ثقافات

الطاحونة القائمة على نهر فلاس

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

فيض المخيلة في "الطاحونة القائمة على نهر فلاس" The Mill on the Floss

"إن مجرى سير الپروفات بالنسبة لنا هو بمثابة منبر للمناقشات المفتوحة بشكل رحب وصادق من أجل طرح الأسئلة وتبنيّ المجازفات التي تعيد لفن الإداء مدياته غير المحدودة".شعار فرقة مسرح (التجربة المشتركة)

علي كامل من لندن: إن أكثر العروض المسرحية اللندنية ألقاً اليوم هي تلك التي إقتبست نصوصها من روايات القرن التاسع عشر. ليس مهماً هنا سعة اللوحة وعمقها تلك التي أنجزتها مخيلة الروائي مادام هناك توق في البحث عن أساليب عرض ومعالجات مبتكرة، فقارىء الرواية مثلاً وهو في مجرى عملية القراءة، التي هي عملية تلقـّي ذاتية بحتة، بوسعه رسم ملامح الشخصية الروائية محتفظاً بملامحها في مخيلته، فيما يمكن لمتفرج العرض المسرحي مشاهدة تلك الشخصية ذاتها بشكل حسي خلال مجرى عملية التلقي المشترك، سواء مع جمهور المشاهدين أو مع العرض ذاته.
لاشك أن بنية الرواية، حين تمسرح، ستخضع إلى تغييرات، إلا أن هذه التغييرات تصبح في بعض الأحيان نوعاً من الكشوفات غير المتوقعة حين تبرز إلى السطح تلك الومضات والدلالات الخفية التي كثيرا ما تغيب عن ذهن القارىء. ولعل النموذج الأكثر جلاء لتحديات كهذه يمكن تلمسه في المحاولات التجريبية المبتكرة لفرقة المسرح البريطاني Shared Experience Theatre "التجربة المشتركة"، في عرضها المبهر لرواية جورج إليوت (الطاحونة القائمة على نهر فلاس) التي أعدتها الكاتبة البريطانية هيلين إدموندسن وأخرجتاها بشكل مشترك كل من نانسي ميكلار وبولي تيل.

لقد فجرت المعّدة والمخرجتان في هذه التجربة المشتركة ذلك المخزون السيكولوجي الكامن في متن العنصر السردي للرواية دفع بالمتفرج حقاً إلى رغبة عارمة وعذبة لإعادة قراءة وتقويم ليس الرواية حسب، إنما التنقيب ثانية عن كل نتاجات ذلك القرن الخصب والمتلألىء.

إن محاولة إدموندسن هذه كانت سبقتها محاولات مشابهة وهي مسرحتها لرواية تولستوي "آنا كارنينا" التي كانت أخرجتها نانسي ميكلار أيضاً في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كذلك إعدادها رواية (الأمواج) لفرجينيا وولف التي عرضت مؤخراً على خشبة مسرح أوليفيه، القاعة المركزية في المسرح الوطني البريطاني.


"رواية السيرة الذاتية"

"الطاحونة القائمة على نهر فلاس" هي بمثابة سيرة ذاتية لحياة جورج إليوت (ماري آن إيفانس)، والمّطلع على حياة الكاتبة سيعثر في بورتريه الشخصية الرئيسية في الرواية ماكَي توليفر، على صورة تتماهى مع طفولة الكاتبة ومراهقتها. فالعهد الفكتوري بأعرافه وتقاليده الصارمة في كبحه لعواطف المرأة وتطلعاتها آنذاك، كان بمثابة السد الذي وقف شامخاً بوجه ماكَي "بطلة الرواية"، مادفع الكاتبة إلى الكشف عن تلك المساعي الخفية لتقويض ذلك السد عبر تلك الفتاة الجامحة العواطف المتقدة الذكاء في خوضها حرباً مسعورة ضد النظام الأبوي الذي كان يهيمن على العصر آنذاك، وهو ذات النظام الذي فرض على الكاتبة أن تتخفى وراء إسم رجل مستعار هو "جورج إليوت" محاوَلة لتضليل الناشر والقارىء الفكتوريين على حد سواء، لأنهما كانا يتطلعان إلى المرأة بإستخفاف وإزدراء كبيرين. لكن على الرغم من أن إنتحال الإسم لم يدم سره طويلاً إلا أنه، في كل الأحوال، كان بمثابة شهادة شجب وإدانة لذلك العهد. أما الذي أثار ريبة الكثير من القراء والناشرين حول ذلك الإسم فهو تشارلس ديكنز، فبعد قراءته للرواية، كتب مندهشاً:"إن المخيلة التي بوسعها أن تصف عالم الطفولة بهذه النكهة الأمومية لايمكن أن تكون مخيلة رجل على الأطلاق!".


