العلاقة الفنية بين الإنسان والعين والمكان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في كتابه (الفنون البصرية وعبقرية الإدراك)
د. شاكر عبد الحميد: الفنون البصرية علاقة خاصة بين الإنسان والعين والمكان
محمد الحمامصي: يسعي الناقد الكبير د. شاكر عبد الحميد في كتابه الصادر هذا الأسبوع عن دار العين للنشر بعنوان (الفنون البصرية وعبقرية الإدراك) أن يقدم بعض الأفكار القديمة والحديثة الخاصة بالفنون البصرية ومكوناتها وتفاعلاتها، وأيضًا حول كيف يرتقي فهم الطفل لها، وكيف يتفاعل المخ البشري معها، وكيف تطورت فكرة المكان والمنظور عبر تاريخ الإنسان، وما عناصر الخيال البصري ومكوناته وكيف يرتقي ويتطور خلال الإبداع للأعمال البصرية وخلال التذوق لها أيضًا ثم قمنا بختام هذا الكتاب بفصل حاولنا أن نربط فيه بشكل عام بين الفنون البصرية والثقافة البصرية.
ولا يدعى د. شاكر عبد الحميد أنه قد أحاط بكل الفنون البصرية، ولا أنه قد تعامل معها بالعمق الكبير اللائق بها، ولا أنه قد تتبع المراحل والتطورات التاريخية والأسلوبية في كل هذه الفنون، ويقول: هذه وغيرها تحتاج إلى كتابات وكتابات كثيرة يعجز أن يقوم بها الإنسان الفرد، فهي مهمة المؤسسات والهيئات الثقافية الكبرى.
ويضيف: لقد قمنا على الرغم من ذلك بالاهتمام ببعض الفنون البصرية خاصة الرسم والتصوير الملون والنحت والعمارة والتصوير الفوتوغرافي، وقمنا كذلك بالاهتمام بعلاقة المبدع وكذلك علاقة المتلقي بهذه الفنون، وحاولنا أن نقدم بعض الأفكار الجديدة الخاصة بتطور هذه الفنون عبر عقل الإنسان وعبر تاريخه، وقد كان اهتمامنا منصبًا بشكل خاص على الفنون البصرية التي يطلق عليها اسم الفنون التشكيلية ومنها الرسم والتصوير والنحت وغيرهما؛ وذلك لأننا نعتقد في عدد من المقولات التي نراها صحيحة إلى حد كبير هنا، ويهمنا أن نعيد ذكرها وتأكيدها ونحن نراها مهمة بشكل عام خلال عملية التربية والتعليم، ونراها مهمة كذلك في مواجهة الأمية البصرية والتشكيلية، بل الفنية المتزايدة في كثير من بلادنا العربية بشكل عام، إن لم يكن كلها، وهذه المقولات هي:
أولا إن الفنون تقوم بتزويدنا بالوسيط المناسب للتعبير الشخصي، وهي الحاجة العميقة التي يشعر بها الصغار والكبار.
ثانيا إن الفنون تقوم بتركيز الانتباه والطاقة وتساعد في عمليات الملاحظة الشخصية والوعي الذاتي.
ثالثا: إن الفنون ظواهر إنسانية عامة ووسائل للتخاطب الإنساني.
رابعا: تشتمل الفنون على عناصر الصوت والحركة واللون والطاقة والمساحة والخط والشكل واللغة، وهذه العناصر منعزلة أو في حالة تركيب، تكون عناصر مشتركة في المفاهيم الأساسية في عديد من الموضوعات الدراسية.
خامسا: إن الفنون تجسد، وتنقل زمنيًّا، الارتقاء الثقافي والجمالي والاجتماعي للإنسان
سادسا: إن الفنون هي تعبير ملموس عن الإبداع الإنساني وفي حد ذاتها تعكس الإدراك الإنساني للعالم.
سابعا: إن المجالات المختلفة للفنون تقدم مدى واسعًا للاختيار المهني لدى الناس وفي برامج التربية تقدم فرصًا للطلاب لاستكشاف أن يكونوا من الممثلين أو الموسيقيين أو الرسامين أو النحاتين أو المعماريين أو المصورين الفوتوغرافيين، وكلها مهن مهمة في المجتمع.
ثامنا: إن الفنون يمكن أن تقدم الكثير بالنسبة إلى مجال التربية الخاصة للأطفال المرضى والمتأخرين عقليا وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم.
تاسعا: إن الفنون، باعتبارها وسائل للاستغراق والانشغال والتعبير الشخصي والإبداعي، تعد مصدرًا للمتعة والإثارة العقلية، فهي تزودنا برؤى أخرى جديدة للمجتمع وللحياة وتحدد وتوجه الأفراد نحو قيم جديدة طالعة، وتزودنا باستبصارات حول عديد من المعاني، وتقدم الفرص المناسبة لتحقيق الذات وتشجيع ارتقاء الإبداع.
ويري د. شاكر: إننا نتفق مع كل هذه المقولات حول أهمية الفن في حياة الإنسان، ونتفق أيضًا مع القول بأهمية التركيز على تعلم وتذوق الفنون خلال كل مراحل التربية والتعليم، ونتفق بصفة خاصة مع المنظور السيكولوجي الذي يربط ما بين الفن والإبداع بشكل عام.
ويضيف: لقد قمت في هذا الكتاب بالاهتمام بفنون الرسم والتصوير والنحت على نحو خاص؛ وذلك بوصفها الفنون البصرية الأولى التي أبدعها الإنسان منذ فنون الكهوف والجبال، كذلك لأن هذه الفنون قد استمرت مع الإنسان عبر تاريخه وخضعت لتطورات كثيرة مع تطوراته واكتشافاته - كما أن الرسم مثلا هو أول ما يظهر من أشكال فنية أو شبه فنية لدى الأطفال وتعد الفنون البصرية كذلك من الفنون التي تغطي مجالات الحياة كافة من الأثاثات والأحذية والملابس والأعمال الفنية وحتى أدق الأشياء مثل أفلام الكتابة وطباعة الكتب وفنون الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والتليفزيوني والسينما والكومبيوتر وتصميم مواقع الانترنت وغيرها، فإذا عرفنا أن الفنون التشكيلية وخاصة فن الرسم والتصوير كانت هي التي وقفت وراء العديد من التطورات العلمية البصرية الحديثة وخاصة خلال التطوير لفكرة المنظور الخطي والتي بلغت ذروتها في ظهور التصوير الفوتوغرافي كما عرضنا لذلك بالتفصيل في الفصل الخامس من هذا الكتاب- إذا عرفنا ذلك أدركنا ضرورة الوعي بأهمية الفنون البصرية في حياتنا المعاصرة مؤكدا، وكانت الضرورة الخاصة لظهور مثل هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
المكان ثلاثي الأبعاد مكان واقعي لكنه مكان فني أيضًا يميز الفن الواقعي وأحيانا غير الواقعي، ويستخدم الفنانون التشكيليون والمصممون المعماريون وغيرهم المكن غالباً عنصرًا إيجابيًّا في أعمالهم.
ولكنهم لا يقصرونه على المكان ثلاثي الأبعاد فقط، فقد يكون هذا المكان ثنائي الأبعاد أو ثلاثي الأبعاد أو رباعي الأبعاد، وقد يكون واقعيًّا أو متوهمًا أو متذكرًا أو متخيلاً..إلخ. كما سنعرف ذلك لاحقًا، وكما سنربطه بالفنون البصرية بشكل عام.
ويطرح د. شاكر العديد من التساؤلات منها ما الفنون البصرية هذه؟ ويجيب: إن ما نقصده بالفنون البصرية، كل تلك الفنون التي تعتمد في إنتاجها وإبداعها وفي تذوقها وتلقيها على حاسة الإبصار، أو على فعل الرؤية كي يتسع المعنى الذي نقصده بالإبصار ليشمل الرؤية البصرية الخارجية والرؤية العقلية والخيالية والوجدانية الداخلية. إذن الإبصار والمظهر الخارجي المرئي من الأمور الحاسمة في تصنيف الفنون البصرية التي تشتمل على الرسم والتصوير والنحت والعمارة وغيرها، ولكن ثمة أمورًا أخرى جوهرية مميزة لهذه الفنون سنشير إليها لاحقًا عبر صفحات هذا الكتاب.
أيضا ما عبقرية الإدراك؟ ويقول أولاً: نقول إن الإدراك - في جوهره - عملية يقوم العقل الإنساني من خلالها بإضفاء المعنى أو خلعه على المدركات الحسية التي يتلقاها أيًّا كانت، فعندما أستمع إلى كلمة "كتاب" باللغة الإنجليزية مثلا ولا أكون عارفًا بمعنى هذه الكلمة، تظل الحروف المكونة لكلمة Book مجرد اهتزازات صوتية ترتطم بطبلة أذني ولا ترتقي إلى مدارك الفهم في عقلي، أما عندما أكون عارفًا بمعنى هذه الكلمة، أو غيرها في الإنجليزية أو العربية أو غيرها من لغات العالم، فإن سماعي لهذه الكلمة قد يستدعي في ذهني كل ما يرتبط بالكتاب من صور ومعايٍر ودلالات، وهذا الاستدعاء او التمثيل العقلي للكلمة هو ما نسميه بالإدراك ويحدث هذا فيما يتعلق بالصور واللوحات والأعمال الفنية وغير ذلك من موضوعات هذا العالم. إذن الإدراك هو إعطاء المعنى للمثيرات الحسية، فما عبقرية الإدراك؟
ثانيًا: يختلف التصور العلمي الحديث للعبقرية عن ذلك التصور العلمي القديم الذي كان يربط بين العبقرية والدرجة المرتفعة جدًّا من الذكاء؛ فقد أصبح الذكاء الآن مجرد مكون واحد من مكونات العبقرية، أما المكون الآخر المهم فهو الإبداع الذي هو القدرة على الإتيان أو إنتاج كل ما هو جديد ومفيد. الذكاء تفكير في نسق مغلق، أي أن أصل إلى حل مناسب لكنه معروف سلفًا لمشكلة معينة أو لمسألة معينة كما يحدث في المقررات الدراسية التي أبرزها الآن مرحلة الثانوية العامة التي قد يحصل بعض طلابها على 100% من الدرجات، هؤلاء أذكياء لكنهم ليسوا مبدعين ولا عباقرة، فالمبدع هو من يأتي بالجديد المفيد. وتتفاوت درجات المبدعين ومستوياتهم فتكون مرتفعة أو متوسطة أو منخفضة، كذلك شأن الأذكياء قد يكون ذكاؤهم مرتفعا أو متوسطًا أو منخفضًا، فإذا اجتمعت مستويات مرتفعة من الذكاء (العام) والإبداع معًا، مهدت الطريق لظهور العبقرية في المجالات المختلفة، فإذا حدث ذلك في مجال التفكير البصري، أي مجال فهم العالم وإبداعه من خلال لغة الشكل والصورة، وظهرت لنا عبقريات مثل ليوناردو دافنشي أو بيكاسو أو غيرهما. وقد يحدث الأمر نفسه فيما يتعلق باجتماع مستويات الذكاء والإبداع في الحقول المعرفية المختلفة الأخرى.
ومثلما ميز توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" بين نوعين من العلماء: الثوريين الذين يقدمون الإنجازات الكبرى والمطورين الذين يمتدون بأفكار الثوريين إلى مسافة أبعد، فكذلك يمكن التمييز في مجال الفنون البصرية بين فنانين مجددين وفنانين مجودين؛ حيث يقدم النوع المجود من الفنانين الأفكار الأساسية والأساليب بالنسبة إلى المدارس والاتجاهات الفنية الجديدة، ثم يهتم المجودون بهذه الأفكار والأساليب وينشغلون.
قد يكون المجدد ذكيًّا ومبدعًا، وكذلك قد يكون المجود ذكيًّا ومبدعًا، أما الفنان العبقري فهو الذي يجمع بين الذكاء والإبداع، وبين التجديد والتجويد، ثم إنه يصهر ذلك كله في بوتقة واحدة فذة ونادرة.
فإذا أضيفت إلى ذلك كله مستويات مناسبة من الذكاء العاطفي أو الانفعالي، وكذلك الذكاء الشخصي والاجتماعي، كانت العبقرية مؤكدة. إن الذكاء العاطفي Emotional Intelligence مهم جدًّا في التحقيق والتجسيد لذكاء الإدراك وعبقريته، فما الذكاء العاطفي هذا باختصار؟ لقد طرح العالم " دانييل جولمان " الفكرة الخاصة بهذا الذكاء في كتابه المسمى " الذكاء العاطفي " والذي صدرت طبعته الأولى عام 1995م، وصدرت ترجمته العربية عام 2000م. (في سلسلة عالم المعرفة بالكويت وترجمته بتمكن: ليلى الجبالي) ويتمثل جوهر هذه الفكرة في محاولة فهم الأسباب التي تؤدي ببعض المرتفعين في الذكاء لأن يتعثروا أكاديميًّا وعمليًّا وحياتيًّا، بينما يحقق آخرون أقل منهم ذكاء بدرجة واضحة نجاحًا مدهشًا في الدراسة وفي الحياة. إن السبب يكمن فيما يسميه جولمان " الذكاء العاطفي " والذي يشمل " ضبط النفس والحماسة والمثابرة، والقدرة على حفز النفس "، وهذه المهارات كما يُقال، يمكن تعليمها للأطفال لنوفر لهم فرصًا أفضل في الدراسة والحياة، وأيًّا كانت الممكنات الذهنية التي منحتها لهم عمليات الوراثة أو الجينات الوراثية.
ويضيف د. شاكر: وكما تلعب العلاقات بين الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية دورًا كبيرًا في الذكاء العاطفي، والانفعال هو المحرك الأساسي لهذا الذكاء، وقد يحركه سلبًا أو إيجابًا، والقدرة على السيطرة على الانفعال هي أساس الإرادة وأساس الشخصية ؛ وضبط النفس والاهتمام بالآخرين والإيثار كلها عوامل إيجابية في الذكاء العاطفي؛ ومن ثم فهي تساعد على تحقيق النجاح، أما القلق خاصة عندما يصل إلى مرحلة يشلّ عندها التفكير فهو البذرة الجوهرية للفشل.
إن القلق يشل التفكير كما يشير جولمان - وعلى سبيل المثال، فإن المهام المعقدة التي تتطلب قدرًا من تركيز التفكير مثل مهمة مراقبي الحركة الجوية، والتي قد يعاني من يعملون بها من قلق مزمن من أنهم سوف يفشلون في عملهم، هذا القلق يمكن أن يؤثر في أدائهم. والمصاب بالقلق يفشل في معظم الأحوال حتى لو حصل على درجات ممتازة في اختبارات الذكاء... فالقلق يتسبب في إخفاق كل أنواع الأداء الأكاديمي، وقد تبين من دراسات مختلفة بلغت 126 دراسة (مائة وستًا وعشرين دراسة) شملت أكثر من 36 ألف شخص (ستة وثلاثين ألف شخص) أن كل من كانت لديه ميول أكثر من غيره للشعور بالقلق يكون أضعف في الأداء الأكاديمي.
وعلى الرغم من أن جولمان يستخدم مصطلح "الذكاء" لا مصطلح " التفكير "، فإن حديثه يرتبط بشكل خاص بالمهارات التي يمكن أن يتعلمها الصغار والكبار لضبط انفعالاتهم، خاصة القلق وتنشيط حساسيتهم الأخلاقية والاجتماعية والجمالية، وتوظيف ذلك كله للنجاح في الدراسة والعمل والحياة.
لقد قال عالم النفس البريطاني الشهير فرنسيس جالتون ذات مرة: "إنه لا يمكن أن يكون هنا شك بصدد فائدة موهبة التصور البصري، وخاصة عندما تخضع على نحو وافٍ للعمليات العقلية الأعلى؛ فالصورة البصرية هي أفضل أشكال التمثيل العقلي اكتمالاً، وخاصة عندما يؤخذ الشكل والوضع وعلاقات الموضوعات بالمكان في الاعتبار، وهي مهمة - أي الصورة البصرية-في كل عمل يدوي، وفي كل مهنة حين يكون التصميم مطلوبًا، وتميل تربيتنا المعتمدة على الكتب، وعلى الكلمات إلى كبت هذه الموهبة القيمة التي تقدمها لنا الطبيعة، ذلك أنها موهبة ذات أهمية في الشئون التقنية والفنية في أنها تضفي دقة على مدركاتنا، كما تضفي سدادًا على تعميماتنا، ولكننا نعمل من خلال سوء الاستخدام البليد على خنقها، بدلاً من استثمارها بفطنة معينة بحيث تأتي بأحسن النتائج. إن ما قاله جالتون منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا هو ما نحاول أن نؤكده مرة أخرى في هذا الكتاب، وذلك لأن الكثير مما قاله في هذه الفقرة التي نقلها مؤرخ الفن البريطاني الشهير هربرت ريد عنه، مازال صحيحًا وحيًّا إلى يومنا هذا وخاصة في بلادنا العربية.