حضن لجميلة
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تحدق في السقف حينا، وحينا تداعب الأنامل فجرا قد يجيء مع نقرات الماء، الذي يسقط دون ملل.. البلاط قلب بشري تتقاذفه الذكريات والهواجس.. نقاط سوداء جزر هجرتها السفن.. تترقب العابرين بذاكرة معطوبة.
تعود من رحلتها التاسعة، سندبادا ضيع سفنه، وانتظر الهاوية التي لم تأت.. يعاودها التساؤل.. بحر هواجسها ينذر بإعصار لا يبقي على شيء.
تمد يدها إلى الدرج.. تستخرج دميتها التي لم تغير فستانها الأحمر منذ سنين.. تحدق في الدمية، وتنفجر في وجهها:
-أيتها الحمقاء.. لماذا هذا الصمت الذي يقتل ببطيء؟
يسود الصمت صمت ما بعد منتصف الليل، ولم تعد تسمع إلا إلى دقات السلعة الحائطية، ونقرات الحنفية من حين لحين.
تحس بالدقات سكاكين تمزق أحشاءها.. تستعيد أغنيتها القديمة: "ما تبكيش يا جميلة، وما تخليش دمعك يهون.. أي والله نجبر لك حيلة ونعملك تلفون".
تغني في صمت.. تشعر بملوحة في فمها.. تمد يدها اليسرى لتمسح الدموع.. وتبقى اليد اليمنى تمسك بالدمية.. تواصل حديثها والدمية جامدة.. عيناها الزرقاوان تعكسان ضوء المصباح..والرموش تقاوم الانقراض..
-اخبريني.. كلميني.. لماذا هذا الصمت يا حمقاء؟
تضع فم الدمية على أذنها، وتنتظر كلاما لا يجيء.. تشعر برغبة في تمزيق جسدها، لتخرج ذلك المارد الذي يسكنها.
تمتد يدها إلى ملحق السرير.. تستخرج مرآة صغيرة.. وتستعيد مع حركة يدها عبارة كانت ترددها: "مرآتي يا مرآتي.. من أجمل الجميلات؟".. تترك المرآة لمصيرها، وتمسك بكلتا يديها وجهها.. تضغط بأصابعها، وفي كل حركة هاجس يطاردها بسكين مسموم.
-كنت أنيستي في أوقات الشدة.. أين صوتك الذي كنت أسمعه؟.. كنت تكلميني وحدي رغم أن الجميع لا يعترف بذلك.. "جميلة" ذهب كل الوحوش وبقيت في بهاءك الأزلي تقاومين الزمن.. أتذكرين أول مرة التقينا فيها؟.. لقد أحببتك من النظرة الأولى، وكنت وراء الزجاج، في واجهة ذلك المحل.. هل تذكرين؟.
تضعها جانبا.. تسند رأسها إلى الوسادة.. الدمية تقابلها.. تحدق فيها.. دقات الساعة تشعر بالزمن.. الحنفية المعطوبة تحتفل بالماء على طريقتها.. منذ يومين لم ينقطع الماء على غير العادة.
-أشعر يا حبيبتي بتعبك.. لقد كان يومك شاقا لا شك، وأنت في وقت الامتحان.. كيف كانت إجابتك؟.. لا لا تخبريني الآن، نامي يا حبيبتي وفي الصباح سنتكلم.
تمد يدها لتطفئ الضوء، تنهض مفزوعة كم تذكر شيئا مهما.. تستعيد تلك اللحظة المركزية، وتلتفت إلى جميلة قائلة لها:
-أبوك.. طالت غيبته..
لم تنتظر جوابا، وهي تحوم حول تلك اللحظة.. كانت يدها ترتعش، وهي تمتد في خجل لتعانق يدا خشنة.. كانا يتجولان في شوارع المدينة، يختلسان سعادة.. امتد بصرها إلى ما وراء زجاج الواجهة، وبقيت تمثالا في مكانها.. سهت عن الكلمات الشاعرة التي كانت تسمعها.. يقطع كلامها منتبها إليها، ثم يقول:
-ماذا حصل؟
تشير بيدها إلى ما وراء الزجاج، ثم تقول: "إنها هي.. هي ذي جميلة"، يضحك لطفولتها ويقول: "ستكون لك.. لن تعودي إلى البيت إلا وجميلة ابنتنا في حضنك الساحر".
تضمها إلى صدرها لأول مرة.. تشعر بدمعة حنان ساخنة على خدها.. وتسمعه يقول:
-هاهي ابنتك جميلة.. لقد وضعتها دون حمل.. ولم يمسسك بشر.
تجيبه بمنطقه، والحنان يتحول إلى فرح عامر:
-ماذا تقول؟.. هل فقدت ذاكرتك؟.. لقد حملتها وهنا على وهن.. وجاءت بعملية قيصرية كما شهدت، وكدت أموت قبل أن ترى ابنتي النور.
تعود إلى البيت، وجميلة في حضنها.. يطلب منها موعدا آخر، فتقول أن يتصل بها هاتفيا في نهاية الأسبوع المقبل، وستكون بعد خمس دقائق من ذلك بين ذراعيه، قائلة له: "شبيك لبيك".
ينتهي أسبوع ويبتدئ آخر، ثم ينتهي ويبتدئ آخر.. تنتهي أسابيع، تمر الشهور دون أ، يتصل بها.. تبقى في انتظار الفارس الذي غاب.. تسأل عنه معارفه فلا تعرف من تصدق.
يقال لها بأن الفارس المنتظر انتحر.. ويقال بأنه نحر في حاجز سمي بـ"المزيف"، ويقال أيضا أنه حصل على بطاقة أدخلته العالم الجديد، وأنسته التي وعدته بلقاء في نهاية أسبوع مر منذ زمن بعيد.
تشعر بتصدع في جهاز أعصابها.. تفقد السيطرة على ذاتها.. وتغادر عالم المنطق.. ينهض من كان في البيت، يأتي صوت يقول لها:
-لماذا هذا الصراخ في هذه الساعة المتأخرة؟.. ألم تتناولي حبوبك المهدئة؟
يناولونها الدواء بقوة.. تشعر باسترخاء بعد تشنج.. لم تعد تسمع دقات الساعة، ونقرات الحنفية.. تسحب بطريقة آلية جميلة إلى حضنها.. تدندن والدموع في عينيها: "ما تبكيش يا جميلة، وما تخليش دمعك يهون، آي والله نجبر لك حيلة ونعمل لك تلفون"، ثم تلتفت هناك حيث الهاتف لعلها تسمع رنينا.
khierchouar@gmail.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لعبة اللغة
قارىء -قصة مريحة حين تقرأ بروّية تعيد قارئهاإلى حلم التخيل، كذلك اعجبتني صورة " الديج" الذي يؤدي فريضة الصباح -الغناء الصباحي.