قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تحرير النص من غبار الزمن
روبرت ولسن يخرج "أوبرا القروش الثلاثة" لبرتولت بريشت
صالح كاظم من برلين: حين يلج راهب مسرحي مثل روبرت ولسن صومعة راهب آخر، في هذه الحالة برتولت بريشت، يزداد الحضور الإبداعي كثافة، خاصة في حالة وجود تناقض منهجي عميق بينهما سواء فيما يتعلق بالوظيفة الإجتماعية للمسرح أو بأدواته الجمالية، ناهيك عن إختلاف التجربة الحياتية لكل منهما عن الآخر، حيث كانت تجربة بريشت الحياتية مصاغة من خلال مواقفه السياسية والإجتماعية التي تتوجت بالهجرةالى أمريكا، ومن ثم العودة الى القسم الشرقي من ألمانيا لتحقيق حلمه في تأسيس فرقته المسرحية "برلينر انسامبل"، بينما أتسمت حياة ولسن المولود في العام 1941 في تكساس بطابع ذاتي يتطابق مع "طريقة الحياة الأمريكية"، حيث عاني خلال سنوات الطفولة والمراهقة من صعوبة النطق، ثم تمكن من تجاوزها من خلال تمارين صعبة بالتعاون مع الراقصة الأمريكية بيرد هوفمان في العام 1958. في هذه الأثناء أتم ولسن دراسة الإقتصاد والهندسة المدنية والديكور، وقام بتأسيس منظمة لمساعدة الأطفال المعاقين، غير أن رحلته المسرحية بدأت بعد مهرجان شيراز (إيران)، حيث قدم في سنة 1972 فعالية مسرحية تحت عنوان "جبل كا ومدرج غاردينيا" أستغرقت سبعة أيام، جذبت أنظار النقاد إليها لطابعها التجريبي غير المألوف، وتبعتها أعمال مهمة أخرى وضعته في صف كبار المخرجين الأوروبيين مثل بيتر بروك وأريانه منوشكين وغيرهم ممن ترك بصماته الواضحة على المسرح الحديث في القرن العشرين، ومن أهم هذه الأعمال: "حياة وأزمنة جوزيف ستالين" -1973 وأوبرا "آينشتاين عند الساحل"-1976 بمشاركة الموسيقار فيليب غلاس وغيرها من الأعمال المهمة التي تعتبر مادة غنية للكثير من البحوث في مجال المسرح والمجالات الفنية الأخرى التي تشكل جانبا مهما من العمل الإبداعي لروبرت ولسن ومنها الرسم والمعمار والتصميم الفني. وربما كان هذا التنوع في العمل الفني الذي يصب في أعمال ولسن على خشبة المسرح هو ما يميزه عن غيره من المخرجين المسرحيين، ويجعل عمله بعيدا عن الإنتهاكات الإيديولوجية والتفسيرات التبسيطية لوظيفة الفن.
من هذا المنطلق فأن تكليف روبرت ولسن من قبل "البرلينر انسامبل" بإخراج مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" لبريشت التي وضع موسيقاها كورت فايل جاء مفاجأة للوسط المسرحي الألماني الذي يتعامل مع أعمال ولسن من ناحية كونها تشكل مختبرا فنيا بعيدا عن الوظيفة الإجتماعية للمسرح، ذلك علما بأنه قد سبق لولسن أن أخرج في عام 1998 عملا لبريشت على خشبة المسرح ذاتها بالإرتباط مع نص هاينر ملر "منظر طبيعي وبحارة آرغوس" ومقاطع من رواية دوستويفسكي "الإنسان الصرصار" وهي المسرحية التعليمية "عبور المحيط"، مسقطا عنها الطابع البطولي، ومحيطا إياها بما يعكس كارثة الإنسان في القرن العشرين في مواجهة الطبيعة، في إطار يتوافق مع نهج المخرج الإختزالي.
في الحصيلة فأن "أوبرا القروش الثلاثة" المبنية على "أوبرا الشحاذين" للكاتب الإنجليزي جون غاي (1685-1732)، كانت وما زالت تعتبر في عرف محبي بريشت نموذجا للمسرح الملحمي المبني على أساس التغريب والسعي للبحث عن الحقيقة عن طريق الشك بالمألوف وتطبيع اللا مألوف: "ماذا يعني نهب بنك مقابل تأسيس بنك؟"، حيث أنها تغور في أعماق الواقع من خلال شخصيات تقف في أدنى درجات السلم الإجتماعي، وتسعى للحصول على قطعة من "التورتة" عن طريق الإحتيال والمراوغة و السرقة في مستواها الأدنى. هنا يبدو خطاب بريشت على مستوى السطح خطابا سياسيا، غرضه الأساسي هو إدانة المجتمع الرأسمالي وتعرية أسسه. غير أن هذا سيكون تجنيا على هذا العمل الذي يمكن إعتباره، بشكل ما، عبثيا، يحتوي على تساؤلات أكثر عمقا حول معنى الوجود والقدر الفردي للإنسان في مواجهة آليات المجتمع، مؤطرا بموسيقى كورت فايل المحملة بتأثيرات موسيقى الجاز والـ "ميوسيكال". وربما كان هذا هو ما جذب روبرت ولسن لخوض مغامرة كهذه في مسرح غلب عليه في السنوات الأخيرة الطابع المحافظ تحت إدارة المخرج الألماني كلاوس بايمان. ولا شك بأن أحد أسباب لجوء بايمان الى ولسن جاء لمعرفته بكون الأخير يشكل نقطة جاذبية حداثية يمتد تأثيرها على محبي المسرح من مختلف الأجيال، وهذا ما تجلى في تركيبة الجمهور الذي تسابق للحصول على تذاكر الدخول، سواء عن طريق الإنترنيت، أو ما عداه، أما من لم يحصل على تذكرة فسيضطر مثله مثل العشرات من محبي ولسن للوقوف ساعات طويلة أمام بناية المسرح طمعا في الحصول على تذكرة يتخلى عنها أحد المحظوظين لسبب ما.
الشئ المميز لعمل روبرت ولسن هو أعتماده على المكونات البصرية للعمل المسرحي: الضوء، الديكور والحركة. وهو لذلك غالبا ما يلجأ لإستخدام الصور المتحركة وعناصر من الأفلام الصامتة لتجسيد منهجه الحرفي في المسرح، حيث يشكل الممثل عنصرا من هذا الإطار بحركاته المدروسة بدقة كبيرة، حتى يبدو جزءا من لوحة متحركة، ترافقها مؤثرات مسرحية، تخلو من ثقل المضمون. وتلعب الإضاءة دورا أساسيا في عمله، حيث يعتمد إرجاع الضوء الى جذوره الأولية بإعتماد الألوان الأساسية النقيةعلى الأغلب. وهذا بحد ذاته هو خروج عن نهج بريشت الذي يؤكد على ضرورة إستخدام إضاءة حيادية في العمل المسرحي تأكيدا على أهمية الحدث المسرحي ولتخليصه من المؤثرات التي قد تؤثر سلبيا على التعامل العقلاني للمشاهد مع هذا الحدث. من هنا فقد جاء تطبيق ولسن لنهجه في الإضاءة إنتهاكا لأسس مسرح بريشت وخروجا على القاعدة الجارية في إخراج أعماله في ألمانيا. إضافة لذلك أستخدم ولسن في عمله أساليب السينما الصامتة (شارلي شابلن) وعناصر من أفلام الكارتون (سيمبسونس) بهدف تخليص النص من إطاره التقليدي وتقديمه في إطار حداثي يحرره من كمائن الإيديولوجيا ومطبات المباشرة.
وربما يمكن القول بأن ولسن قد جرد هذا العمل من كل الزوائد وكشف عن جوهره الكوميدي العبثي الذي لا يخلو من الإشارات النقدية لعالمنا الراهن رغم تخليه عن جبة الحاكم والموجه السياسي في تجليها البريشتي:" أولا الطعام ومن ثم الأخلاق."
حين قام روبرت ولسن بإعداد فلم "دكتور كاليغاري" للمسرح، أصبح من الواضح أنه سيسعى لاحقا لإستخدام تقنيات الفلم الصامت على المسرح، وهذا ما حصل بالفعل في "أوبرا القروش الثلاثة"، إذ قام بتوظيف هذه التقنيات بشكل مكثف في مفاصل العمل الذي أستغرق ما يزيد على ساعتين، بحيث كان حضورها أقوى من حضور النص البريشتي، حيث أختزلت حركات الممثلين الى إيماءات، وأختفت وجوههم تحت أقنعة بيضاء، تذكر المشاهد بالمكياج الذي كان يستعمله مارسيل مارسو. مع هذا فأنه لم يتمكن، أو ربما لم يرغب على ما يبدو من تحرير العمل تماما من نص بريشت الذي كان حاضرا بشكل مميز من خلال أنجيلا ونكلر وغيرها من ممثلي "برلينر انسامبل".
كما في أعماله السابقة أثبت ولسن في هذا العمل أيضا قدرة كبيرة على الفصل بين ماهو جوهري وما هو عابر في العمل الفني، دون أن يسعى كما يفعل الكثير من المخرجين الشباب في الوقت الراهن الى تفكيك النص المسرحي عن طريق تهديم بنيته اللغوية، بل من خلال توظيف الأدوات المسرحية المتوفرة لشرنقة النص في إطار فني يحرره من غبار الغرض السياسي.