ثقافات

قصٌ برقي (2): غشاء النثر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

انظر: الحلقة الأولى


دنيا
كان يا ما كان حشرات تؤدي أعمالها من دون إحساس: لا عواطف، لا ابتسامة، ولا حتى دمعة. كانت تطير ذهاباً وإياباً من مستنقع مجهري إلى آخر! وعندما تُطفأ الأضواء وتأمن الطيور إلى أعشاشها والشحاذون إلى زواياهم، تغفو في ليل البشر النائم حالمةً بالسيطرة على كل هذا الفراغ الممتد.

غيبوبة
أخذَ ضجيجُ الآخرين يخفّ شيئاً فشيئاً. الكتابُ مفتوحٌ على صفحةٍ جاء في نهايتها: "كلُّ الأشياء الحيّة، الشجرةُ، الصحراءُ، ميلادُ الكلمة في القلب، اللمعانُ في الخارج، لها رائحة العدم". كانت النار تتأجج في المدفأة. وفيما أدرت عيني مفتشا عن علبة الكبريت لأضرم النار في المدفأة، رأيتُ أطيافاً تحملُني إلى السفح الثاني من الحياة. وما هي إلا هنيهة حتى انسلَّ الجسدُ الأثيري من الفيزيقي، وطفق يسوح في الهواء باتجاه مدينة أثيريا حيثُ، في غرفة أحد منازلها، أرى جسمي الفيزيقي جالسا وراء طاولة عليها إناء يفيض بنور رمادي سرعان ما يملأ الأرجاء، وفي غمرة هذا النور الساطع الذي كنت أسبح فيه، رأيت زرّا كان يكفي أنْ أضغطه فينفتح باب أعود منه إلى جسمي الفيزيقي. كانت النار في المدفأة تتأجج، وعلبة الكبريت لاتزال في يدي!

الابن الضال
سار على وجهه. كان هواء القرية يصْفُر بينما كانت عين جد كبيرة لم يرها تترصّده. كان يريد أنيعود إلى مسقط رأسه. لكنه راح يقضي أوقاته في استكشاف ما يتراءى مرمى البصر، تخفِضُهُ غيمةٌ وترفعه نجمةٌ حتى اخترق تلك العين ونام في بياضها. فكان له في الصباح اسم وتاريخ وقضية.

ظهيرة الانفجار
كتمثالٍ من حَجَر طلع الناسُ ثانيةً إلى الضوء... هذه المرة كان الشارعُ الذي وقع فيه انفجار عنيف هو موضوعُ اهتمامهم: في نظر البعض لا يزالُ معْلماً رغم الدمار الذي حلّ به، وعند الآخر مجرّد أنقاضٍ. وثمّة من يعتقد أنه من الضروري أخذُ صورة للشارع تُخلِّدَهُ في كتابِ التاريخ. "لكن"، قال مارٌ بهم، "أيّة أهمية الآن لكل هذا...!" لم يسمعه أحد، إذ كان الجميع قد عادوا إلى الطرف الآخر من الظل، بانتظار انفجار آخر يرفع عنهم بلاطة القبر.

في شرفةٍ صوفيّة
انقضت ساعات وساعات، وموج الأسئلة العاتي يتقاذفني، رحت أتشبّثُ بكل جواب يطفو، بينما الليل كان يتشظى بالنجوم. وجدتُني مُحاطاً بأخيلة تقوم من برزخ الانخطاف. انتفضتُ فجأة فاركاً عيني... وإذا بي أرى ظلالا مديدة تتلوى كالأفعوان كانت تهمس بشيء يشبه الأنين وهي تتساقط فوقي من نافذة شقة لا أعرف إن كان يسكنُها رجلٌ، امرأةٌ أو شبحُ أحدِ الذين ماتوا خلف متاريسِ زمنٍ ضاع.

فاتورة
في المطعم، ذات مساء، يطلب الزبائن طعاما لا يشتهونه بالضرورة. المرأة التي تجلسُ أمامي، غرق تفكيرُها في لائحة الطعام. لم ينتبه الخادم إلى ما قد طلبته. نظرتُه كانت تزوغ في القرار. جاءها بفخذِ دجاجة مشوية، قدحٍ من النبيذ، ملعقةٍ وشوكةٍ من الذكريات.

خريف البشر
ثمة ساحةٌ صغيرةٌ يفترقُ منها شوارعُ. كلُّ شارعٍ له بنايات. لكلِّ بناية سلالم ولكل سلّم نافذةُ زجاجٍ يعكس شجرةً بعيدةً تتساقط منها أوراقٌ على الأرض! قال حارس إحدى البنايات وهو يكنس الأدراج: "كلّهم الآن قد سقطوا، والخريف في أوّله"!

رواية بوليسية
كانت الجثة مرمية وسط الطريق، يسيل من صدغها دمٌ أسودُ وثمّة مسدّس ملقى جانبا على بعد متر واحد وورقة مطوية مدون فيها اليوم، الساعة، المكان واسمٌ معلومٌ بخط أصفر عريض. جاء مساء الشهود وأعقبهم ليل المحامين وطلع ألف فجر من التحقيقات دون أن يتوصّل أحدٌ إلى القاتل. كان مدى الوقتِ معهم!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
هداهدُ الرُّوح
صبري يوسف -

هداهدُ الرُّوح، تبلَّلَت قميصُ اللَّيل من سهر اللَّيالي، وقفَ القمرُ منتظراً عبورَ عاشقة من لونِ الشَّفق، تمايلت خاصرة الشَّمس الممتدَّة على مدى البصر، خطوط مخضوضرة بحنين الغابات تناثرَت فوق صدر غزالة برّية، تسابقُ نسيم الصَّباح، تبحثُ عن مولودٍ تقاذفته ألسنة نيران الحروب، أنينٌ مفتوح يداهمني، يدمي ظلالَ القلبِ، فواجعٌ تتكاثرُ مثل الأرانبِ، تتسلَّلُ إلى مغائرِ غربتي، حروبٌ في نهايات القرن، في بدايات القرن، حروبٌ على مساحات القلمِ، على مساحات فسحة الحلمِ، ضجيجٌ يشنفرُ الآذان ينزُّ في مفازات أوتارِ النَّغمِ؟! آهٍ، ماتت هداهدُ الرُّوح قبلَ أن ترى هشاشةَ الصَّنمِ!

حلمٌ مشروخ
صبري يوسف -

حلمٌ مشروخ، بكَت نجمةُ الصَّباح عندما لاح لها من فوق خواصرِ الجبال، اشتعال بسمة الأطفال وهم يَحْبُون نحو أمهاتهم اللواتي يصعدن نحو قمم الجبال، هرباً من طواغيتٍ مقمّصة باسودادٍ مشرشرٍ من أجنحةِ الوطاويط.

متعةُ العبور
صبري يوسف -

متعةُ العبور عبرت سفينة محملة بالأحلام، تمخرُ أسرارَ البحرِ، تهفو إلى الوصول إلى ضفافِ شاطئٍ مركون فوق أكتافِ مروجٍ مستنبتة من نداوةِ اللَّيل، ضحكَ البحّار ضحكةً مجلجلة عندما اصطاد صيداً ثميناً، سحب صنَّارته، ما هذا؟! قصائدُ شاعرٍ من لونِ حفاوةِ الموجِ، قصائدٌ معفرّة بملوحةِ البحر، قرأ القصائد بمتعة لذيذة، شعرَ وكأنَّها مندلقة من شهقةِ مرجانِ البحر!

لوحة طافحة بالوئام
صبري يوسف -

نهضَ من أعماقِ الذَّاكرة، مشهداً مكتنزاً بالعشب، طفلة تدحرجُ نفسها فوقَ منحدراتِ طراوةِ المروجِ، تطيرُ على مقربةٍ منها عصافيرٌ في غايةِ الجمالِ، كأنها عصافيرُ الجنّةِ، بيضاء منقّطة بازرقاق خفيف، ومخطَّطة باخضرار فاتح فوق صدورها الغضّة وفروة رؤوسها الصَّغيرة، طارت حمامة يانعة من عشِّها بصعوبةٍ واضحةٍ، تريدُ التدرّبَ على الطيرانِ، تعبَتْ وحطّتْ بهدوءٍ فوق كتفِ الطفلة الأيمن، أدارت الطفلة وجهها نحو الحمامة، ابتسمت لها، كأنها صديقة مدلَّلة، وضعَتِ الحمامة رأسها على خدِّ الطفلة، تبدو وكأنَّها تهمسُ لها سرَّاً من أسرارِها، كانتِ العصافيرُ تحومُ فوقها بغيرةٍ كبيرةٍ، مذهولة بهذا الانسجام المفاجئ!

نكهةُ النّعناع
صبري يوسف -

لملمَ حاجاته الضرورية، وضعها في حقيبةِ سفر، كان اللَّيلُ غائصاً في ألغازِ الرَّحيل، رحيلُ الإنسان في صباحٍ نديٍّ نحوَ جبالٍ مكلَّلة بأقاصيص القممِ والطموحِ، حائراً في رحلةِ عبورِ الإنسان إلى ما وراءِ البحارِ، بحثاً عن وسادةٍ مريحة لقفصِ الرأسِ، غالباً ما تكون رحلات مهتاجة على أجنحةِ الضَّباب!حالما عبرَ ساحة الدار، تراءَت أمامه ذكريات الطفولة، مشاكساته مع أخته، حبّه الأول، لقاءاته مع الأحبة الأصدقاء، دراساته، سارَ شاردَ الذّهنِ، تاركاً خلفه أوراقاً تداعب محطَّات عمره، كتاباته، أشعاره، دمعةٌ خرّتْ فوقَ خدّهِ، وأخرى انسابت نحوَ ظلالِ الرُّوحِ، تذكّرَ مناجاته لنجمةِِ الصَّباح خلال ليالي الصَّيف، حالماً في أوجِ المناجاةِ، أن يرتمي بينَ أحضانِ عاشقة تفوحُ منها نكهةُ النّعناع!

فوقَ ضفافِ القلب
صبري يوسف -

فجأةً قفزَتْ إلى ذهنه مشاهدُ تدريبٍ على دبكةِ "باكيِّة وآهي لا يوني"، من قبلِ مدرّبةِ رقصٍ طافحة بالحنان، تاركةً صدرها الحنون يندلقُ على مرافئ قلبهِ كلَّما يستديرُ ليتقدَّم خطوتين نحوَ الأمام، كم كان يتمنّى في حينها أن يمتدّ التدريب إلى مدى العمرِ، طالما كان يرافقُ ايقاعَ التَّدريبِ ارتعاشة لذيذة فوقَ ضفافِ القلبِ!

مَطَرْ مَطَرْ 7
صبري يوسف -

هطلَ المطرُ قبلَ انبلاجِ خيوطِ الدُّفءِ، نهضَ بتكاسلٍ نحو نافذةٍ يكسوها غربةً باذخةً، أزاحَ السِّتارة بهدوء، صمتٌ هجين بدأ يغلّفُ أجواءَ المكان، تراقصَتْ حبّاتُ المطرِ على أوجاعِ نافذتِهِ، تذكَّرَ بيتَه العتيق، كيفَ كانَ المطرُ يهطلُ بغزارةٍ هائجة، ينظرُ إلى "الرَّبيع"، إلى فقاعاتِ الدَّوائرِ المتشكِّلة من تدفُّقاتِ زخَّاتِ المطرِ، وتذكَّرَ مقطعاً عذباً، من أنشودةٍ طفوليّة كانوا يردِّدونها أثناءَ هطولِ هكذا زخّاتٍ مطريَّة، " مطرْ مطرْ رشّْ ..."، (: أيُّها المطر، أهطلْ على ضفائري، ...)، وفيما كانَ يردِّدُ هذه الأنشودة، تربَّصتْ دمعتان في محجريه، شهقَ شهيقاً عميقاً، متمتماً بصوتٍ ايقاعيٍّ خافت، "مطرْ مطرْ رشّْ ..."، أسدلَ السِّتارة، عائداً إلى نومِهِ، طافحاً في عبورِ خمائلِ الحلمِ، لعلّه يغفو على اِيقاعات حبّاتِ المطرِ التي تراءَتْ له من بعيد، مسربلةً بذاكرةٍ لا تمحى!