء الأدبي والفكري الذي كان يعقده هذا الأخير ببيته في حي روما. خاصة وأن البوليس السري كان يخترق بحدة كل إطار أو جماعة؛ دأبه الحالي أيضا. كم كانت فرحة لوسيركل لما عثر على قصده حين وضع يده على تقرير هام حول ثلاثاء مالارميه وقد أنجزه موظف في الداخلية. إذ أن أغلب المترددين على ذلك اللقاء الأسبوعي كان معظمهم من الشباب الذين ينتمون إلى إطارات "فوضوية".
لقد قاست تجمعات الثوار حينها من الاختراق والقمع وغير ذلك مما جعل أغلب لقاءاتهم ليست تتم، وتخلى الكثيرون عن حضور أغلبها درءا للمخاطر التي يشكلها ذلك التعرض المباشر للعدو الذي يلتصق بالدم وجس الأنفاس. غير أن تلك الحال قد خلقت وضعا آخر، إذ ظهر أفراد ما يتصرفون لوحدهم ويوقعون بالعدو في عمليات يختارون بأنفسهم مكانها وتاريخها ووسائلها. فهي الأخطر من عمليات المنظمين حسب الجنرال مورو الذي أكد على ذلك في كراسه حول الفوضوية بفرنسا سنة1897 المحفوظ في الأرشيف الوطني.
بعد ذلك جاء دور كومونة باريس التي يعتبرها مالارميه بذاته فجرا لرؤية جديدة للعالم. هؤلاء الشعراء الثوار يربطون بالتأكيد بين الأدب والفوضوية أو الثورة. هؤلاء بل أغلبهم يرون أن الفردية هي الرابط الحقيقي بينهما. إذ ينزعون إلى الحرية في التعبير وفي أشكاله في رفضهم الانضواء تحت لواء أية مدرسة أو طريقة في الكتابة. كما كتب مالارميه: "ينزوي الشاعر إذن في ركن ما يعزف على نايه اللحنَ الذي يحلو له". وهذا غوتي الذي كرس العديد من المقالات للتأكيد على حرية المبدع تلك. يرى بأنه ليس من أحد ينخرط ضمن جماعة أدبية ما دون أن يفقد ثمة شيئا من ذاته. يجابه غوتي هذا إذن كل انخراط المبدع في أي إطار ضيق إذ أنه أساسا ضد كل قاعدة وقانون. لأنه،كما يرى، يلزمه أن يتخذ له أداة ذاتية للتعبير. وكوصية ما للشاعر: ابحث عن إيقاعك في إمبراطوريات روحك العميقة!
عَودٌ إلى الأوساط الثورية وتضييق الشرطة الخناق على تحركاتهم. كأن يسجل المفتش الخاص ديرون أن لقاء "غراب" حي موفتار يرتاده أوكتاف ميربو، ب.كروبوتكين، مارك ستيفان، و. روكليه، أ. روتي، غراب، شارل ألبير وغيرهم...ثمة أيضا المعروفة لويز ميشيل التي تعشق الأدب والكتابة، قامت هي أيضا بشكل عملي بالربط بين الأدب والفوضوية.
أمر آخر يقوله أحد منهم، "أن الجماهير لم تخلق كي تفهم الفنانين ناهيك عن أن تطلق عليهم الأحكام. يكفي أن يفهمنا بعض الأصدقاء الأذكياء والمتنورين". لكنهم ألم يحدثوا الصخب، كما قيل عنهم، بخراطيش الديناميت أكثر منه بأعمالهم الأدبية؟
"قد يكون مالارميه، حسب "غْراب"، يكتب عباراته الأكثر غرابة بالإنجليزية ثم يترجمها بعد ذلك كلمة كلمة إلى الفرنسية. من تم يتأتى الإبهام الذي يطغى على أسلوبه بالنسبة للقارئ الفرنسي."
ضدا على تلك الكآبة التي يحياها بعض المبدعين الشباب ثمة أحد المحررين الفوضويين يصف لأحد الكتاب الشباب نوعا من النظام الغذائي الملائم يقول متوجها إليه بأن عليه أن يتناول : "ثمة مواد غنية بالحديد ولحوم نصف مطهية وأن يمارس عملا عضليا... وأن يفارق "الوحدة". أيها الشباب. سوف تبدو لكم الحياة أكثر استحقاقا لأن تعاش".
أما روكليس فهو يعتبر، إذ يصنف الفوضوية بأنها أقدم من الإنسانية، أن حتى فرنسواز دأسيز وكاترين دو سيين وتيريز دأفيلا، يرى بأن علينا أن نعتبرهم ضمن من يحيون من أجل مثال سعادة كونية.
غير أنه في آخر المطاف ماذا على الفوضوية أن تعمل إذن من أجل بناء تصور جديد للعالم؟
يلزم تحطيم عالم الأمس من أجل بناء عالم الغد. ففي ثورات القرن التاسع عشرة كانت الجماهير تعمد للتدمير وتدع عملية إعادة البناء للبورجوازية أما الآن فعلى الجماهير إذن أن تهتم خلال الثورة بكلا الأمرين بأن تدمر معالم الأمس وتدع أمر إعادة البناء الأهم لمن هم مقتدرون بذلك. على الثوار إذن أن ينهبوا كل شيء في صالح الثورة وباسم الثوري.
"يلزم أن يكون همنا هو الثورة الدائمة، بالكلام، والكتابة، بالخنجر، بالبندقية، بالديناميت،...أصدقائي الأعزاء: إن كنا ننتظر على الدوام أن نصير أقوياء كي نهجم فإننا لن نهجم أبدا. فإن الفعل الثوري هو الذي يحرر وحده قوانا."
غير ذلك فكتاب لوسيركل غني كل الغنى. فيه ما فيه من ملاحظات دامغة. حول التعليم الذي ليس يخلق سوى أناس قد حشيت أدمغتهم وقتل فيهم العقل النقدي وليس يخلق وينتج بتاتا أي ثوري. لكن بعد ذلك وخلال كل ذلك كما ينهي لوسيركل كتابه "سوف تعود الأيام الجميلة"!
kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف