ثقافات

كارل كراوس أو حياة اللغة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ولد في عائلة يهودية ثرية في مدينة تشيكيةالـ 28 نيسان1874 ومات في فيينا في 12 حزيران1936

عبد القادر الجنابي من باريس: في سن مبكرة، أبدى كارل كراوس اهتماما متميزا في عالم الفكر - اللغة. دخل جامعة فيينا على أمل أن يدرس، عن كثب،

بريشة اوسكار كوكشكا

القانون والفلسفة والأدب الألماني، لكنه لم يحضر الدروس إلا نادرا وهكذا استطاع أن ينجو بذهنه من نيل الشهادة!!
أول عمل رئيسي له هو "أدب قـُوّضَ" (1896)، وهو بمثابة مرثية ظريفة لمقهى "غرين شتايدل: اسطبل كبار كتّاب النمسا آنذاك"، وفي الأخص "حلقة فيينا الشابة". بعد ثلاث سنوات، أصدرَ عمله الثاني "تاج من أجل صهيون" وكلمة تاج بالألمانية تعني أيضا "كراونة" (عملة نقدية أشبه بدرهم)، وبالتالي يُصبح العنوان المضمر: "كراونة (أو درهم) من أجل صهيون". والكتاب هذا يتضمن معاداته التي لم يحد عنها سحابةَ عمره، للحركة الصهيونية، ولمؤسسها ثيودور هرتزل. والجدير بالذكر أن بن غوريون اصدر عام 1936، أي مباشرة بعد موت كراوس، كراسا عنوانه "بصدد كراوس" يتهمه فيه باللاسامية معتبرا اياه يهوديا خارجا على اليهودية". غالبا ما كان كراوس يستفز مشاعر اليهود بجمل جد قاسية، كهذه مثلا: "لديهم الصحافة، ولديهم البورصة، والآن لديهم أيضا الللاوعي." بل حتى ذات مرة وزع اعلانا في شوارع فيينا جاء فيه: "ندعوكم لحضور مسرحية (لير) لشكسبير ترجمها يهودي".
وبعد أن بدأ نجم شهرته بالصعود عبر قصائده اللاذعة، ومقالاته التي تعتبر أول نقد مكتوب يحذر من خطورة الإعلام كعامل تدمير لملكة الإدراك، طلبت منه صحيفة "الصحافة الحرة الجديدة" (الشهيرة آنذاك كواحدة من كبريات صحف العالم)، أن يشرف على "شؤونها الثقافية"، إلا أن كراوس

كارل كراوس
بقلم غيورغ تراكل

كاهن الحقيقة الأبيض الأكبر
صوت بلّوري،مأهول بنسمة الله الثلجية
ساحرٌ مُحتـَدمُ الغضب
في معطفهِ المتوهج تصلصل عُـدّة المحاربِ الزرقاء

رفض الطلب تأكيدا لاستعلائه على "الصحافة التي تبدو، للبعض، وكأنها في خدمة الحاضر بينما هي في حقيقة الأمر تدمير التفتح الذهني للأجيال المقبلة". واثر هذا الرفض المعبر عن روح لاتقبل التواطؤ، أسند مسؤولو الصحيفة مهمة "الاشراف" هذه إلى هرتزل، "ملك اليهود الباحث عن مملكة". وغداة قبول هرتزل العرض، قال كراوس: "إن الصحافة والصهيونية ما هما سوى وجهين لعملة واحدة ألا وهي: التلاعب بمشاعر الأفراد تمهيدا لقيام "لاوعي" يُستغل بضاعةً يتاجر بها رأسماليون جدد يطيب لهم أن يسموا أنفسهم بالمحللين النفسانيين". والمحلل النفساني، في نظر كراوس، هو الشخص الذي "يسرق أحلامنا كما لو أنها جيوبنا". وكان يقصد في شذرته المأثورة هذه فرويد.
إلا أن كراوس قام بحملة لاهوادة فيها ضد هذا الثالوث اللامقدس (الإعلام التضليلي، السياسة الاستيطانية وتجارة النفـْس)، مُصدّرا نشرة صغيرة باسم "المشعل" التي ستعرف فيما بعد بأرشيف الهجوم المضاد على مظاهر الحياة البائسة، والتي تحولت الى شبه دفاتر كراوس "الفردية - الذاتية"، المتعارضة جذريا مع "العامة - الموضوعية". وفي الحقيقة، أن "المشعل"، في نظر المؤرخين، سجل نقدي يعكس بوضوح أصالة كراوس في مواجهته الراديكالية، خارج المنتديات والكنائس المعرفية حيث "احصائيو الحياة تتغير مقولاتهم، في حين يكشرون عن الأنياب نفسها كل مرة"!

صدر العدد الأول من "المشعل" Die Fackelفي أول نيسان 1899، صاعقا القارئ باحدى بديهيات كراوس اللااعتيادية: "الغاية هي تبديد ظلمات أرض لم تعرف اشراقة الشمس، بخلاف امبراطورية شارل الخامس" (ومن المعروف أن عهد شارل النمساوي هو عصر ظلام أصلا). كما أن كراوس لم يناقش "ما الذي سننشر؟" بل "ماذا سنحطم". وقد ضمت هيئة تحرير "المشعل" عددا من الأسماء اللامعة، استغنى عنها كراوس عام 1911، ليتفرد بمتعة "تنفير نوع خاص من القراء".كما ان لاختيارعنوان "المشعل" دلالة كبرى تكشف عنرغبة كراوس الصادقةفي انارة المخرج للغة من ظلمات سوء الاستعمال.وهكذا وحتى العدد الأخير، طفق كراوس يحرر كامل مواد المجلة الى أن أطفأ شعلة "المشعل" هذه نافخا عليها تساؤل العدد الختامي (شباط 1936): "ما الذي بقيَ لكراوس ان يقوله ما دام سوء استعمال اللغة قد انتصر؟"

اللغة - الخلاص
ليس غريبا أن نرى "سليل قاطني بيت اللغة القديم" (على حد عبارة جورج تراكل)، كارل كراوس يدين النازية لأنها لم تأت بكلمة جديدة. ذلك أن أهمية اللغة، في نظره، تتجاوز أهمية الماء والهواء للحياة. فاللغة، وفقا له، هي المجتمع. وأي هزيمة يلحق بها إنما هي هزيمة لهذا المجتمع. وأفضل تلخيص لمفهوم اللغة عند كراوس هو ما كتبه والتر بنيامين في مقالته عن كراوس: "أي تواطؤ في اللغة تواطؤ في القضية".
كان كراوس هائما باللغة في الأخص الألمانية، لأنها بعكس اللغات الأخرى، غير مهذبة، بل دائما متصدية. غالبا ما مد كراوس يد المساعدة لإنقاذ اللغة من وظيفتها كوسيلة للانحطاط الثقافي. لكن اللغة هي أيضا تعرف كيف تثأر لنفسها من أولئك الذين يحطونها ويهزمونها في معارك الحياة. فاللغة"، كما يرى كراوس، "خليلةٌ للفكر.... فإذا ما شاء أحد أن يغيّر هذه العلاقة، فاللغة ستؤدي له أعمالها المنزلية لكنها ستغلق رحمَها بوجهه... على المرء أن يريح اللغة من تشنجاتها لكي تكافئه بفكرة في كل فقرة". وقد غرف كراوس كما يقول، "من بئر اللغة أفكارا لا يمتلكها ولا يمكن حتى التعبير عنها بكلمات".
كان يفكر مليا ولساعات طويلة بموقع مناسب للفاصلة في الجملة. لا لدقة نحوية بل "بحثا عن السعادة التي ضيعتها البشرية". كان كراوس يطهّر نفسه بتطهيره للغته. لكن ما إن طرح سوء الاستعمال اللغة أرضا، لفظ كراوس أنفاسه الأخيرة. كراوس "هذا المزيج الغريب من النظرية الرجعية والممارسة الثورية (والتر بنيامين)... له موقف تحرري من اللغة لكنه موقف أخلاقي في العمق... حد أنه بات في موقفه هذا ارميا عصره، وشاهدا على هلاك الحقبة التي يعيشها. من هنا يجب أن نفهم أن نقده لليهودية كنقد للبشرية جمعاء، إذ أنها قصّرت في تأدية المهمة التي اسندها "الخالق" اليها. وحتى يكون أمينا للغة، كتب بصدد الحرب العالمية الأولى العبارة التالية: "إن ما مُخاطر به، فيهذه الحرب، هو حياة اللغة أو موتها".

كلنا مرضى:
من الظواهر التي تصدى لها كراوس الحذر، حتى في أحلامه، من المتطفلين، ظاهرة التحليل النفساني التي لايقل دورها عن دور افتتاحيات الصحافة في قتل اللغة - الحياة. وفقا لكراوس، كلنا مرضى، لكن المحلل النفساني هو وحده الفخور بهذا المرض. والعلاج المزعوم الذي يقدمه هذا المحلل هو بالضبط الخطر المحدق بالصحة النفسية. إذ أنه "يدرك جيدا أن لا وعي الأفراد يعرف عن وعيه أكثر مما يدعيه وعيه هو من معرفة بـلاوعي الأفراد. ولا يخفى على احد أن محور اهتمام المحلل النفساني ليس النفس الإنسانية بل النفس الاسـ...تية". وإذا "سمعتَ محللا نفسانيا ينطق بكلمة (انحراف)، عليك أن تدرك فورا أن حاستك السادسة قد حوصرت... وبقدر ما أن المجتمع المعاصر لا يحتاج إلى مقص الرقيب، فالصحافيون يقومون بهذه المهمة خير قيام، كذلك فهو ليس في حاجة إلى قاعات لمحاكمة النفس فعدد صالات المحللين النفسانيين بات لا يُحصى. كما أن ما يدعيه المحلل النفساني بأنه يفسر أحلامنا كي يرشدنا إلى أغوار النفس، إنما هو ادعاء باطل، إذ ها هو يلقي بنا من أعلى براءتنا إلى مستنقع الشعور بالذنب. نعم! إذا كان الله قد خلق الإنسان من تراب، فالمحلل النفساني يختزله ترابا".

وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن معظم أعمال كارل كراوسالتي صدرت في كتب منفصلة، قد نشرت أولا في مجلته "المشعل". ومن هذه الأعمال: "الأخلاقية والعدالة المجرمة"، "كلمات منظومة"، "أقوال وأقوال مضادة"، "مسرح الحلم"، "أدب وأكاذيب" وأخيرا عمله الجبار "الأيام الأخيرة للبشرية".

أفـورزمات Aphorisms

ليس هناك مقابل مرض بالعربية لمصطلح Aphorism (مشتق من اليونانية aphorismos"تحديدات نهائية"،الذي كان له اول استعمال فيكتابات الطبيب الأول بقراط حيث تعريف الشيء وضبط افقه).فهناك من يترجمه: حكمة موجزة، قول مأثور أو كلمة جامعة؛ جوامع الكلم. وأرى من الأفضل أن لا تـُترجَم وإنما أن يُحافظ على اللفظ الغربي: "أفورزم" وفي الجمع: أفورزمات.والأفورزم فن أدبي يتميز باقتصاده اللغوي حيث كلما ضاق بسطر أو سطرين أتسع معناه؛ وقد عبر مجازياكارل كراوس عن اتساع جملة من سطر وعمقها، بقوله أنه من الصعب إملاء أفورزم على الطبـّاع، إذ سيحتاج الأمر إلى وقت طويل. فالأفورزم جامع حكمة أقرب الى النبذة لكنها مستقلة بذاتها، حتى لواقتطعت من مقال او نص،بماأنها تنطوي على حكمة. وفي نظر كراوس، "إن هذا الذي يستطيع أن يكتب أفورزم، عليه أن لا يضيّع وقته بكتابة مقالات"... والأفورزم"، كما يقول كراوس، "لا تطابق الحقيقة، فهي إما نصف حقيقة أو حقيقة ونصف". هنا طائفة من أفورزمات كارل كراوس المأثورة:

1- أنا وجمهوري في حالة تفاهم رائع: لا هو يسمع ما أقول ولا أنا أقول ما يريد أن يسمع.

2- شوارع فيينا مبلّطة بالثقافة، شوارع المدن الأخرى بالإسفلت.

3- قصيدةٌ ماتبقىجيدة إلى أن نعرف من كتبها.

4- كي يكون لك حُكم واضح عن أصدقائك، استشر أحلامك.

5- حان الوقتُ لكي ينوّر الأطفالُ والديهم حول أسرارِ الجنس.

6- تعرفت على رجلٍٍ يحمل ثقافته في جيب سترته إذ فيه متسع أكثر مما في رأسه.

7- الغيرة هي نباح كلب يلفت انتباه اللصوص.

8- الصحافيون يكتبون لأنه ليس لديهم أي شيء ليقولوه، وإذا كان لديهم شيء يقولونه، فلأنهم يكتبون.

9- معظم الكلام غير المفهوم يأتي من أولئك الذين لا يرون أي فائدة في اللغة سوى أن تجعلهم مفهومين.

10- أنا ضليع فقط بلغة الآخرين، أما لغتي فلتتصرف بي كما تشاء.

11- العذرية هي المثل الأعلى لأولئك الذين يريدون افتضاض البكارة.

12- لغة الشاعر - حب امرأة: إنه الشيء الذي يحدث دائما للمرة الأولى.

13- لغتي هي العاهرة المبتذلة التي أحوّلها إلى عذراء.

14- الجملة صفٌ لا يعرف الهدوء.

15-اللغة هي الوهم الوحيد الذي لانهايةلقدرته الموهمة، معين لاينضب يحافظ على الحياة من فقر مدقع. ليتعلم الناس خدمة اللغة.

16- ما يهضمه المعلمون، يبلعه التلاميذ.

17- في البدء كانت هناك نسخة ُكتابٍ للصحافة، وتسلّمها رجلٌ من الناشر. فكتب عرضًا للكتاب. ثم كتب كتابا ارتضى الناشر بنشره، وأرسله الى آخر ليعرضه. الشخص الذي تسلمه أعجبه جدا.هكذانشأ الأدب الحديث.

18- أدب اليوم وصفات طبية يكتبها مُرضى.

19- الفضيحة تبدأ عندما يضع الشرطة حدا لها.

20- الاسم هو الرأس، والفعل هو القدم، والصفة هي اليد. الصحافيون يكتبون بأيديهم.

21- إذا كان هناك خطأ مطبعي في جملة ماولا يزال لها معنى، فإنها ليست بفكرة.

22- رخّا هنريش هاينه صدرية اللغة الألمانية إلى حد يستطيع معه اليوم أي بائع صغير مداعبة ثدييها.

23- كاتبٌ ما،من قلّة الاعتراف به، قد يُصبح شخصا مَهووسا بالعظمة.

24- أألامُ إذا كانت الهلوسات والرؤى حيّةً ولها أسماء واقامات دائمة.

25 - يا رب اغفر لهم لأنهم يدرون ما يعملون.

ملاحظة: أول نشر لهذه المقالة وجزء كبير من الأفورزمات، كان في نوفمبر عام 1977 في أسبوعية "النهار العربي والدولي" التي كان يدير تحريرها أنسي الحاج. أما تعريف الأفورزم فكتبته خصيصا ليكمل إعادة النشر هذه. وترجمة الأفورزمات وقصيدة تراكلتمت آنذاكعن الترجمة الانجليزية الفذة التي قام بها اول دارسي ومترجمي اعمال كارل كراوس: هاري زوهن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تحية طيبة
نصيف الناصري -

الاستاذ عبد القادر الجنابي تحية لجهدك الثقافي والابداعي الطيب والنبيل . موضوع ممتع جداً

شكراَ
هيثم -

اليس غريباَ مدى راهنيته،أو لا نفع لكل ما يكتب فكلنا يعرف ويصمت

رائع كالعادة
عصام عبدالله -

المبدع البديع عبدالقادر الجنابي .. عرفت الآن معني هذه العبارة : الفلسفة أعمق من الأدب لأنها تدرك أن الأدب أعمق منها ! .... تحياتي .

يعطيك الف عافيه
سعود -

طرح جميل تسلم على مجهودك الادبي