ثقافات

بابل: تعرية الشر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

العالم مكان بلا أفق ولا نافذة.
الكل يشارك في الجريمة.

صالح حسن فارس من أمستردام: تمثل "بابل" أحد الرموز الكبيرة في المخيال والذاكرة الانسانية وليس العراقية فقط. بابل المدينة التي كانت غنية بتاريخها وتراثها، والتي تغنى بها وبفتحها "الاسكندر المقدوني"، بابل هي الدنيا. هل حافظت على رمزيتها السحرية تلك في خيالنا الانساني؟! سؤال تحاول أن تجيب عليه بشكل غير مباشر الكاتبة والروائية اليسارية النمساوية "الفريدا يلينك". الحائزة على جائزة نوبل للاداب عام 2004. في عملها المسرحي الجديد (بابل)Babel لفرقة "فينا بورغ" المسرحية النمساوية الذي قدمته الاسبوع الماضي ضمن فعاليات "مهرجان ولندا العالمي للفنون" على قاعة مسرح "ستاتس خاو بورخ" بأمستردام. ينطلق العمل من أحداث سجن أبو غريب ومعركة الفلوجة في العراق لينتقل في عالم متشظ يتمحور حول العنف والجنس والدين، في رحلة انثربولوجية ثقافية في اعماق البشرية، وأهم أحد العناصر المركبة والمثيرة للجدل التي كانت حاضرة بقوة "عنف، جنس، ودين". تتشابك هذه العناصر المركبة والمعقدة لتنسج عملا مسرحيا مثيراً يحمل المفاجآت الكثيرة وصدمة قاسية للجمهور. منذ اللوهلة الاولى لدخول القاعة يدرك المشاهد بدء العمل المسرحي حيث تم توزيع قطع صغيرة من شريط شفاف ملون يستخدم على المصابيح الضوئية لتغير الالوان وتسمى "جلاتين ". من هنا بدأت مفاجآت العرض.بعدها جاءنا صوت عذب من بعيد وهذا يحدث عادة في المسارح، يخبرنا باغلاق جهاز التليفون النقال لكن هذه المرة استمر الكلام طويلاً مخترقاً العتمة، ربما يأتي هذا المدخل منسجما مع عنوان وروح العمل، أخبرنا الصوت إن بامكاننا أن نلتقط صورا للممثلين العراة الذين سوف سيظهرون بعد قليل، هذه هي المفاجأة الثانية، وربما المفاجأة الاخرى تأتي لاحقا!.
نقلنا مخرج العمل الألماني "نيكولاس شتيمان" إلى عالم فنطازي متخيل. حيث صنع من نص "بابل" عملاً تراجيكوميديا ينمو فيه العرض من البعد الواحد الى البعد الثالث، يقوم المخرج طوال العرض بخداع أو تضليل الجمهور في مشاهد سريعة تنتقل فجأة من مسرح دمى إلى غرفة منزلية وإلى ملهى ليلي والى سجن وبالعكس.
ايخلو العمل من الجرأة التي زعزعت التابوهات وفي مقدمتها مشاهد الجنس التي كانت حاضرة بقوة، وكذلك القسوة التي صفع بها الجمهور لايقاظه ربما أو لإشراكه بالجريمة. انها ادانه مطلقة للارهاب وتعرية الشر في كل مكان وضد الحرب على العراق، والغوص في تفاصيل الشخصيات التي تعرضت للعذاب وانتهاك حرمتها، على هذا النحو يسير المخرج بعمله منذ البداية المبهرة حيث نقطة الانطلاقة الاولى كانت من خلف الستارة الحمراء المغلقة، ومن تحتحا تظهر اشكال دمى متحركة صممت بمهارة فائقة وراحت هذه الدمى تعلن عن نفسها وتسرد لنا وقائع المسرحية واحوال الناس. مايلفت الانتباه في هذا العرض هو مشهد الاستهلال الذي جاء على لسان الدمى، استمر المخرج باللعب الجميل في استخدام اللون والاضاءة.
بعدها تنفتح الستارة على بيت تقليدي تدور فيه الاحداث بين الشخصيات عن الدين والعنف، ومن ثم ينقلنا الى سجن وأماكن تعذيب البشر فيه، حيث خيم على هذا المشهد جو استفزازي للجمهور اذ سلطت الاضاءة القوية من مصادر عديدة بمواجهة الجمهور. هل اراد المخرج ان بهذه القسوة أن يعاقب الجمهور أم اراد أن يقول لنا الكل يشارك في الجريمة أم اضاءة الجريمة القابعة في الظلام، العنف وحمامات الدم والحرب و تعرية الشر؟

بصريا نجح المخرج في جعل المتفرج يغوص في ثنايا العمل البصرية، لكنه اسرف في استخدام التكلنوجيا ومشاهد التعري، ولون الدم، هذا بالاضافة الى الترجمة التي اربكت المشاهد وشتت افكاره من خلال متابعة الاحداث على الخشبة والترجمة على الشاشة التي كانت جد مرتفعة، ويبدو أن هذا كان خياراً إخراجياً، لخلق جو من الإرباك المقصود. العمل ثقيل حزين حيث يبدو العالم عبارة عن مكان بلا أفق ولا نافذة، بهذه النظرة الاحادية استطاع المخرج أن ينقل الوحشية والقسوة الى نفوسنا بلا حاجز أو خوف انها تعرية كاملة للانسان، للعالم، وياتي هذا العمل كاحتجاج أو صرخة بوجه العنف والتطرف في العالم وطقوسه الجنائزية التي نسمع بها ونشاهدها كل يوم على شاشة التلفاز والنت.
كانت كلمة الموت حاضرة في العرض المسرحي بشكل مفزع ومثير، ولايتوقف النص عن عند هذا الحد بل راح يمتد الى العنف والاختطاف والقتل والدم والفاجعة التي تلاحق الانسان اينما حل. لا يخفى على الذين شاهدوا هذا العمل من قوة النص على الرغم من اطالته. رغم القوة الواضحة للنص لكن السرد التقريري طغى على جماليات العرض البصرية مما أفسد علينا المشاهدة.
لقد خسر العمل كثيراً من قوته بسبب سرد الاحداث بشكل ممل والتركيز على مشاهد التعري التي لامبرر لها وكان بامكان المخرج تكثيفها، وكذلك اغراق المسرح بالتكنلوجيا التي اصبحت موضة ي المسرح الاوربي والامريكي. وقد غطت هذه السلبيات على الأداء المتميز للممثلين.
أخبرنا دليل المهرجان عن النص: ( نعم سأفتح عيونكم ، بعد أحداث 11 سبتمر عام 2001 بعد مرور فترة قليلة على الالفية، أصبح واضحا للجميع ان خط الصراع انتقل من شرق غرب إلى شمال جنوب....).ولد المخرج "نيكولاس شتيمان" في مدينة هامبورغ الالمانية 1968 ودرس الاخراج وتخرج فيها وقد اخرج اعمالا مسرحية كثيرة منها هملت، انتجيونا، وغيرها من الاعمال المسرحية الاخرى، ويعتمد في اخراجه على التكنلوجيا والملتي ميديا.

salehhassanfaris.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف