ثقافات

الغول على مَوتِها يغنّي!!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصر جميل شعث من غزة: عن مركز "أوغاريت" الثقافي، برام الله، صدر للكاتب الفلسطيني يسري الغول، من غزة، مجموعة لها شكل السرد، بعنوان "على موتها أغنّي". ولو تأخّرَتْ "أوغاريت"، لا سمح الله، عن إرسال مئة نسخة من رام الله إلى غزة، لبضعة أيام، لما تمكن الغول، بسبب الانقلاب على الشرعية، من أنْ يفرحَ بدخول حوالي مئة نسخة معبر "إيرز" الإسرائيلي، الذي يفصل شمال عن جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة! يذكر أن المئات من سكان غزة يحتشدون، الآن، على المعبر ذاته، في انتظار فرحة العبور إلى الضفة الغربية، هربا من الاقتتال. ويذكر، أيضًا، أنّ آخر نصّ في هذا الإصدار يحمل عنوان "العبور"، وفيه يتناول الكاتب تجربة المواطن على "معبر رفح البري" بين مصر أم الدنيا وقطاع غزة العاقّ!
مجموعة الغول العابرة تضمّنت 23 نصّا، في 92 صفحة، من القطع المتوسط، بإخراج وغلاف جميلين. أما النصوص فحاءت مرتبطة بوقائع وأحداث وتجارب فلسطينية صرفة مجترة ؛ بأسلوب كتابة أقرب إلى التداعيات أو المذكرات واليوميات والرسائل؛ منها إلى "القصة القصيرة" المعروفة بشروطها الفنية وأفكارها التي تميّزها عن غيرها من ضروب الكتابة الأخرى. غير أن كاتبها أو الناشر يتمسّك بتسمية "قصص" على الغلاف. على سطوح السرد تتربع هموم المكان العاطفيّ الملفوف بأسلوب أهمّ ما يميّزه أنه صادر عن عنفوان مواطن يعكس حبّه ووجعه وجزعه وغناءه الوطني في "تمارين" هي وعاء لعاطفة انفعالية، لها ما يبرّرها في حدود الواقع. لذا تأتي عناوين النصوص شعارية وراديكالية مثل ( فلسطين تحت المطر، خلف جدار الموت، أسطورة الزمن الغائب، الغضب، لبنان الجرح.. ). فضلا عن ن هناك ما يمكن أن نعتبره في عداد الحاجة لأن نكون عاطفيين بإفراط في أثناء كتابة مقالة أو خاطرة جياشة وطرية كدمعة، في جريدة ناطقة بالعربية أو بالعبرية، عن فلسطين الحاضر والذاكرة وآلامها.
قد يكون هذا الإصدار مَحلّيّا تمامًا ولا حاجة لتناوله أمام القاريء العربي. ولكنه في ظل إرتفاع منسوب الجنون والفراغ والصلات المشوّهة بين غزة ورام الله واختلاط الأوراق السياسية؛ علينا أن نعتبر مثل هذه الكتابة التي تخلط وتسمي الأشياء بغير مسمياتها، مؤشرًا لعودة وانتصار أدبيات الضرورة وفوضى التسجيل على الفنّ. إنه الانتصار المشوّه الذي لطالما حاربناها كفلسطينيين واجتهدنا لطرد السنتمنتالية الوطنية والجائحات وهوى التسجيل المباشر للصراخ والدم والحمام السياسي والخراب المباشر من أدبنا. ولعل محمود درويش أكثر المتأذّين من تسجيلاته أو "تمارينه" الأولى. وفي هذه، حقيقية، نحن نقف معه ونتفهّم تنكّره، لـ"نَظْم المقاومة" وحياءَه في حواراته ويومياته الآن. والمجيء على ذكر مقاومة درويش كمثال هاهنا ليس إلا من باب الشيء بالشيء يذكر، فالغول الذي على موتها يغني يفتتح مجموعته بشاهد ناريّ من نظْم شاعر المقاومة: "إنا حملنا الحزن أعوامًا/ وما طلع الصباح/ والحزن نار تخمد الأيام شهوتها/ وتوقظها الرياح/ والريح عندك كيف تلجمها ومالك من سلاح/ إلا لقاء الريح والنيران/ في وطن مباح". ومن هنا، فإن منسوب الخوف، من طرفنا، على الشعر والقصة القصيرة بوصفهما فنّا مكتوبًا هو أعلى من الخوف على الحكاية الفلسطينية من اللثام والانقلابات وخلط الأوراق والمؤامرة والسذاجة.
وعلى الرغم من أن الغول يكتب نصوصه في ظل طرفي الصراع المألوفين: الإحتلال والوطن ؛ إلا أن ثمة في النصوص ما يحمل في داخله الجلبة وصوت الأخوة والأسرة في ساعة يمكن أن نعتبرها وطنية كئيبة الآن، وبالتحديد الآن. فمثلاً، في سطور نختارها لأنها قويّة من النصّ الأوّل الذي منح المجموعة عنوانه يكتب الغول: " في صباي كنت ساذجًا كما أنا الآن، لكنني اللحظة أشدّ من ذي قبل، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني، بل صوت أخواتي من حولي أيضًا، وزوجتي التي تجلس بقربي هنا، ساعة كئيبة هذه التي تزورني. اليوم بت مدركـًا أنه عام الحزن والجزع."(ص4). كذلك، نعثر على شاهد آخرَ يمتاز بقوة مع تصاعد العاطفة أو المأساة الوطنية في نص "فلسطين تحت المطر"، حيث يكتب الغول: "شيء يرجوني التمهل، أسقط كتلاً من الحقد، الثلج، وفوق سطح منزلي تتكاثف كاختناقي، أتعثر مع أخي، نسقط بعد تكسر الألواح القرميدية المتهتكة، نصعد وتصعد اليد لتكمل مشوار الحرث في ضباب الماء الواهن، قطرة أخرى وأشجار السرو تظللني، عجوز تجري كصبية في العشرين من موتها، أتعثر بصورة مخيمي، وأبكي. تمتزج أمطاري بلوعتي، غربة في وطن، قطرة أنقى من دموعها، حبي أفرشه معها لها، تلك التي باعدت بيني وظلي، أشيح بوجهي عن تلك السقطة من الماء، أغربل بقايا شتائي، الوطن يتلبّد بسحب الانفجار: فلسطين تحت المطر."(ص21). ولكننا في الغالب سنشهد تنقلات الكاتب بطريقة عاطفية لا تغادر لجدة الأفكار في المكان ذاته المنغلق على الماضى والراهن دون المستقبل ؛ الأمر الذي معه نرى الغناء واللغة في حالة تكرار لا تعود إلا مآخذ تتطلب الاهتمام بتجديد الأفكار واللغة. هناك نصّ بعنوان وجه غريب يوزّعه الغول على خمسة عناوين فرعية هي ( الوهم، المرأة، المحققون، الرجال، السجين) ؛ إذ يمكن اعتبار الحركة السردية ومعالجة الوصف في فرعية "الوهم" تحديدًا حقيقةً تحققت فيها شروط فنية، بالترافق مع تقدّم الخاص على العام. إذًا، تعالوا قبل أن نختم، نقرأ، معـًا، هذا الجانب من هذا الوهم الجميل الذي نحض عليه في أدب الداخل: "ينظر أمامه بأسى، يفرك عينيه، يتأمله جيدًا، شيءٌ في نفسه يجعله متأكدًا من أنه رأى ذلك الوجه الغريب من قبل، يسترجع ماضيًا قريبًا، يمسح رأسَه العفن، يهرش بيديه ظهره الممتليء بالبثور، تخترق عيناه السقف، لم يستطع تذكر الوجوه التي تداخلت جميعها، لام نفسه على ذلك، علم أن المرض حل بأركانه المتعبة، تأمله جيد مرة أخرى، أغمض عينيه فترة قصيرة، دارت أجهزة العقل الميت دورتها المعهودة، دون أن يعرف كيف حدث له أن ينسى هذا الوجه، كأنه يعرفه، أو رآه في يوم غابر طغت عليه أمواج دهر مفعم برائحة الخراب. لا يدري، يظن في نفسه أن هذه التشققات والتجاعيد أضحت مألوفة لديه: الجسد النحيف، العيون الجاحظة، الأنف ذو الأرنبة الدقيقة، كل هذا يذكره بشخص كان يعرفه، لكن لا يدري متى أو أين كان ذلك؟" (ص24)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف