البعد الصوفي والأسطوري في رواية البـوار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
البعد الصوفي والأسطوري في رواية البـوار للمغربية زهرة المنصوري
يلتقي الوهم كوسيلة لكشف الحقيقة، واللغة الهجينة والإستيهامات التي تكشف عن الرغبات الدفينة الخفية والمؤجلة باستمرار، وتقنية حكي الإجتماعي والممارسة الظاهراتية، وعملية إستكشاف الوجود
إنها كتابة الذات من أجل اكتشاف الذات الأخرى القابعة فينا، إنها كتابة الوعي الظاهر من أجل اجتثاث جدور وعي آخر كامن فينا، هي لحظة سفر في الذاكرة وحمولاتها وترسباتها، بل هي بحث في المتخيل الإتنوغرافي المغربي.
إن معمارية هذه الرواية تنطوي على نقلات فنية رائعة حيث أنها تجمع بين السرد الروائـــي والمقاطع الشعرية الفاتنة كما أنها تفيض بالدلالات والرموز الإيحائية التي تجعلنا نصل في النهاية إلى الحكم التالي وهوأن الموضوع الرئيسي (الصراع ضد الجهل) ليس إلا منطلقا لطرح قضية أساسيــة وهي غياب روح المسؤولية والضمير والانتشار المهول لزراعة الحشيش والمتاجرة فيه وهي كلها عوامل ساهمت في نشر الفساد في قرية السديرات كنموذج لكل القرى المغربية المقرفصة على جبال الريف.
ولما كان الوهم وسيلة منذ القدم لكشف الحقيقة، أوعلى الأقل استعطافها، فقد وجد الإنسان ضالته في الأدب خاصة الرواية التي ليست شيئا آخر سوى التنامي في قدرتها على ممارسة الوهم عبر لغات وثقافات وأجناس مختلفة، ومن خلال لغة هجينة تغترف من كل العوالم الممكنة، ومن تم مثل وهم سكان قرية السديرات في العيش الرغيد والثروة السريعة التي تحققها زراعة وتجارة الحشيش وسيلة لكشف حقيقة الشمالي ورجاله والقبض عليهم من طرف السلطة في نهاية الرواية، هوقبض على الجريمة واجتثاث لجذورها وعودة الأطفال إلى المدرسة التي نمت الزهور في حديقتها، وعودة السي المختار بعد أن أصبح طاعنا في الس هي عودة إلى الجذور، وانتصار لسلطة الطبيعة، وقضاء على الجهل، وبالتالي انتصار لسلطة العلم والمعرفة.
بنية الحكي في الرواية
إن تحليل بنية "البـوار" لا يخرج عن رصد العلاقة بين النص وتأويلــه، إن كلا من النـص وتأويله لا يمكن التعامل معهما بشكل منفصل، لأن البنية لا تؤشر كما نلاحظ على مبدأ ترتيب مسبق في النص، وإنما تحدد جواب النص على القراءة، ويكون من المفيد جدا أن نميز داخل العمل المتخيل بين ما يمكن تسميته بنظامية الحكي ونظامية التعليق. إن أحمد يقوم بإنجاز حكي لقصتـه وقصة قريتــه، ويقوم بنفسه بالتعليق عليها وكل ذلك على لسان السارد الذي يتولى مهمة السرد والتعليق من خلال محاورة الشخوص، فحكي السارد يتخذ منذ البداية إطارا ملتبسا يبدوفيه كشخصية رئيسية ويتموقع هذا الحكي بين نصين نص المقاطع الأربعة الأولى، ونص المقطع (12) فالمنطلق الذي يحكم هذه المقاطع الأربعة يجعل ما يجري فيها يخضع لمنطق معين من القراءة، أما المقطع (12) فهواستمرار لما جاء في هذه المقاطع بحيث يفسح المجال أمام منطق قرائي يستدعي إعادة التركيب.
الأسطوري والروائي
تضمن زهرة المنصوري روايتها قصة السي المختار، وتكاد هذه القصة تختزل قصة أحمد وقرية السديرات بكل محتوياتها، ومن تم وجب الكشف عن الوظيفة التماثلية لملفوظ هذه القصة حيث نقرأ في الصفحة 13"كان السي المختار عبد الجليل أيها الكرام هومن حشا ذهن أحمد بالأفكار الغريبة التي نغصت عليه راحته ولا تزال... لم يكن أحد يدري أمتصوفا كان أم مجنونا أم بجنية كان مسكونا"
وبالإضافة إلى مجموعة من الانزياحات المتناغمة في الرواية يمثل نص "حجرة الصبر وسيف الغدر" جوابا على مجموعة من الأسئلة التي ولدها نسيج الرواية، وحلا للألغاز التي فرضتها صورة بعض الشخصيات التي تؤتت فضاءها وتنسج أحداتها، كما ساهمت هذه النصوص في تبنين نص "البـــوار" وتحويله إلى نص يعج بالإيحاءات والرموز مما يستدعي قراءة خاصة. يأتي نص "حجرة الصبر وسيف الغدر" على الشكل التالي:"يحكى يا بني أن ملكا كان متزوجا بثلاث نسوة لم تستطع واحدة منهن منحه وريثا للعرش. ظل الملك بنتظر وليا يخلفه سنين طويلة. فقرر الزواج للمرة الرابعة. فكان أن تزوج فتاة رائعة الجمال، تفوق الشمس والقمر مجتمعين في بهائها وإشراقها لم تمر السنة حتى أنجبت له بدرا أصابت الغيرة النسوة الثلاث، فاتفقن على التخلص منها... يوم وضعت الزوجة الجميلة طفلها كان الملك غائبا عن القصر. دبرت النسوة مكيدة، أعطين منوما للأميرة الجميلة، ثم قطعن خنصر يد الرضيع ووضعته في فم أمه لإيهام الجميع أنها أكلته. بعد ذلك أمرن الخادم بقتله بعيدا عن القصر..."
هذا النص عبارة عن أسطورة مغربية تحفر في التاريخ القديم للمغرب، ومن الأسطورة تسربت ألوان الأدب، ومنها تحرر فكر الإنسان ليخلق مختلف أشكال الأدب، فالبشرية لم تعرف أقدم ولا أعرق من الأسطورة لتحكي أحلامها وآمالها وترسم دنياها المليئة بالتطلع إلى المعرفة...
ومن هنا كانت الأسطورة في البدء منبع الإلهام الأدبي، وفي النهاية دافعا إلى علوم حديثة كعلوم الأنتربولوجيا والإتنولوجيا والسيكولوجيا، وعلاقة الأسطورة بالرواية وطيدة كما قال ميشيل زيرافا Michel ZERRAFFA: فالمقطع الأسطوري أوالملحمي يقدم مسبقا خصائص الحكي الروائي الذي يكون خطيا زمنيا يربط بين البداية والنهاية يكون هذا المقطع مستقلا عن الرواية أوالملحمــة، ولكنه غير منفصل عنها أي أن العلاقة التي تربطه بها هي الإنفصال ولكن هذا الدمج للمغامرة المقطعية داخل الكل الأنطولوجي يدمر نظام الأسطورة من الداخل : فحكي مقتطف من أسطورة أوملحمة يعني إنتاج مرجعية شاملة، أوأكثر من ذلك هدم علاقة الانفصال وإثبات اللانفصال، وهذه الإزدواجية (الاستقلالية/ اللاستقلالية) للجزء بالنسبة للكل تقدم لنا مسبقا الخصائص المميزة لتاريخنا الاجتماعي، كما أنها تختزله فالمغامرة الروائية يحتويها الفضاء الأسطوري".
وهذه الإزدواجية (الانفصال/ اللانفصال - الاستقلال/ اللاستقلال) ظاهرتان ميزتا تعامل المجتمع المغربي مع المرأة في ظل التقاليد القروية التي تشيؤها وتحرمها أبسط حقوقها في العيش الكــريم وهذه الصورة تمثلها شخصية السهلي الذي سلب حليمة أرضها ومالها وشبابها وتسبب في حادثة كسرها مما جعلها مقعدة، سلبية جامدة وهامشية، وتهميش المرأة في مجتمع الرواية ليس إلا رمزا لتهميشها في المجتمع القروي ومن ساهم في هذا التهميش هوالرجل، وقد رسمت رواية البوار ثلاث صور للمرأة أوثلاث نماذج: النموذج الأول: المرأة الجاهلة التي تتطلع إلى الغنى بشتى الوسائل مما يجردها من الأخلاق والمبادئ والمنطق، وتمثل هذا النموذج سعاد: زوجة أحمد التي أقامت علاقة غير شرعية مع صهرها. والمرأة المتزنة وتمثله خديجة: زوجة عبدالعزيز، وهنا ترسم الرواية مكامن القوة في المرأة التي تستطيع أن تؤثر في سلوكات الرجل وتدفعه إلى الفعل، كما يمكن أن نكشف عن جانب إيجابي في شخصية حليمة يتمثل في الصبر والجلد.
وتتساوى المرأة هنا مع الأرض في خاصيتي الإزدواجية واللانفصال، ففعل السلب الذي مارسه السهلي على زوجته حليمة مارسه أهل القرية على الأرض التي سلبوها عذريتها انطلاقا من استبدال زراعتها بالقمح والبصل والزيتون مصدر عيش سكان القرية بالحشيش لجني النقود، جاء في ص 76: "القرية التي كان الكل يريد هجرها وتركها أصبحت مصدر حلم وأمل، ومن أجل تربتها بات يتسابق المتسابقون وبها أمسى الكل يثوق إلى الفوز، كانت كالشوهاء التي يرغب عنها كل الشبـاب ويعلمون أنها على كنز نائمة ينكبون عليها ويرغبون فيها كما سيتأكد لأحمد اليوم". إن هذه الأرض حولها أهل القرية إلى عاهرة تحبل بمحصول غير شرعي بقدرما سيجلب الغنى للقرية بقدرما سيأخذها إلى الهاوية والتعاسة، لذلك ظلت رغبة دفينة لا تفارق مونولوجات أحمد البطل : "التيسير كما أراه: هوأن تبور"أرضكم العاهرة، ويصيبها العقم، لكنها مثلكم". وتحكم هذه الإزدواجية اللانفصال. علاقة المرأة بالأرض، فعندما تحولت هذه الأرض إلى عاهرة تدر الأموال على عملاتها، حولت نساء القرية إلى عاهرات بامتياز، في مونولوج البطل: فالرجال لم يعودوا يكتفون بنسائهم أصبح لكل واحد منهم بيت في المدينة من أجل الترفيه عن النفس... الأطفال غادروا المدارس... وبدأوا يشتغلون مع آبائـهم...والنساء الله وحده يعلم ماذا يفعلن...
وفي نفسه قال: والدجاجة من دون شك لم تعد تكتفي بديكها والنعجة بخروفها..."
الأسلوب الدرامي في الرواية:
مثل ناتالي ساروت Nathalie SARRAUTE التي جعلت من البطل مجرد سند أوناقلا لحالات، تحول زهرة المنصوري بطل روايتها في بعض الأحيان إلى كائن مبهم غير محدود ولا مرئي، أي أنا غفلي anonyme هوكل شيئ ولا شيئ،في الوقت معا، لتبقى الشخصيات المحيطة به مجرد رؤى وأحـلام وكوابيس وأوهام أومجرد كائنات تابعة لذلك الأنا المتعجرف، وفي أحيان أخرى تلجأ المؤلفة لى انتشال البطل من واقعيته المقلدة الساذجة لإعطائه حياتا أكثر عمقا واتساعا تفيدها إمكانيات الحكي الشئ الذي خول لها إعادة اكتشاف قيمة الخلق الأسطوري وهذه التقنية يسميها لوبوك LUBBOCKاللاشخصيةحيث تجسد الكاتبة هنا من خلال هذا الأسلوب الدرامي أفكارها في شكل حي ومباشر وتبني علاقة وطيدة بين القارئ والكاتــب، وهذه الإستراتيجية تسمح لها بأن تبقى خارج النص الذي يحقق مسافة بينها وبين ذلك النص من ناحية ويضع القارئ في موقع مباشر أمام العمل الفني، وقد مكن هذا الأسلوب الدرامي في الرواية من تقديم الشخوص والرواية في مسار الفعل مع الوصف والتعليق وتخيل قصة الرواية مثل شريط من المشاهد كما لوأنها تقدم على خشبة المسرح أمام الجمهور ويتجلى ذلك في هذا المقطع:" كان السي المختار عبد الجليل، أيها الكرام، هومن حشا ذهن أحمد بالأفكار الغريبة" ص13. وفي الصفحة 8 نجد: ولكن لايهم فلكم أيها القراء الكرام سيكون الجواب. وأنتم من سيحكم هل هومجنون، أوعاقـل وحكيم، ثم ما الفرق بينهما إذا كان ليس ثمة شئ يفصل بين الجنون والعقل سوى خيط رفيع كما يقال؟
ترسم رواية البوار صورة خاصة للمجتمع القروي المغربي، وذلك من خلال نموذج قرية السديرات، وتشكل فضاء لحدث روائي هوأقرب إلى الفيلمي نظرا لارتكازه على الوصف مما جعل من فضاء الرواية بانوراما تتحرك فيه شخصيات تمثل نماذج إنسانية تعكس صورة هذا المجتمع.
يشكل الوصف أحد الإجراءات المهيمنة في نص البـوار حيث تقدم الكاتبـة صورا عن الشخـوص والفضاءات والمواقف والعادات تتراوح بين المنظور البانورامي الشمولي الذي يحول بعض المقاطع إلى بطاقات بريدية عن الطبيعة المغربية، وبين التدقيق المفصل الذي يقربنا من شخوص الرواية وعوالمها بشكل تنتفي معه الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال.
إن هذه البورترهات المفصلة لا يوازيها من حيث الدقة في الوصف إلا الفضاء الذي تقدم فيه الرواية صورة واضحة تحرص أيضا على تتبع حركة الشخصيات في مختلف مواقعها داخل هذا الفضاء، هذا علاوة على كون الرواية تدقق في وصف بعض الطقوس المتصلة بطبيعة المجتمع القروي (حمل الكسكس إلى المسجد، طهي الخبز في الفرن).
بالمقابل نلاحظ أن الرواية تذهب مع نزوعها الإتنوغرافي نحوحدوده القصوى حيث تتحول بعض المقاطع إلى تصوير بانورامي للطبيعة المغربية يقدم الفضاء بنفس الشكل الذي تقدمه به البطاقات السياحية كما هوالشأن في المقطع التالي:" كان الجوغائـما والسمـاء ملبدة بالسحـب السـوداء والضباب يحجب الرؤية لم يكن الظـلام قد انجلى تماما". وفي مقطع آخر: "والطيــور تحلق فوق الأغصـان وفراشات تطير في كل الإتجاهات لترسم أجمل الزهور لامتصاص رحيقها، وندى يتلألأ على الأعشاب كحبات البرد واللؤلؤ". وفي مقطع آخر:" البحيرة التي طالما ترددت عليها أجيال لاصطياد سمك الشابل... والتي طالما ارتادها الرعاة في مواسم الصيد بحثا عن المتعة... كان عشبها يظل أخضر طريا رغم الحر والشمس، كانت البهائم تنعم بالكلإ في موسم فيه العشب والخضرة والمياه".
إنها إذن الكتابة للآخر تلقي بظلالها على طبيعة الوصف في نص روائي يريد أن يكون أقرب إلى الإتنوغرافيا منه إلى الإبداع الروائي الحقيقي.
وطبيعي جدا أن تستقطب رواية إتنوغرافية كالبوار نماذج إنسانية تعكس الصورة المهية سلفا، من مجتمع قروي ذكوري تراتبي. من تم كان غلتقاط زهرة المنصوري لشخوص تعبر بصدق عن هذا المجتمع الذي تتوزعه سلطتان: سلطة المال ويجسدها الشمالي ورجاله وسلطة الدين ويمثـلها الفقيـه وفي صلب التجاذب بين السلطتين هناك ضحية هي الطبقة المتقفة (السي المختـار ثم المعلمان أحمــد وفريد) وسط هذا المثلث تحفر الرواية أخدودا بارزا يستهدف الكشف عن زيف سلطــة المال "مال الحشـيش" وتشويه سلطة الدين داخل المجتمع القروي حيث تواطئ الفقيه مع رجال الشمالي والبحث عن موقع آخر ونشر رسالة العلم، هذا الأخدود لم يكن سوى شخصية اجتمعت لديها بلاغة الإسم (أحمــد) وعنف الفعل، فمنذ نعومة أظافره صعد القمة وأحس إحساسا مختلفا عما صرح به زملاؤه، وهوالذي لازم السي المختار رغم معارضة أسرته...
الصوفي الروائي
أليست الرواية في نظر كونديرا هي صيغة نثر عظيمة يقوم المؤلف باكتشافها عن طريق دوات تجريبية شخصيات ببعض تيمات الوجود الرائعة.
تحتفي رواية البوار بالإنسان وقوته ونكشف عند استرسال في قراءة مقاطعها بنقلات صوفية تذكرنا بنفس الحلاج وابن عربي... وتلتبس هذه النقلات بوصلات فلسفية تغوص في الفلسفة الوجودية بالمكون المعرفي والعجائبي للخطاب الصوفي على أساس أنه وسيلة بليغة في وصف تناقضات الواقع أوالتعبير عن لاواقعيته وعزل واقع الجهل الذي يولد الإنهزامية والإنكسار، إن الشخصية التي تعتبر منبعا للمعرفة في الرواية هي السي المختار وهي التي ستتحول إلى مصدر للغرابة ثم ستختفي لتظهر في صورة أحمد السارد.
إن أحمد يشبه إلى حد ما العراف السي المختار، فهوشخصية في الحدث ويتمركز باعتباره محركا للأحداث في القصة إنه يعرف ويمنح لغيره ولنفسه المعرفة، وهذا هوالجانب الذي يختلف فيه عن أحمد، لأن مسار تحقيق المعرفة التي هي بمثابة التوازن الذي يحقق للذات واقعيتها واستقرارها يظل هاجس اعترافات وبحث أحمد عن الحقيقة مقابل اللامعرفة التي تحقق إنهيار الذات ولا إستقرارها المتمثل في سكان القرية وتتشكل تلك العلاقة بين ما هوصوفي وما هوروائي على الشكل التالي :
الصوفي ـ الروائي
المعرفة ـ المعرفة
رمز ـ تمويه
تداخل الظاهر والمضمــر ـ تداخل الواقعي والوهمسي
فعل القول والتلقين والتصرف ـ فعـل التخييـل والكتـابة
إن السي المختار الذي يمثل الصوفي في الرواية ينقل المعرفة عبر رموز غامضة تؤدي إلى تداخل الظاهر والمضمر في فكر أحمد (السارد) من جهة وتضفي غموضا تاما عند أهل القرية الذين لم يصلوا بعد إلى مستوى استقبال هذا النوع من المعرفة وبذلك فهويستأثر بفعل القول والتلقين والتصرف في أحداث الرواية مباشرة في مقاطعها الأولى ثم بطريقة غير مباشرة عبر شخصية البطل أحمد وقد تجسدت هذه المعرفة في الرواية على صورة تشكيل فسيفسائي استتطيقي عبر تقنية التمويه الذي ينتج لنا تداخـلا بين الواقعـي والوهمي عبر فعل التخيل والكتابة الذي تمارسه المؤلفة.
وهكذا يمثل نصر حكاية السي المختار سردا إختزاليا لأحداث الرواية، إنه بمثابة انزياح (شاهد) يمتد في أعماق الرواية عبر تلبس أحمد بهذه الشخصية ومصدره النص المكتوب فهوجزء من كتاب مفرود يلج النص الروائي منسوخا بشكل مباشر على شكل شاهد وسمة ذاكرة، وهوينتقل كما كان عليه في فضاءه إلى فضاء الرواية عبر التضمين.
اشتغال التناص في الرواية
إن كل فعل تناص حسب زيما "P.zima يكتسب صفتا تذاوتية intersubjectiveفي المقياس الذي يهتم بالدوات الإجتماعية وإيديولوجياتهم المتمظهرة على المستوى النصي " وانه بامتصاص الرواية لهذه النصوص وبعض التمظهرات الإجتماعية للغة تستطيع الكتابة أن تصوغ خطابا نقديا متميزا وتسخر من خلاله من القيم وتأخذ مكانها اتجاه بعض المصالح الإجتماعية، فمن خلال الحكي وعبره مثل خطاب المثقف الذي يأتي على لسان شخصيات عاشت في الهامش - خطاب الهامش - كمرادف لخطاب المتقف وهده الشخصيات يمكن اختزالها في سي المختار الذي يمثل جيل النظال الذي هزم الإستعمار، وأحمد السارد المعلم فريد اللذان يمثلان جيل التحول والطفرة. فخطاب سي المختار يتأسس على فعل تلقين المبادئ والمعرفة بصورة مباشرة من موقع فقيه القرية للأطفال، وهنا نستشف هدا الخطاب في جلسات أحمد مع الفقيه وفي المقابل نجد خطاب الجهل والإنغلاق والإنطواء ويتمثل في منع اهل القرية ابناءهم من ارتياد حلقات الفقيه. وعندما يغادر هدا الأخير القرية يتحول هدا الخطاب إلى مقاطع إسترجاعية تطفوا على بنية الرواية عبر الإسترجاع الذي يممارسه أحمد في مختلف المشاهد التي يحكمها منطق الخطاب المقابل وهوالمهيمن خطاب (خطاب المال والجـــاه والحشيش) وهنا نلاحظ تصاديا لخطابين متناقضين (خطاب الجهل / خطاب المعرفة) ويتولد عن هذا الصراع إنتاج خطابات موازية كخطاب إدانة العولمة التي لم يستوعبها فكر سكان القرية مما خلق تناقضاته الفادحة.
وتؤسس رواية البوار علاقة تناصية مع رواية من يبكي النوارس من خلال ملفوظ يمثل شخرية من القيم السائدة، جاء على لسان السارد:" أحلامك صغيرة أيها النورس الصغير بأي حذاء تحلمين؟ أبوك الآن يمكنه أن يشتري لك دراجة بل سيارة على مقاسك..."
من تكون إذن هذه النورس الصغير هل هي شخصية من شخصيات الرواية " من يبكي النوارس"؟ هذا ما سنعرفه عندما ستضع الكاتبة بين أيدينا الطبعة الأولى من روايتها.
باحثة مغربية