"الموت غرقاً"

تتناول الرواية حياة ماكَي وشقيقها توم اللذين نشئا وترعرعا على ضفاف نهر فلاس بالقرب من قرية تدعى سانت أوكَس في عشرينات القرن الثامن عشر، ويمتد زمن الرواية من 10 إلى 15 عاماً، أي منذ طفولة توم وماكَي وحتى موتهما غرقا ً في نهر فلاس.
الرواية هي إلى حد ما، سيرة ذاتية تعكس المهانة التي لحقت بجورج إليوت (ماري آنـّا إيفانس) نفسها نتيجة علاقة الحب الطويلة بينها وبين شخص متزوج يدعى جورج هنري لويس. أما الذي ينسج خيوط السرد هنا فهي "ماكَي توليفر"، الشخصية المحورية في الرواية، من خلال علاقتها مع أخيها الأكبر "توم"، وعلاقاتها الرومانتيكية بـ "فيليب واكم" الشخص الأحدب والصديق المثقف شديد الحساسية، وستيفن كَيست، الشاب المفعم بالحيوية والشخصية الإجتماعية البارزة في سانت أوكَس وخطيب إبنة عمها لوسي دين. فالصلة بين ماكَي وشقيقها توم تتواصل طوال الرواية وهي صلة حميمة ومعقدة، تورق وتزهر برغبة ماكَي في إسترجاع ذلك الحب المطلق الذي كان يمنحه الأب قبل موته. إلا أن تلك العلاقة تتقوض شيئاً فشيئاً، فالطبيعة البرجماتية والمتكتمة لتوم تتعارض مع مثالية ماكَي وتوقها المتوهج للتغيير والمواجهة والأكتشاف. فضلاً عن ذلك، الإفلاس الذي حل بعائلة توليڤر والذي خلق الكثير من الأزمات، فعلاقة الضغينة بين والدي ماكَي وفيليب توّجت أخيراً بخسارة السيد توليڤر الطاحونة، أما موته في الوقت غير المناسب فقد عزز الخلافات بين توم وشقيقته ماكَي. وهكذا ومن أجل إعادة دفع ديون العائلة يضطر توم إلى ترك تعليمه المفكك لينغمر في الحياة التجارية محققاً وبالتدريج نجاحات واسعة مسترجعاً جميع ممتلكات العائلة السابقة، فيما تظل ماكَي في عزلتها الإجتماعية تقاسي الفقر وتستنزف ملكاتها العقلية ببطء، وتعاني من أزمة روحية عميقة وحادة تجعلها تنبذ العالم وتتخلى عنه بدافع من محاكاة توماس كيمبس للمسيح. ويُمتحن هذا النبذ من خلال تجديد العلاقة مع فيليب واكم، ومعه تظهر ثانية تلك الألفة القديمة وذلك الود الحميم حينما كان فيليب تلميذاً يدرس مع شقيقها توم. فعلى الضد من إزدراء وكراهية توم ووالدها لعائلة واكم، تلتقي ماكًي وبشكل سري بفيليب ليذهبا معاً في نزهات عذبة طويلة عبر الغابات.
إن طبيعة العلاقة التي يبحثان عنها يعثرا عليها جزئيا في إستحواذ أفكار ماكَي وإهتماماتها بالهشاشة والإنكسارات، والتي تصبح متنفساً لرغباتها الثقافية والرومانتيكية.

حين يكتشف توم، بطريقة ما، نزهاتهما تلك، عندئذ ينبغي على ماكَي التخلي عن فيليب ومعه التخلي عن آمالها في التغيير والمواجهة والأكتشاف.
وهكذا تنكفىء ماكَي ثانية نحو وحدتها وعزلتها الإجتماعية، إلا أن إبنة عمتها لوسي دين تكسر طوق تلك العزلة بدعوتها للعيش معها في المنزل الذي تقطن فيه هي وخطيبها ستيفن كًيست، الشخصية البارزة في سانت أوغ، هناك حيث الإستمتاع بالمناخ الثقافي الذي يملأ أرجاء ذلك المنزل. تستجيب ماكَي بلهفة لتلك الدعوة، لكن وبمرور الوقت تنشأ صلة غامضة وحالة من الإنجذاب المتبادل بين ستيڤن وماكَي لايوقف سيلها الهائج إلا زيارة فيليب المفاجئة لمنزل لوسي وستيڤن، والتي ستغير مجرى الأحداث تماماً. فلقاء فيليب المفاجئ بماكَي يفجر في أعماقه ذلك الحب القديم ثانية، فيما تكون ماكَي في وضع آخر مختلف تماماً، فهي لم تعد تلك الفتاة الوحيدة والمنعزلة، فعلاقة الحب السرية والمبهمة بينها وبين ستيڤن تجعلها تضع إعتقاداتها السابقة بشأن علاقتها بفيليب موضع تساؤل.
أما علاقتها بستيڤن، فعلى الرغم من محاولات الإثنين في أن يتنكر أحدهما للآخر، إلا أنهما يُمنحان وبالصدفة تقريباً، فرصة للهرب، حيث تقوم لوسي بتدبير خطة لجمع فيليب بماكَي من خلال رحلة قصيرة بالقارب في نهر فلاس، إلا أن ستيفن، وبشكل غير مقصود، يأخذ محل فيليب المريض، وفجأة يجد الإثنان نفسهما وهما يجذفان في نهر فلاس غير مباليان بالمسافة التي قطعاها، ويقترح ستيڤن على ماكَي أن يستقلا سفينة بخارية للسفر إلى مدينة مادبورت ليتزوجا هناك. إلا أن ماكَي كانت تتوزع حينها بين حبها لستيڤن وبين واجباتها أزاء فيليب ولوسي. وهكذا وفيما هما على وشك الوصول الى مادبورت يفاجَىء ستيڤن برفض ماكَي مواصلة الرحلة وعودتها الى سانت أوغ لتعيش لوحدها ولفترة قصيرة حالة من النبذ من الجميع فيما يهرب ستيفن الى خارج البلاد.
إن خيار ماكَي رفضها الزواج بستيڤن ومعاناتها لفقدانها حبه والعار الذي لحقها بسبب هروبهما الأخرق، هو في الآخر بمثابة إنتصار للأرادة الحرة.
تنتهي حالة الإغتراب القصيرة التي تعيشها ماكَي حين يحدث الفيضان، فتخرج وتستقل قارباً للبحث عن شقيقها توم فتعثر عليه في الطاحونة القديمة، ويتجه الإثنان صوب لوسي وعائلتها لإنقاذهم. وفي لحظة خاطفة سريعة الحساسية يسوي الأخوين كل خلافاتهما القديمة. إلا أن قاربهما ينقلب فجأة فيغرق الأثنان أخيراً وهما متعانقان.

"هارمونية الرؤية وتقاطعاتها بين الراوي والمُعّـِد"

في إعدادها لهذه الرواية سعت هيلين إدموندسون أن تبقى أمينة ومخلصة إلى الأفكار التي أرادت الكاتبة التعبير عنها، وإلى الطريقة التي أرادتنا إليوت أن نحس بها نحو شخصياتها. إلا أن هدفها الأساسي كان هو أن تكتب، وبطرق عديدة، نصاً مسرحياً نابضاً بالحياة، لذا فقد إضطرت مثلاً وهي في خضم تشييد بنية المسرحية، إلى أن تنسى خطاب الرواية أو بالأحرى تحاول ألبحث عن مسارات أخرى لها في الأقل. بمعنى أن إدموندسون كانت في بعض الأحيان تلتقط بعض المواقف والأفكار التي كانت إليوت تلمّح لها بشكل عابر إلا أنها كانت تثير فيها إهتمام وإنتباه كبيرين. إن كثير من الشخصيات في الرواية لاتخدم القصة بوجه خاص حقاً إلا أنها كانت تمتلك أهمية هامشية بطريقة ما لدى إدموندسون. خذ شخصية بوب جاكف مثلاً، أو عمّتا ماكَي، اللتان أضفتا الكثير من العناصر الكوميدية للحكاية فضلاً عن أنها تظهر ماكًي من وجهة نظر العالم الخارجي، إلا أن هذه الشخصيات لاتمتلك بالطبع أدواراً رئيسية في الحبكة. من جانب آخر مثلاً، ربما هناك فكرة ما أو شخصية تتميز بقيمة كبيرة في الرواية إلا أنها لم تكن لتثير لدى المعّدة ذلك الإهتمام!. فلقد إضطرت مثلاً إلى حذف جلّ الفصل الذي يستعرض طفولة ماكَي وحياة شقيقها توم في المدرسة، والذي خلق ثغرة في العرض ذلك لأنه ما أن تبدأ قصة ماكَي حتى نرى توم وهو ينسحب تماماً من المشهد، وهذا سبب نوعاً من التنافرات وهو تقاطع واضح مع النص الأصلي. لذلك كان على إدموندسون أن تجد حلا لمثل تلك التنافرات التي هي واضحة جداَ في العرض. تقول إدموندسون:"
"لقد قررت التركيز على فكرة أن ثمة إمراة أرغمت على أن تغير طبائعها وتكبت رغباتها لأن تطلعاتها الحقيقية تتعارض مع المنظور الإجتماعي للمرأة. وحين حددّتُ فكرتي هذه حاولت أن أعثر على الطريقة الدرامية والشكل المسرحي للتعبير عنها. وفي اللحظة التي شعرت أنني وجدتها إبتدأت الكتابة.".

الشخصية الروائية تتجول في مخيلة القارىء عادة بشكل أفضل، فبوسع القارىء الإحتفاظ بملامحها في مخيلته وخلق صورة ما محددة لها، فيما يمكن في المسرح تجسيد صورة الشخصية تلك بشكل فيزيائي وتقديمها إلى المتفرج كما لو أنها خلقت تواً.
يمكنك على خشبة المسرح أن تظهر مثلاً ومن خلال تعبير الممثل حقيقة أن على الرغم من أن شخصاً مثل توم يتصرف بتفاخر إلا أنه يشعر في أعماقه بدرجة ما بحزن شديد. هذا الشيء مثلاً يتطلب وقتاً طويلاً للتعبير عنه في الكتابة.
إن أحد الجوانب الأكثر صعوبة في تحويل رواية السيرة الذاتية إلى المسرح، هو أنها عادة ماتعالج حياة شخص واحد منذ البداية وحتى النهاية، فضلاً عن الإستطراد السردي الذي تروى من خلاله الأحداث.

"الرؤية الإخراجية"

"لقد تعهدنا على خلق مسرح يتخطى الحياة اليومية ويغور في الأعماق معطياً شكلاً بصرياً للمخيلة ولعالم الإحساس الخفي". فرقة مسرح (التجربة المشتركة)

لقد شطر العرض المسرحي شخصية ماكَي إلى ثلاث شخصيات قامت بإدائها ثلاث ممثلات: ماكَي الصغيرة (الممثلة آني ماري داف)، ماكَي المراهقة (الممثلة كاترين كاساك)، وماكَي وهي في سن البلوغ (الممثلة هيلين شليسنجر).
إن هذا الأنشطار الذي يمثل ثلاث مراحل زمنية من حياة ماكَي، هو تجسيد للتحولات والتناقضات الحادة مابين الطفلة المشوشة والمتمردة التي حلمت يوما ً أنها بطة صغيرة بهيئة ساحرة تغرق في النهر، وبين المراهقة التي كان يستبد بها شعور رهيب بالذنب جعلها تصمم على سحق جميع عواطفها بمزاج محفوف بالمخاطر، وبين المرأة التي بلغت سن النضج وغرقت في حب جنسي مهلك.
إنه الصراع المحتدم بين التمرد والأذعان والتشوش كله يغلي في أعماق شخصية واحدة هي ماكَي.
تقول هيلين إدموندسن بشأن إختيارها لشخصيات ماكَي الثلاث:"صحيح أن ماكَي كانت تتغير بشكل عنيف وقاس بطرق عديدة في تقدم سير الرواية، إلا أن هناك بعض السمات الجوهرية لشخصيتها تبقى ملازمة لها حتى النهاية.
حين تبلغ ماكَي سن البلوغ تظل تحمل في أعماقها روح تلك الفتاة الصغيرة التي تمتلك طباعاً وعواطف غامضة ومعقدة بشكل هائل.
إنها ترغم على الإصغاء إلى مايقوله الآخرون عنها فتغوص في أعماق نفسها محاولة منها في العثور على طريقة آخرى مختلفة للتعامل مع الحياة، وهذا هو مايقودها إلى الثورة الدينية ونكران الذات.
حين تخرج من ثوبها الديني ينبغي عليها عندئذ أن تتغير ثانية للدخول إلى العالم كشخصية أكثر حزماً من ذي قبل لتقف نداً لأخيها الأكبر توم. وهذا تماماً هو الدافع الرئيسي وراء التحولات في شخصيتها.
لقد تسنى لي أيضا الكشف عن ثيمة أخرى في الرواية وهي، إلى أي حد يمكن لطفولتنا أن تسهم في تشكيل حياتنا في مرحلة البلوغ وربما بعدها؟
أن تظهر ماكي كطفلة على المسرح بالتوازي وظهورها وهي بالغة الرشد يعني إنك تستطيع بالطبع أن تجسد فيزيائياً الصراع أو الشد والجذب بين هاتين الشخصيتين.".

"عوالم سوريالية ملتبسة"

ثمانية ممثلون لعبوا جلّ شخصيات الرواية (17 شخصية) حيث قام كل واحد منهم بإداء أكثر من دور وهم يعيدون ثانية خلق فضائها بأسلوب فانتازي هو مزيج من الغنائية والسوريالية.
ديكور "باني كريستي" برصيفه الخشبي الطويل الشاهق والمطل على نهر فلاس، وستارته الخلفية المتغيرة الألوان والإضاءة وهي معلقة على خط البصر في تماس مع الغيوم، ثم إضاءة "كريس دافي" الحلمية والكابوسية في آن، ترافقها موسيقى "بيتر سالم" لمشهد ماكَي الأستهلالي الذي تحلم فيه أنها بطة صغيرة أشبه بساحرة تغرق في النهر، وظفت كلها بهارمونية شديدة الإختزال لبناء مشهد الغرق، المشهد المثير للرهبة والفزع.

إن رواية ماكَي عن كيفية غرق الساحرة في بدء العرض يتحول لديها وحتى النهاية إلى هاجس داخلي مقلق يدفعها في الآخر إلى الموت غرقاً بنفس الطريقة، حين يجتاح الطاحونة فيضان مريع تغرق هي وشقيقها توم وذراعاهما متشابكان.
إن تحول ماكَي إلى ساحرة هو بمثابة تماهٍ كامل لدوافعها المتعارضة للسائد ونزعاتها العسيرة الكبح. أما موتها فهو بمثابة تتويج لهكذا تحدي وإستجابة آلية لأعراف وقوى إجتماعية كابحة لأية نزعات مضادة.
تقول المعدّة هيلين إدموندسون:"يحتمل أن تكون ماكَي ساحرة، ومن المحتمل أيضاً أن هاجس السحر المهيمن على روحها هو بمثابة ميكانيزم ذلك المجتمع الذي كان يتعامل معها والذي كان لايبعث الشعور بالأمن في روحها، ومن المحتمل كذلك أن موتها غرقاً في النهاية يصبح حلاً دائماً لمعضلتها".
كانت ماكَي في الواقع تنازع من أجل توحيد مظهرين لتجربتها، وهذان المظهران هما في صراع متواصل. الأول، هو إيمانها في وتوقها نحو حياة الثقافة والجمال. أما الآخر، فهو قناعتها الروحية وإدراكها الحسي للواقع اليومي الرتيب في الطاحونة. لقد كانت تسعى لصهر حياتها الداخلية بحياتها الخارجية، كي تشعر أنهما يحيان معاً، إلا أنه وكما يبدو لايوجد ثمة شيء من ذلك في محيط القرية التي تعيش فيها يمكنه أن يحقق مثل تلك الرغبة.
الواقع أن الطريقة التي ترسم فيها إليوت بطلتها له صلة بعالم أرحب من تلك القرية الصغيرة الصارمة الضيقة والمعزولة. فماكَي، بكلمة أخرى، هي كائن إنساني مفعم بعواطف وأحاسيس تواقة إلى كل شيء جميل ومبهج. إنها عطشى منذ طفولتها للمعرفة، وهي بحاجة متوهجة إلى الحب، مثل إحتياجها إلى الحرية.
يبدو كما لو أن الذاكرة هي المفتاح الوحيد والرئيسي الذي يخولنا ربط لحظة واحدة من حياتنا بلحظة أخرى كي نحيا في سلسلة من الأحاسيس التي تحمل مغزى إنعزالياً. إن أكثر شخصيات إليوت هم أولئك الذين يمتلكون صفة كهذه والتي يمكن أن نعثر على صورة لها في تفسير ماكَي ذاتها لعلاقتها بشقيقها الأكبر توم. فحين يقول لها فيليب الأعرج أنها تحب توم أكثر منه، تجيبه بيسر:"كلا.. ليس كذلك. تعرف، إن الشيء الوحيد الذي سأظل أتذكره طوال حياتي هو حين وقفت مع توم بالقرب من نهر فلاس، وحين رفع يدي وتطلع في وجهي. آه، لقد كان كل شيء قبل ذلك معتماً بالنسبة لي".
سيكولوجياً، تصبح علاقة ماكَي الفتاة الصغيرة بشقيقها الأكبر بالنسبة لها شيء يتعذر محوه من شخصيتها حتى بلوغها سن الرشد، ليس لمجرد حبها المتواصل له حسب، إنما لحاجتها الشديدة إلى الحب ذاته، هذه الحاجة التي تتصل بشكل لاينفصم عن حاجاتها الأخرى التي ذكرناها أعلاه والتي تشكل بنية هذه الشخصية.
إن الأيحاء والرمز هما عنصران لايفارقان إحساس المتفرج وهو يتابع مسارات هذا العرض. فالنهر والماء والطاحونة والفيضان كلها إلتماعات ومجازات تهيئنا منذ البدء لمواجهة توقعاتنا بمصير ماكَي. إن غرقها وشقيقها في الخاتمة في نهر فلاس يصبح هنا بمثابة رمزاً في مخيلتها. من الممكن أن يكون النهر إشارة إلى الطريق الذي سينقل نزاعها الروحي إلى فضاء أكثر سمواً، النزاع الذي سيحرق ضفاف النهر بسبب نتائجه التي يصعب التحكم بها. إنه ذات النهر الذي إبتلع جسد فرجينيا وولف حين قررت أن تضع حد لآلامها وآلام شخصيات رواياتها ربما.
أعتقد أن إليوت حين أغرقت بطلتها كانت تحس أن ذلك الفعل هو بمثابة نوع من السمو، إلى حد ما هو إيجابي، وهوالنتيجة الوحيدة الحقيقية بالنسبة لها. إلا أنني مع ذلك مازلت أشعر أن من غير الصائب أن تغرق ماكَي في خاتمة العمل.
الطاحونة هي الأخرى ترمز إلى حد ما إلى تلك الآلة الأجتماعية الضخمة التي كانت تسحق روح ماكَي في جميع مراحل حياتها. فعلى الرغم من هربها المؤقت من رحاها، إلا أنها مع ذلك كانت تنتصب شامخة مثل مشنقة بإنتظار ضحيتها، وهذا مايؤكد ماقالته هيلين إدموندسون بأن موتها يصبح حلاً ملائماً لمعضلتها.

فرقة مسرح "التجربة المشتركة" تأسست عام 1975 وهي منذ ذلك الحين كانت قد أرست موقعها الألِق بسبب طاقمها الموحد والشكل المميز لأداء عروضها.
في مركز عملها تكمن قوة حضور الممثل وإثارته فيزيائياً، فبقدر لعبه مع الكلمة، ثمة عناق جميل بين خشبة المسرح وقاعته، تلك المشاركة الخلاقة بين الممثل والمتفرج، ومن هنا جاءت تسمية الفرقة بـفرقة مسرح (التجربة المشتركة).

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تحية وشكر
د. محمد حسين حبيب -

لقد عودنا الاستاذ علي كامل على كتاباته المهمة وعبر ايلافنا في النقد المسرحي والمتابعة فضلا عن حرصه الواضح في تكاملية موضوعه فكرا واسلوبا وقبله اختياره للمادة التي تستحق فعلا ان يطلع عليها القارىء العربي .. تحية له وشكر ..

تحية للمبدع
فؤاد غائب -

الاستاذ المبدع على كامل تحية تقدير واعتزاز بقامة مثلك ..كتاباتك تحمل فكرا وابداعا راقي جدا.. اتمنى على ايلاف ان تخصص بابا خاصا بكل كتاباتك ايها الفنان .

المعالجة الإخراجية
فلاح جاسم أحمد -

من الواضح ان الكاتب لايميز بين الإعدادالمسرحي والدراماتورجي للرواية وتحويلهاإلى مسرحية والرؤية الإخراجية، فيدرج افكاره عن بناء المسرحية تحت عنوان الرؤية الإخراجية، من الصعب جدا الكتابة عن الرؤية الإخراجية مالم تكن مختصا في الإخراج المسرحي، خصوصا وإن الكاتب ليس مخرجامسرحيا،وأما إدعاء الكاتب ان اكثر العروص تألقا في لندن هي تلك المقتبسة من الروايات، فهي مغالطة لا تتفق وجوهر الدراما، وماذا إذا عن عروض شكسبيرو كبار الكتاب المسرحيين على كبرى مسارح لندن،لا اعتقد ان النقد الإنكليزي يتفق على مثل هذا الإدعاء.

التأني
متابع مسرحي -

الاخ فلاح جاسم الفنان على كامل مخرج مسرحي عراقي وايضا مخرج سينمائي ومتابع للعروض المسرحية خصوصا في لندن، قرات له مقالات قيمة في الشرق الاوسط في بداية التسعينات ..ونعرف ان المنافى همشت عدداكبيرا من الفنانين العراقيين ..

المزيد
سعد كريم -

تحية للفنان الاستاذ على كامل هذا الموضوع وموضوعات سابقة لك هي مصادر مهمة . سؤالي ..لماذا لا نقرأ لك كثيرا!الحقيقةان المتابع للابداعالمسرحي بحاجة الى مثل كتاباتك ... شكرا لك ايها المبدع

االى متابع مسرحي
باسم -

على العكس فإن المنافي والحزب هيأت ظروفا عظيمة للكاتب علي كامل في مجال السينما، فقد حصل على دراسة في الإخراج السينمائي في أعظم معهد للسينما بموسكو، هو نفس المعهد الذي تخرج فيه فطاحل السينما من أمثال تاركوفسكي، لكنه مع تحول الى متابع صحفي للعروض المسرحية بدلا من ان يصبح مخرجا سينمائيا او مسرحيا، على الرغم من ان المنافي هيأت له أيضل العيش في أكبر مدن العالم الحافلة بالفن، موسكو ولندن. مثل هذه الامكانيات يحلم بها الآف من مخرجي العراق في الداخل. ولم يسمع احد بأعماله في مجالي السينما والمسرح.