ثقافات

طبيعة الرقابة على نشر الكتب العربية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حسن ناظم: ما زالت مؤسسات الثقافة الحكومية في العالم العربي تُعامل الشعوب العربية على أساس أنها شعوب قاصرة، لا تميّز بين ما ينفعها وما يضرّها. فتؤسس نيابةً عنها هيآتٍ ولجاناً لترى ما ينفع الأمة من أمور وما يضرّها، ومن بين هذه الهيآت واللجان هيآت ولجان الرقابة على نشر الكتب.
ويبدو الوضع لي الآن كالآتي: كلما أمعنت الأمم المتحضرة في "الضحك من جهلنا"، أمعنا في سدّ نوافذ المعرفة، وقابلنا الضحك بالوجوه العابسة التي لا تجيز إلاّ ما يبدو لها أنه يتفق مع حساسيات كثيرة: دينية وسياسية واجتماعية وغير ذلك.
إن تاريخنا ينوء بثقل ذنب محاربة المعرفة والكتب، ومع ذلك يبدو هذا التاريخ نفسه، ومع نوئه بذلك الثقل، متحرراً إذا ما قورن بما يحدث الآن من حملات منع نشر الكتب، وسحبها من الأسواق، ومحاكمة كتّابها، وسجنهم، ونفيهم، وحتى تطليق زوجاتهم رغماً عنهم.
تداعت إلى ذاكرتي سلسلة فتاوى التكفير، والمحاكمات، التي واجهها كتّاب شجعان نتيجة ممارستهم التفكير الحر، وحقّ التعبير عن الرأي، وطرح كلّ الأفكار مهما كانت على بساط البحث. تداعت إلى ذاكرتي كتب طه حسين، وعلي عبد الرازق، ومنصور فهمي، والرصافي، والزهاوي في النصف الأول من القرن العشرين، ونصر حامد أبو زيد، وسيد محمود القمني، وغيرهم في النصف الثاني منه، وها نحن عند بدايات القرن الواحد والعشرين، ونأنف أن تمرّ سنواته الأولى دون خوض ملاحم من أجل صدّ الأفكار وانتشارها.
وآخر حلقة في هذه السلسلة الخشنة الكريهة منع كتاب الناقد البحريني البارز الدكتور نادر كاظم، وعنوان الكتاب "?استعمالات الذاكرة: ?دعوة للتعايش بين الجماعات والهويات في? ?المجتمع البحريني". والكتاب في الحقيقة، نُشر في جريدة الوسط البحرينية على شكل سلسلة من المقالات، ولقد كنت أتابع سلسلة المقالات تلك متمعناُ في طبيعة المعالجات التي يطرحها الدكتور نادر كاظم. وكنت أحياناً أجد أن الكاتب يحجم عن متابعة بعض تحليلاته، ويقطعها حتى لا يصل، في نهاية المطاف، إلى الاصطدام بالمحذور، والممنوع. ومع هذه الحيطة، أستطيع القول إن الكتاب جريء نسبياً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الزمان والمكان واشتراطاتهما، والظروف التي تحفّ بالكاتب العربي إجمالاً، وطبيعة علاقته مع السلطة، ونظرة هذه الأخيرة إليه. فهو يفتّت بنية المجتمع البحريني بحثاً عن العلل والأمراض الاجتماعية، يشخّصها، ويدعو إلى علاجها، وهناك يقف عند حدود هذه العتبة من دون أن يجرأ طبعاً على تحديد العلاج المتعلق بالسلطة، ومن ذا الذي يجرؤ على القول إن السلطة مريضة، فيلجأ إلى المجتمع المريض ليقدم له العلاج، ويوحي للسلطة بأنه إنما يدعو إلى أفكار في صالح المجتمع ومن ثمّ بالضرورة صالحها.
لكن الأمر بدا للجنة الرقابة وإدارة المطبوعات غير ذلك. إذ أقدمت إدارة المطبوعات، مدفوعةً برُهاب الكتب النقدية، على منع نشر كتاب الدكتور نادر كاظم الكتاب "?استعمالات الذاكرة: ?دعوة للتعايش بين الجماعات والهويات في? ?المجتمع البحريني". ولم يشفع للكاتب أن كتابه إنما هو "?دعوة للتعايش بين الجماعات والهويات في? ?المجتمع البحريني"، ولم يكن حسّه الوطني الأصيل سوى شيء بحاجة إلى تأكيد وتزكية. الأمر الذي وجد بعض أصدقائه، مثل الكاتب محمد البنكي ورئيس تحرير جريدة الوسط التي نشرت الكتاب مقالاتٍ الدكتور منصور الجمري ومجموعة أخرى من المثقفين البحرينيين، أقول وجد هؤلاء ضرورة في التنبيه على الأصالة الوطنية التي يتمتع بها الكاتب، حتى يحسّ قارئ تلك التزكيات، إذا جاز التعبير، أن الكاتب متّهم حتى في نواياه، ولذلك هو بحاجة إلى آخرين يفصحون عن نواياه.
بهذه الحلقة في سلسلة منع نشر الكتب، نمنح فرصة أخرى للأمم الأخرى للضحك من جهلنا. وقبل ذلك، نرسخ المراقب وصيّاً على الثروة الفكرية التي نقدمها، ليقوم هو بمعالجتها حتى تنسجم مع فكر القراء "القاصرين" معرفياً بحسب وجهة نظر المراقب. إنها لكارثة أن نعيش كلّ حين أجواء "قرون وسطى" جديدة، نسمع كلمات من قبيل: هذا الكاتب كافر، وذاك زنديق، وذلك طائفي، وهلمّ جرا. إن الكتب أفكار، والأفكار لا تعالج بكبتها وكبحها ومنعها ووو، بل بمناقشتها، وإجراء حوار معها، وخوض جدل عميق من أجل ترسيخها أو دحضها.
إن منع نشر أيّ كتاب إنما هو انتهاك لمبدأ حرية التعبير أولاً، وإرهاب للكاتب ثانياً حتى لا يعود يفكر بالطريقة التي فكّر بها، وأزعج الرقيب، وهو ثالثاً استصغار واحتقار للقراء الذين يؤسس الرقيب شبكته الخاصة نيابة عنهم ليصفّي، بحسب اعتقاده، الأفكار لهم حتى يقدمها لهم مستساغةً وقابلة للهضم. إنه ينصّب نفسه مرجعاً مفترضاً أتباعاً جاهلين، ويبقى حبيس هذا الافتراض، الذي يستقيم لديه عملاً ومنصباً وحظوة وجاهاً، وبدونه سينهار شيئان (وهمان) موقعه كحارس للقيم، والقيم التي يحرسها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف