ثقافات

الفنار مرثية في ثناء الأمومة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


"نحن نؤمن إيمانا ً قاطعا ًبقدرات الممثل وقوة المخيلة. مسرحنا هو الجسد الأنساني، ولوازمنا المسرحية هي أي شيء بوسعه خلق تناغم بين الصورة والكلمة"فرقة مسرح (الفضاء الخالي)

علي كامل من لندن: ترى، هل بالأمكان إختزال رواية مزدحمة بالشخصيات مشبعة بالرموز والدلالات مثل رواية "الفنار" بزمن يستغرق ساعتان على خشبة المسرح؟ وهل يمكن العثور على بذرة في بنيةإعتمدت المونولوغ الداخلي والتداعي الحر والذكريات والأحلام لخلق لغة عرض درامية؟ وأخيرا ً، هل بوسع عرض كهذا إستعادة فضاءات فرجينيا وولف دون أن يسلب لذة قراءة الرواية وعذوبتها؟

جوليا ليمر، التي قامت بإعداد الرواية إلى المسرح، هي كاتبة ومخرجة مسرحية درامية تمتلك خبرة ومراس في إعداد وإقتباس النصوص الكلاسية، كما أنها تدرك جيدا ً سيكولوجية القارىء والمتفرج مثلما تعي الفرق بين بنية الرواية وبنية النص المسرحي، لذا ليس غريباً أن تقدم على خطوة من هذا النوع دون محاذير مسبقة.

لقد إختزلت المُعّدة فصول الرواية الثلاثة إلى فصلين حيث قامت بتكثيف مرّكز للسرد والمونولوغات الداخلية الطويلة وأعادت تنظيمها وتحويلها إلى دايلوغات درامية وزعتها بين أربع شخصيات رئيسية بدلاً من الشخصيات العشرة التي تضمنتها الرواية. أما في ما يتعلق بالراوي فقد شطرت التعليق إلى قسمين، الأول ثانوي يقوم بإداءه الكورس، أما الثاني والرئيسي فقد أحالته إلى شخصية الرسامة ليللي بريسكوي.
بهذا التكثيف الفطن والمتقن تكون جوليا ليمر قد أعدّت لنا عرضا ً أشبه بقصيدة مّغناة.

(رواية السيرة الذاتية)

كانت فرجينيا وولف قد أسست هي وزوجها الناقد والكاتب ليونارد وولف تجمعاً ً أدبياً ً يدعى "مجموعة بلومزبَري" ضم نخبة من المثقفين ممن أعلنوا تمردهم ضد قيود الأدب الفكتوري وعزلته وناهضوا كلأشكال التابو الذي ساد القرن التاسع عشر. ففيما كانت الرواية الفيكتورية تؤسس حبكاتها الصاخبة والعاصفة على سرد الأحداث ووصفها أفقيا ً، إتجه الروائيون الجدد صوب الأعماق ليؤسسوا حبكات جديدة أخرى تتفادى الثيمات الميلودرامية والبناء الطولي للحبكة وتنشغل في تأمل الذات والغوص في أعماق الحياة الداخلية للفرد بإعتمادها عناصر تقنية جديدة كالمونولوج الداخلي وتيار الوعي حيث التداعي الحر بأسلوب يكاد يتماوج بين النزعتين الغنائية والسيكولوجية معا ً.
روايات وولف تندرج عموما ً تحت هذا الأتجاه فهي عبارة عن بورتريهات لشخصيات مرهفة حزينة وحيدة ومنعزلة. وإذا ما أردنا مقارنة رواية "الفنار" مع روايات ديكنز الأخيرة مثلا ً، فسنرى بجلاء تلك المسافة الشاسعة التي قطعتها وولف وهي تنأى بعيدا ًعن مفاهيم الأدب الفكتوري وأشكاله التقليدية العتيقة.

***

"الفنار" هي سيرة ذاتية لطفولة الكاتبة ومراهقتها المّعَذبة ومرآة تعكس التوترات الحادة في علاقتها بوالديها، وما شخصيتا السيدة والسيد رامزي إلا صورتان تتماهيان وشخصيتا جوليا ستيفن (والدتها) والسيد ليسلي ستيفن (والدها). أما الطفل جيمس والرسامة ليللي فيشكلان معا ً صورة لطفولة وولف وشبابها.

إن علاقة الحب والثقة والأعجاب المتبادل بين فرجينيا وولف ووالدتها من جانب، وتلك العلاقة المتوترة بين والديها من جانب آخر، دفعا بها لأن تعيد رسم بورتريه الأم في ثلاث روايات. ففي رواية "الليل والنهار" نعثر عليها مجسدة في شخصية السيدة هيلبري، وترتسم ملامحها في رواية "الإبحار" عبر شخصية هيلين، أما في "الفنار" فنجدها في شخصية السيدة رامزي بالطبع. ليس هذا فحسب، إنما أصبحت العلاقة التي تربط بين والديها تكاد تكون محورا ً لجميع العلاقات التي تربط بين الرجال والنساء في رواياتها.
في دفتر يومياتها كانت دونت وولف بعض العقبات التي واجهتها في كتابة "الفنار" ولاسيما تلك التي تضمنت مخاوفها من إستعادة موت والديها والأحداث التي عجلت من إنهياراتها العصبية الحادة والمدمرة آنذاك، إلا أنها رغم ذلك كانت تدرك جيدا ً المغزى العظيم لهذه الرواية في قدرتها على إستعادة طفولتها التخييلية، فقد كتبت خلال مراجعتها الأخيرة للرواية عام 1926 تقول:"رؤيتي الحالية أن هذهالرواية ببساطة هي أفضل كتبي"، ذلك التخمين الذي يكاد يتفق مع معظم آراء النقاد. أما بعد نشرها الرواية فقد كتبت تقول:"لقد كان والديّ يستحوذان على جُل تفكيري بشكل مؤذ وخطير، لذا أصبحت الكتابة عنهما شيئا ً ضروريا ً".
كان عمر فرجينيا وولف خمسة وأربعين عاما ً حين كتبت "الفنار"، وحين توفيت والدتها كان عمرها إثني عشر عاماً ً. في هذه الرواية تموت السيدة رامزي وعمر ولدها جيمس في سن فرجينيا تماما ً.

تستأنف الكاتبة هنا ثيمة الزواج والعائلة وهي الموضوعة الأثيرة إلى نفسها والتي بدأتها في روايتيها "السيدة دالاوي" و"غرفة يعقوب" إلا أن أحداثها هذه المرة لاتدور ضمن إطار مجتمع لندن التجاري الصاخب، إنما في إطار من العزلة.
على الرغم من أنها مرثاة أو قصيدة تأملية كرّستها وولف لذكرى والدتها، إلا إننا يمكن أن نعثر فيها على ثيمات جريئة وفطنة لطرح مشاكل المرأة وأساليب التعامل معها داخل المنزل وخارجه عبر الكشف عن قوانين الزواج الصارمة وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وكذلك العقبات التي كانت تقف دون ممارسة النساء العمل لاسيما في ميداني الأدب ولفن.
عموما ً، الرواية، بكلمة أخرى، هي مزج عذب ومتقن لعناصر السيرة الذاتية والهموم الأجتماعية والقضايا الفلسفية معا ً.
إن التكنيك الخاص برواية السيدة دالاوي يتكرر هنا ثانية إلا أنه يحملنا هذه المرة إلى مسافة أبعد. ففي السيدة دالاوي نجد أن ثمة عنصران تكنيكيان أساسيان يوحّدان تلك الرواية وهما: أولا ً، التركيز على وجهات النظر المتباينة والأحكام الشخصية المختلفة بشأن الشخصية الرئيسية، وثانيا ً، إستخدام الذكريات والتداعيات كوسيلة سردية. هذان العنصران يتكرران في رواية "الفنار" لكنهما يعملان بشكل مستقل. ففي الفصل الأول نرى شخصيتا السيد والسيدة رامزي من خلال عيون ولدهما جيمس وأصدقائهم تشارلس تانسلي ووليم بانكس وبقية الضيوف. أما في الفصل الثاني فإننا نلحظ الجانب الآخر المحايد من شخصيتيهما معكوساً ً من خلال ذاكرة الخادمة مانكاب، على الرغم من عفوية وبساطة ذاكرتها. وتواصل الذاكرة من بعد وظيفتها عبر ذاكرة الرسامة ليللي بريسكوي وهي تعيد لنا تشكيل صورة السيدة رامزي من جديد.

(عالمان متوحدان منشطران)

لقد تناولت رؤية العرض هذه الثيمة من منظور أمومي عبر تسليطها الضوء على تلك التناقضات والتعقيدات التي مازالت تحكم العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة، ليس بسبب تداخل مسؤولياتهم الأجتماعية، إنما بسبب القطيعة والعزلة القائمة بينهما. فلقد أبرزت بجلاء تلك التعارضات الحادة من خلال موشور الطباع عند الجنسين، فالرجال ظهروا على الدوام ميالين للنزاعات والشقاق، فيما النسوة كنّ متوحدات أبدا ً. العقلية الذكورية بدت لنا متغطرسة مستبدة ومتشائمة يقابلها من الركن الآخر العقلية الأنثوية وهي تبتكر الصمت الشعري والآمال ولحظات التأمل والحلول والأحتمالات. الرجال كانوا يقيمّون الحقائق فقط من منظور التفوق والغلبة سواء كانوا ناجحين في سعيهم ذلك أو فاشلين، أما النسوة فكن يضعن قوة البصيرة والرؤى الجمالية والهارموني والألوان في المقام الأول.
مواصلة السيد رامزي لنشاطه الفكري هنا لم يكن الهدف منه تحقيق المعرفة ذاتها، إنما كان بمثابة إستجابة لزهوه ونرجسيته. في المقابل، كانت السيدة رامزي تكافح بعناد وتضحية من أجل خلق ذلك الهارموني الهش القائم مابين الرجل والمرأة، لذا ظهرت أمامنا أشبه بجسر حميم لربط تلك الضفاف المتقابلة والمتباعدة أبدا ً. لقد كانت تلك السيدة تدرك مالايعيه زوجها، فهو يعتقد مثلا ً أن الناس ينبغي أن يحيون فقط من خلال الحقيقة والمعرفة، فيما كانت ترى أن المرء وجب أن يحيا عبر الأمل والصدق والمحبة متمثلا ً ذلك في حب الأبناء والآخرين، لا في حب المعرفة والحقيقة المجردتين، ذلك القناع الذي يحجب نرجسية رجل العلم وغطرسة المفكر. إن حب الآخرين والحفاظ على ماتبقى من هشاشة الروح الأنسانية هو ماكانت تسعى إليه السيدة رامزي، لكن، مع ذلك، هي مثل السيدة دالاوي لاتعثر على تلك الحياة الرحبة إلا في نطاق العزلة، وهذا هو الرعب الذي كان يجلبه صوت البحر طوال مدة العرض.


(تحليل الشخصيات)

الشخصيات الرئيسية في هذا العرض الألق تتمثل بالسيدة رامزي، الزوجةالنموذجية التي تتحدر من الطبقة الوسطى الفكتورية، والأم التي تكرس وقتها لأفراد العائلة والأصدقاء حتى آخر لحظة من حياتها (لعبت الدور الممثلة بيتي كرانمر). إنها الشخصية التي أطلق عليها أحد النقاد بـ "المضّيفة الميتافيزيقية"، فهي ليست خبيرة في تهيئة حفلات العشاء لزوجها وأبنائها وضيوفها فحسب، إنما لديها قدرات مذهلة على توطيد الأشكال الأثيرية لتبادل الأفكار والمشاعر بين من يحيطونها.
إن هذه السيدة تعثر على دلالة ما لحياتها فقط عبر فقدانها الحياة!. حبها للآخرين وبصيرتها العميقة في معرفة أسباب آلامهم ليس مصدره الفضول الغبي، إنما هو رغبة حقيقية في جعل الآخرين سعداء، ولهذا السبب نراها تبدد كل لحظة من حياتها من أجل تحقيق تلك السعادة ودون أسف.
لقد جسدت الرؤية الأخراجية وعبر هذه الشخصية مفهوم الطيبة بمحتواها الأنساني وشكلها الخلاق، والسيدة رامزي بدت أمامنا وهي تتمتع بصفات عظيمة أخرى غير الطيبة، كالحدس والشجاعة. فما فائدة الحب دون شجاعة؟. إن صوت الحب لايمكنه حقا ً أن يعلو من دون شجاعة، لذا فهي حين تموت لايثير موتها فينا الأحساس بالرثاء أو الشفقة، إنما يفجر فينا مشاعر مأساوية من نوع آخر، لأن هذه السيدة أصبحت، بمعنى من المعاني، أشبه ببنية ضوئية حية رغم غيابها. إنها تغرق في وحدتها وتخفي شخصيتها في العتمة كي تمتحن بهذا الغياب إحساس الآخرين بالوحدة والأئتلاف. لقد تحقق الهدف الذي كانت تسعى إليه فيما لم تقدم لنفسها أي هدف ذاتي آخر.
السيد رامزي هو الشخصية الرئيسية الثانية في العرض، المفكر الميتافيزي البارز والشخصية المستبدة والشكسة التي تذكرنا كثيرا ً بشخصية بيتر والش في رواية السيدة دالاوي (لعب الدور الممثل ستيف برامويل). فقدان الثقة بالنفس بسبب الإحباطات المتلاحقة في عالم الفكر وهموم المهنة وكذا خيبات الأمل الكثيرة الأخرى، جعلت منه شخصاً ً منعزلا ً أكثر منه شخصية غريبة الأطوار، لذا نجده يكرس جُل وقته لبحوثه العلمية، كنوع من العزاء. أما فشله في تحقيق أهدافه الذاتية المحدودة فمصدره بلاريب رؤاه التجريدية تلك ومزجه المشوش بين الذات والبواعث.
إنه يدرك جيدا ً حجم السعادة ان يمتلك المرء عائلة رائعة مثل عائلته لكنه مع ذلك ينزع الى معاقبة زوجته وأبنائه وضيوفه عبر مطالبه المتواصلة للتعاطف مع رؤاه ووجهات نظره. إن أكثر مخاوفه تعقيدا ً هي إحساسه بأن عمله تافه وعديم الأهمية ومن الممكن جدا ً أن لايتذكره أحد في المستقبل.
السيد رامزي هو على النقيض من زوجته، ففي الوقت الذي تتعامل السيدة رامزي بصبر وكرم وبدبلوماسية مع الآخرين نجده على الدوام سريع الغضب أناني وفظ. ومع ذلك ثمة جانب تهكمي وكاريكاتوري في هذه الشخصيته يتجلى في تلك النرجسية والغطرسة ونوبات الغضب، وهو الجانب الذي يرشق الأحداث بظلال من الخفة والتنوع.

أما الشخصيات الثانوية، فبإستثناء الأبن جيمس وشقيقته كام، الجميع هم ضيوف للعائلة: تشارلس تانسلي، وهو شاب سيء الطباع غير أنه مع ذلك يمتلك مقدرات عقلية فائقة تؤهله لنيل رعاية السيد رامزي نفسه، وهذا البورتريه صممته وولف للتعبير عن ذلك النوع من الرجال الجوف ضيقوا الأفق. فهو شخصية مرتابة وشائكة وإنسان بغيض يشعر على الدوام بعدم الأمان بسبب خلفيته الوضيعة. إنه يزدري الآخرين دائما ً لاسيما ليللي فهو يضع موهبتها وانجازاتها موضع الشك. " ليس بمقدور النساء ممارسة الرسم والكتابة" هكذا يفكر الفيلسوف الشاب تانسلي. سلوكه الرديء الشبيه بسلوك أستاذه، السيد رامزي، دافعه الحاجة لإعادة الطمانينة إلى النفس.
الضيف الآخر، وليم بانكيس وهو صديق قديم للسيد رامزي ونسخة منه إن لم يكن مرآة تعكس رؤاه وسجاياه.
ثمة ضيفان شابان هما منيتا دويل وباول رايلي اللذان تربطهما علاقة حب مشوشة يتماهيان إلى حد ما مع آرثر فينتك وسوزن وارنغتون في رواية "الإبحار". أما الضيف الرئيسي والشخصية المؤثرة في مسارات العرض والرواية على حد سواء، فهي الرسامة وصديقة العائلة ليللي بريسكوي (لعبت الدور الممثلة فكتوريا بلام).
رفضها الزواج وإصرارها على ممارسة المهنة التي تريد هو بمثابة تجسيد لبعض تلك المبادىء الجوهرية التي دافعت عنها فرجينيا وولف.


(دلالة الزمان والمكان والأشياء)

ثمة معالجات ساحرة للمكان والزمان والأشياء هنا، فهذه العناصر حسب وولف هي ليست كتلا ً آلية مجردة صماء، إنما هي ترجيعات ومرايا تعكس طباع الناس وأمزجتهم.
"المكان" هنا يشكل البنية التي تتجمع فيها خيوط الأحداث، فمنزل عائلة رامزي القابع فوق جزيرة نائية، كئيب ومنعزل مثل ساكنيه. في القسم الأول (النافذة) تطل علينا لوحة تتضمن عالمين متجاورينومتباعدين في ذاتالوقت. (عالم الداخل) الذي يطل على مايجري في الخارج عبر النافذة، وهو مكان صغير أشبه بالرحم، مليء بالدفء والأمومة والعطف والإيثار والتسامح والطيبة، وهو العالم الذي تقطن فيه السيدة رامزي مع صغيرها جيمس. يقابله (عالم الخارج) الذي يحتله السيد رامزي وأصدقاؤه في أحاديثهم التي لاتنتهي حول السياسة والعلم والأعمال، وهو مكان إسمنتي صارم بارد وأجرد.
في القسم الثاني (الزمن يمضي) يصبح المكان موحشاً وكئيباً بعد إن يتخلى عنه أصحابه، فبعد موت السيدة رامزي يغادر الجميع المكان. إلا أنه يتخذ له دلالة ذكورية واضحة في القسم الثالث (الفنار) حين يتوجه السيد رامزي وأبناؤه صوب الفنار.

أما "الزمان" فهو ساكن وثابت في الفصل الأول، كما لو أنه ترجيع أو إستجابة لرغبة السيدة رامزي لأنها لاتريد أن يمضي الوقت ومعه يكبر الأبناء ويتلاشى عالم الطفولة العذب الذي خلقته ومعه أيضاً يذهب المنزل الذي ملأته بالدفء والحنان والضجيج والضحك.
لقد بدا لنا كل شيء (خارج) السيدة رامزي، "المنزل والعائلة والأصدقاء"، قد إمتلك وجودا ًحقيقيا ً فقط في (داخل) هذه السيدة، لذا يمكننا القول أنها تمثل الوحدة التي تشكل ديمومة الجميع لمواصلة وجودهم.
إن الزمن الذي تتوق إليه السيدة رامزي هو زمن تأملي، فلقد ظل ساكناً ً لغرض أن ندرك أن وجودها الحقيقي هو ليس في كل تلك الأشياء، "المنزل والعائلة والأصدقاء"، إنما في ذلك الصمت وتلك العتمة التي تغرق فيهما حين تكون وحيدة. هنا تصبح "اللحظة" شيئاً سرمدياً ً. حين تغرق السيدة عميقا ً في عتمتها عندذئذ تتلاشى لديها كل رغبة في العودة إلى السطح ثانية حتى وإن كان ذلك بإلحاح من الزمن نفسه!.
إلا أن الزمن يمضي بإتجاهات متضادة في الفصل الثاني، فالسيد رامزي وأبناؤه يتوجهون صوب "المستقبل" متمثلاً في الفنار، فيما تتقهقر ليللي إلى "الماضي" لتعيد لنا رسم بورتريه السيدة من جديد.
عموماً يمكن القول أن بنية الزمن هنا لاتخضع إلى أية آلية كرونولوجية، إنما تتمحور حول نفسها بشكل حلزوني.

"الأشياء" هي الأخرى تتضمن دلالالتها وشفراتها عند فرجينيا وولف. فالماء مثلا ً يتكرر في ثلاث روايات لها هي "الأمواج" و "الإبحار" و "الفنار"، بل يمكن القول أن الماء يكاد يشكل الرمز المركزي لجل أعمالها، فهو بمثابة الرقة والنعومة والتوحد والتأمل.. إلخ.. أما الغرق فيه فلا يحمل معه دلالة الموت، إنما يحمل مغزى عميق لحياة أخرى.(*)
والماء في "الفنار" يمكن أن يكون أيضاً مجازاً ً للأنوثة، مقابل الفنار الذي يمكن أن يكون ترميزا ً للذكورية كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفا ً. والفنار يأتي ترميزه ربما بشكل يتعارض تماما ً مع دلالته الواقعية، فهو ليس النبراس والهداية بقدر ماهو العتمة والمتاهة، العدم وليس الجوهر.
الفنار هو المخيلة التي يمكننا عبرها فقط نقل إحساسنا بالواقع. بمعنى، أن الحياة هنا تكتسب مغزاها ليس في العمل فحسب إنما في الوجود، والوجود يعني الغوص عميقاً ً في العتمة، وهذا هو بالضبط ماكانت تحسه السيدة رامزي في عزلتها من دون أن تفهم ذلك تماما ً!.

(دور الفن في إستعادة الأحلام المفقودة)

الرسامة ليللي بريسكوي (فكتوريا بلام) شخصية محورية وجوهرية سواء في الرواية أو العرض.
في تعليقها على الأحداث هي وشخصية وليم بانكيس (الممثل جيم بيك) لم يجسدا فقط وجهتي نظر الرجل والمرأة نحو العالم، إنما كانا يعكسان أيضاً ًوجهة نظر أخرى هي بمثابة المعادل الفلسفي للكورس اليوناني.
إن إختيار وولفأن يكون معلقها الرئيسي رساما ً، حتى وإن كان رساما ً رديئا،ً هو شيء لافت للنظر حقاً ً. إنها عين الفنان وحدسه وهما يضيئان العالم الداخلي للسيدة رامزي ومغزى وجودها. في رسمها لبورتريهالسيدة إنما أرادت ليللي أن تردم الثغرة التي تركتها تلك المرأة بعد رحيلها، فهي تنبثق من ذاكرتها أشبه بمائدة المطبخ التي كانت تعد عليها الطعام للجميع، لكنها المائدة هذه المرة عبارة عن منضدة مشققة السطح وضعت عليها شوكة مصنوعة من خشب شجرة الأجاص.
إن ليللي تغور في ذاكرتها عميقاً ً من أجل أن تستخرج صورة تلك المائدة بمظهرها الكئيب ولحاء خشبها المهترىء. فهي تواصل رسم الصورة لأعوام وأعوام طويلة، وهي كما يبدو، الطريقة الوحيدة لأستعادة تفاصيل تلك الأحلام المفقودة.
إن إكتمال الصورة تفرضه هنا وحدة الفن، والفن هو ليس الحياة، لأن الحياة تتضمن الوحدة فيما الفن يتضمن الدلالة، وهذا هو سر هذه المعالجة الأخراجية.
إذاً، فالقوة الموّحِدة تلك التي تلاشت مع موت السيدة تعيدها لنا ثانية عين الرسام:"لقد كان منزلا ً يعج بعواطف غير موحدة" هكذا كانت تشعر ليللي بريسكوي في تلك الأمسية.

السيدة رامزي وليللي هما شخصيتان متعارضتان تماما ً. ففيما الأولى تمثل القيم التي تؤمن بأن النساء خلقن من أجل الزواج والتأقلم مع أنانية الرجال وإستبدادهم وكذا الأهتمام بالآخرين والتوافق مع الجميع، وهي القيم التي كان قد رسخها النظام البطريركي آنذاك، نرى الثانية في المقابل تمثل حالة الرفض والتمرد ضد تدعيم أنانية الرجل وإستعباد النساء وقمع قدراتهن.
السيدة رامزي تفكر أولا ً ثم تتكلم ومن بعد تفعل. في تفكيرها تشعر بالإرهاق والضجر والحزن كما لو أن حياتها لم تنتج شيئا ً، وحين تتكلم فإن كلماتها تكون موجهة مباشرة للآخرين. أما حين تفعل فإنها تحس أنها تنجز واجبا ً مقدسا ً.
ليللي تحطم كل تلك القواعد. انها شخصية مستقلة ومتعلمة تمتلك موهبة في فن الرسم وهي ليست حبيسة المنزل وتبعاته كالسيدة. لقد كانت تشعر بشكل متواصل بوطأة ضغط السيدة عليها في تدعيم أنانية الرجل سواء بالزواج من وليم أو التخلص من نوع الأستقلالية تلك. فهي تعلق على رسوماتها مثلا ً بقولها: "إنها غير متزوجة ولايمكن للمرء أن يأخذ رسوماتها مأخذ الجد". وفي مكان آخر يعلق الراوي قائلا ً:"إنها مخلوق صغير مستقل والسيدة تحبها لهذا الشيء".
واقع الأمر إن ليللي والسيدة رامزي هما بمثابة مجاز لشخصية واحدة مشطورة إلى قسمين. الأول مقموع والثاني متحرر.
إن السيدة رامزي تتوق إلى نوع الحرية التي تتمتع بها ليللي لكنها لاتستطيع. إنها ترفض تلك الحرية فقط لأنها لاتستطيع الحصول عليها. لذلك لايمكن تحقيق الطموحات المقموعة للسيدة رامزي إلا بموتها، فبعد موتها فقط تستطيع ليللي حقا ً أن تنجز تلك الرغبات اللاشعورية للسيدة.

***
الفرقة المسرحية الجوالة Empty Space (الفضاء الخالي) التي قدمت هذا العرض هي تجّمع إبداعي خلاق يؤمن إيماناً قاطعاً بقدرات الممثل وقوة المخيلة. فمسرحهم هو الجسد الأنساني مجسداً بالممثل، أما لوازمهم المسرحية فهي أي شيء بوسعه خلق تناغم بين الصورة والكلمة.
أربعة ممثلين فقط من تناوبوا على لعب جل شخصيات المسرحية مضيئين لنا هذا الفضاء الشعري العذب لـ "فنار" فرجينيا وولف.
كان العرض أشبه بقصيدة رثاء تحكي معاناة المرأة هذه المخلوقة العذبة، وتحكي ايضاً ًعن هشاشة العلاقات التي تحكمها القوة والنرجسية والأستبداد، لكنه من جانب آخر أيضاً ًيحكي عن تلك الطاقات الهائلة التي تكتنزها الذاكرة وهي تعيد لنا بناء أحلامنا المفقودة.

***

الممثلون:

بيتي كرانمر بدور: ليللي بريسكوي، كام رامزي، منيتا دويل وعضو كورس.
ستيف برامويل بدور: السيد رامسي، تشارلس تانسلي، عضو كورس
فيكتوريا بلام بدور: السيدة رامزي، كام رامسي (في مراهقتها)، عضو كورس.
جم بيك بدور: جيمس رامسي، وليم بانكس، باول رايلي، عضو كورس
العمل من إخراج أندرو هولمس.

(*)
نحن نعرف أن فرجينيا وولف ماتت غرقا ً، فقد إستيقظت فجر أحد الأيام من عام 1941 وعبأت جيوبها بالحجارة الثقيلة ونزلت إلى "آوس" النهر المقابل لمنزلها وأنتحرت غرقا ً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف