الفلسطينيون يروون حكايتهم في ملحمة زمن الخيول البيضاء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ايلاف من القاهرة: بعد اثنين وعشرين عاما من الإعداد لها والعمل عليها صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت الرواية الملحمية "زمن الخيول البيضاء" للشاعر والروائي إبراهيم نصرالله، والتي استقبلت بحفاوة كبيرة فور صدورها. يتوج نصر الله بهذه الرواية مشروعه (الملهاة الفلسطينية) الذي صدرت منه خمس روايات قبل هذه الرواية، لكل رواية أجواؤها الخاصة بها وشخوصها وبناؤها الفني واستقلالها عن الروايات الأخرى. تغطي (زمن الخيول البيضاء) ستين سنة من تاريخ الشعب الفلسطيني، بدءا من نهايات القرن التاسع عشر، حتى احتلال فلسطين في عام 1948. وتسرد بفنية عالية ما الذي حدث في فلسطين وللفلسطينيين في تلك الفترة التي يتم تناولها لأول مرة بهذه الشمولية وهذا الاتساع. ويأتي توقيت صدور هذه الملحمة متزامنا مع اقتراب الذكرى الستين لاحتلال فلسطين. حيث يذهب الكاتب إلى فترة زمنية لم يسبق للرواية أن ذهبت إليه، لتصوِّر حياة الشعب الفلسطيني في فترة قاتمة هي نهايات الإمبراطورية العثمانية، حيث يولد بطل الرواية الذي يشغل الأجواء القروية المحيطة به بحكايات شجاعته وشخصيته الفريدة وحكايات حبه التي تتناقلها الألسن من مكان إلى مكان، وذلك التعلّق الجنوني بمهرة بيضاء ظهرت ذات يوم في شوارع القرية واختفت، وحكايات بحثه المستمرة عنها. ومع زوال الحكم التركي وبداية عصر الانتداب الإنجليزي على فلسطين تبدأ الهوية الإنسانية والوطنية لهذا البطل الملحمي بالتشكل أكثر فأكثر، عاكسة طموحات شعبه لبلورة هويته بعد قرون طويلة من الحكم التركي، في زمن تتدافع فيه أكثر من قوة لسلبه هويته وأحلامه الإنسانية بالعيش تحت سماء وطنه حرا.
ويذكر أن الروايات الخمس التي صدرت ضمن مشروع الملهاة الفلسطينية قبل هذه الرواية هي: طفل الممحاة، طيور الحذر، زيتون الشوارع، أعراس آمنة، تحت شمس الضحى، ويتأمل فيها نصرالله 125 عاما من تاريخ الشعب الفلسطيني. تقع (زمن الخيول البيضاء) في خمسمائة وعشر صفحات وصمم غلافها الفنان محمد نصرالله أما لوحاتها فهي للفنان البحريني الدكتور أحمد باقر.
بناء الرواية
(أنا لا أقاتل كي أنتصر، بل كي لا يضيع حقي. لم يحدث أبداً أن ظلّت أمّة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئاً واحداً: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر إلى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد). ينطلق نصرالله في بنائه لروايته، من قول عربي قديم يقول: لقد خلق الله الحصان من الريح والإنسان من التراب. ويضيف نصر الله (والبيوت من البشر)!! وبهذا يُقسِّم روايته إلى ثلاثة أجزاء:. الريح، التراب، البشر؛ ويتابع فيها مصائر عائلة فلسطينية (كتبتْ الخيولُ أقدارَ رجالها) مؤمنة بـ (أن عُمْر الرجال أطول من عُمر الإمبراطوريات)، كما يتابع عددا من الشخصيات المتصارعة المتناقضة بصورة مريرة، لكن ما يجمع هذه الشخصيات هو حبّها للخيول. بطل شعبي فلسطيني استقى نصرالله شخصيته من عشرات الشهادات الشفوية المعززة بحكايات شعبية فلسطينية، تتابعه الرواية منذ طفولته، كرجل شجاع إلى أبعد الحدود وعاشق إلى أبعد الحدود؛ وإلى ذلك ضابط إنجليزي قاس مهووس بحب الخيول وشاعر في الآن نفسه، ونساء من طراز فريد متماهيات مع خيولهن وخيول رجالهن، وعدد آخر من الشخصيات بالغة الكثافة والحضور القوي.
تحاور الرواية المفاصل الكبرى لهذه الفترة الزمنية الصاخبة بالأحداث بالغة التعدد، والصراع المرّ بين الفلاحين الفلسطينيين من جهة وزعامات الريف والمدينة والأتراك والإنجليز والمهاجرين اليهود والقيادات العربية من جهة أخرى، كما تقدم الرواية صورة عميقة لأدوار جيوش الإنقاذ وما حدث مع الجيش المصري بشكل خاص في عام 1948 حيث هنالك العديد من التفاصيل التي جرى تغييبها تاريخيا واستقاها نصر الله من شهود فلسطينيين عاشوا ذلك كله.
وتلتقي في هذه الملحمة الروائية، التي تعتمد في بنائها المشهدية السينمائية بشكل خاص، عدد من الفنون وتتكامل؛ وتتقدم الحياة الشعبية الفلسطينية اليومية في القرى والمدن لتحتل المشهد الإنساني الرّحب والحافل بحكايات البطولة والحب، الحياة والموت، والخيانة والصفاء والرحمة والقسوة، في حين تضيء ميثولوجيا الخيل أعمق زوايا أرواح الشخصيات والقيم الكبرى لمجتمع بالغ الحيوية في طقوسه وحكاياته، لتشكل في النهاية حكاية شعب حقيقي من لحم ودم كان يحيا فوق أرض حقيقية له فيها تراث وتفاصيل أكثر من أن تحصى وأكثر من أن يغيّبها النسيان، ووجود ممتلئ صخبا وتوترا وفرحا ومآسي وأحزانا.