لماذا تراجع دورُ المؤسسة الثقافية العربية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الخارج يهددها والداخل يرفضها ويشكك في مصداقيتها
د. محمد حسن عبد الله : يدخل في صنع أزمة المؤسسة الثقافية غياب المثقف الرائد، المثقف الملهم للسلطة وليس التابع لها فضلاً عن أن يكون ضالعًا معها في الخداع للمجتمع...
د. طه وادي : تسير بفكر فوقي وبتوجهات رسمية تواكب الخطاب السياسي لترضى عنها الحكومات وهذا أدى إلي عزلتها وغياب دورها وفاعليتها..
** الروائي أحمد الشيخ : لو أن مؤسسة الثقافية تعمل بجدية منذ ظهورها لحصدنا الآن نهضة حضارية كبرى تقدم الوجه الحقيقي لإنتاج العقل العربي وتدفعه وتشجعه على التواصل..
الناقد د. مصطفى الضبع : لقد فهم الكثيرون أن دور المؤسسة أن تستقطب كل من يرفع شعار المثقف لذا اكتظت لجانها بالكثيرين ممن لا علاقة لهم بالثقافة بمعناها الجاد..
د. كرمة سامي : الحوار الثقافي بين الشعوب هو الجسر الوحيد الباقى لنا كشعوب مغلوب على أمرها، لكي تتواصل مع المجتمعين الأوروبي والأميركي ورموزهما التنويرية..
د. عزة عزت : النخبة المثقفة هي آخر حصون الصد العربي للهجمات الصهيونية والأميركية، ورياح التغيير والتغريب والتطبيع والعولمة...
الشاعر أحمد فضل شبلول : لا أدري ما الذي تفعله منظمة التربية والثقافة والعلوم بالجامعة العربية؟!، وإن كانت تفعل شيئا فصوتها ضعيف جدا، لا يكاد يسمع لدى المثقف العربي..
الروائي د.السيد نجم : نحن- كعرب- نفتقر إلى هذا الكيان الموجه والمرشد لجملة الأعمال المبعثرة، في كل الجوانب والأشكال الفكرية/الفنية/ الإبداعية في حياتنا الثقافية..
تحقيق محمد الحمامصي: في كل عام وعلى مدار سنوات مضت، كانت العاصمة الثقافية تنتقل من عاصمة عربية إلى أخرى، من القاهرة إلى الرباط إلى أبو ظبي إلى صنعاء وهكذا، ومع ذلك ظل تراجع دور المؤسسة الثقافية العربية من سيئ لأسوأ، وقد تجلت معطيات هذا الأسوأ في استمرار الهجمات الغربية الشرسة للكيان الثقافي والحضاري العربي دون أن تكون هناك مؤسسة ثقافية مهمتها التصدي والدفاع عن هوية الأمة وموطن خصوصياتها، وعلى الرغم من الصخب الإعلامي الذي تصطنعه هذه المؤسسة ويصاحب مؤتمراتها ومهرجاناتها إلا أن ذلك غالباً ما يترك تأثيرًا سلبيًا وانتقاصًا من شأنها، حتى انتهى الأمر بالرفض والتشكيك في مصداقية ما تقدمه، وانفضت الجماهير من حولها رافضة بضاعتها، كما انفضت نخبة المثقفين المستنيرين.. فلماذا حدث ذلك للمؤسسة الثقافية العربية الموزعة علي هيئات ومجالس وإدارات بلا عدد ؟ ما الأسباب، ما الدوافع وراء فقدانها لثقة المجتمع، وراء غياب استراتيجية أو منظومة ثقافية ذات قوة فاعلة داخلياً وخارجياً ؟ ما هو المطلوب لتفعيل وتنشط دور هذه المؤسسة ؟ ما الدور الذي يفترض أن تلعبه في احتواء الداخل العربي ولم شمله ؟، ما الدور الذي يفترض أن تلعبه في مواجهة التهديدات الخارجية لبنيانها ؟.. في السطور القادمة نتعرف إلى الكثير من الردود أو بمعنى آخر وجهات نظر المتباينة حول كل هذه التساؤلات التي كانت محورهذا التحقيق..
في البداية، يؤكد الناقد الكبير محمد حسن عبد الله أستاذ الأدب النقد الحديث بجامعة القاهرة أن المحور الرئيس في تراجع دور المؤسسة الثقافية العربية علي اختلافها عن لعب دورها داخل المجتمع العربي أو حتى خارجه يتمثل في غياب القطب القادر على خلق تيار ثقافي تجتمع عليه النخب الثقافية ومتلقيهم، ويضيف قائلاً : ليس القطب هنا بمعنى الهيمنة الثقافية وإنما عمق الرؤية وشمول الفكر وقدرته على استيعاب مطالب المرحلة، وقد أدى هذا الغياب إلى جعل المثقفين شيعًا وليس أحزاباً. ففي زمن الأحزاب كان المثقف يدفع ثمن انتمائه الحزبي من عمره وفكره، أما مرحلة زمن الشيع التي نعيشها فإنها تستثمر الثقافة ولا تعطيها كما تستثمر الحزب تماماً.. إن التسلط السياسي وغلبة الانتهازية علي أصحاب الصفوف الأولى جعل من المؤسسة الثقافية تابعًا، وهذه التبعية كان لها مردودها السلبي على جماهير المجتمع ونخبه المستنيرة، حيث أن هذه الجماهير تثق في المثقفين من حيث هم أشخاص يشتغلون بنشاط جوهره الاتصال بالأخر، هذا الأخر الذي هو المواطن العربي لم يعد نتيجة فقدان الثقة يقبل علي البضاعة الثقافية المقدم إليه، يدخل في هذا التعويل المبالغ فيه الاعتماد علي الفكر المترجم، فهذه الترجمة ليست مرفوضة في ذاتها، ولكنها مرفوضة حين تكون مزروعة صناعية لأهداف غير نقية، فيكون هذا التعويل على الفكر المترجم ضربًا من العمالة للآخر أو ليس ببعيد عن العمالة حتى مع حسن الظن به، ويقترن الإسراف في التعويل علي الفكر الترجمة تهويناً من شأن الفكر الموروث وليس التوفيق أو التجديد، وهو ما كان يشغل جيل الرواد الذين أخذوا الكثير عن أوروبا ولكن أقدامهم ظلت على صلابة أرضهم العربية، وهذا ليس معمولاً به الآن بين دعاة التغريب.. أيضًا يدخل في صنع أزمة المؤسسة الثقافية غياب المثقف الرائد، المثقف الملهم للسلطة وليس التابع لها فضلاً عن أن يكون ضالعًا معها في الخداع للمجتمع..
وحول إمكانية استرداد هذه المؤسسة لثقة لدورها داخل المجتمع وعودة الثقة في فعالياتها قال د.محمد حسن عبد الله : لا بد أن تملك رؤية للواقع الراهن بكل ملابساته وللمستقبل، رؤية متحررة من ضغوط وأزمات وظلال صانعي مأساة الحاضر، أيضًا لا بد من امتلاكها للوعي بالماضي والقدرة على تحليل عناصره وأزماته وذبذباته واستمزاج نبض الجماهير وقدراتها بالنسبة للمستقبل، وهذا لن يتأتي دون مشروع ثقافي يواكبه مشروع سياسي اقتصادي، فالمشروع الثقافي لا نقول إنه محصلة للمشروع السياسي الاقتصادي ولكن نقول حارسه ومكمله وبصيرته نحو اكتشاف آفاق المستقبل..
صورة المثقف العربي
وتضيف د. كرمة : يتعدى دور المؤسسة الثقافية تكريم الرموز الثقافية أو تشجيع الشباب، أتصور أنها تضع خططًا للثقافة في الوطن العربى وتشرف على تنفيذها وتضع نصب أعينها صورة المثقف العربى فى وطنه ودوره فى مجتمعه وكيفية مخاطبته للآخر فى المجتمعات الغربية، وتحمى المواطن العربى من الغث والرخيص وتنمى حاسته النقدية وذائقته الفنية بدلا من أن تتركه فريسة لأى منتج رخيص فى السوق شريط كاسيت أو كتاب أو فيلم سينمائى، كما أنها لا بد أن تدعم الفنون والآداب بكافة صورها وتتيح الفرصة للمثقف وللفنان أن يمارس فنه ويبدع في جو من الحرية والديمقراطية.
وتؤكد د. كرمة أنها لا تستبشر خيرًا في ما يتعلق بدور المؤسسة الثقافية في الوطن العربي، على الرغم من بعض الجهود الفردية المبذولة، وتقول : قد انتهى عصر وضع الخطط والاحتضان والرعاية وبناء الأجيال، فى فترة ما كان الأفراد يقومون بهذا الدور من تلقاء أنفسهم دون النظر إلى العائد والفائدة ربما لأن الدولة كانت هى القدوة الصالحة لهؤلاء الأفراد ولذلك لا نستطيع أن نغفل دور أستاذنا يحيى حقى في فترة رئاسته لتحرير مجلة المجلة واحتضانه للعشرات من شباب المبدعين الذين نعدهم أساتذتنا الآن، والدور نفسه قام به أحمد بهاء الدين من منبره في مجلة صباح الخير وصلاح جاهين وعلى الراعي وغيرهم.. وربما السبب وراء هذه النظرة التشاؤمية هو حرص المسؤولين عن الثقافة على قص الشرائط الملونة ورعاية الاحتفاليات الكبرى دون الاهتمام بالمشاريع الثقافية الحقيقية التي تقام على شرفها هذه الاحتفاليات، وربما لن يتأتى للأجيال الحالية أن تتمتع بجو ثقافي حقيقي يتحاور فيه المبدع والناقد والمتلقي إلى أن نبدأ كمجتمعات وكأفراد في الاهتمام بالحدث والفعل الثقافي مثلما نهتم بالطقوس المصاحبة له.
جزء من أداء المنظومة
مواجهة التحديات الخارجية
ويرى الكاتب الروائي والناقد د. طه وادي أستاذ الأدب والنقد العربي الحديث بجامعة القاهرة أن المتأمل في المشهد الثقافي العربي يدرك بوضوح أن هناك وفرة في المؤسسات الثقافية في كل قطر عربي لكنها وبرغم وفرتها والشعارات البراقة والرنانة والصاخبة التي تدعيها لا تدعم أو حتى تساهم في دعم الأمة العربية ككيان يجابه أعتي مأزق في تاريخه، وذلك لأنها تعمل بشكل قطري تجزئي محلي، وبالتالي فإن مطرب الحي هو الذي يطرب فيها، ومن ثم تفتقد القدرة علي التواصل الذي يجمع الثقافة العربية ويخلق منها فكراً متوحداً يساهم في دعم آفاق التقارب الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، خاصة وأن الثقافة هي المفتاح الرئيسي لتثبيت الهوية والدفاع عنها، إن هذه المؤسسة تسير الآن بفكر فوقي وبتوجهات رسمية تواكب الخطاب السياسي لترضى عنها الحكومات، وهذا أدى إلي عزلتها وغياب دورها وفاعليتها ليس فقط بالنسبة لجماهير الأمة ولكن أيضاً بالنسبة للمثقفين المستنيرين..
ويضيف د. طه وادي : من عجب أن غالبية المثقفين العرب يرفعون راية الوحدة في الوقت الذي يثبتون فيه عوامل الفرقة والاختلاف، ولم نعد نستطيع أن نجد في الكتابات المسئولة والملتزمة ثقافة الأنا العربي، أي ثقافة الأمة التي هي بحاجة لأن تتخلص من كثير من الأغلال والرواسب القديمة وتنطلق نحو أفق جديد تستطيع به أن تواجه الآخر / الغازي / المعتدي / المتحدي، حتى لا نقع في فخ العولمة ونسقط صرعى كالدجاج المذبوح في عصر كثرت فيه السكاكين لتغيير خريطة المنطقة العربية وتبديل ثقافة الأمة، هنا يبرز دور المؤسسات الثقافية العربية التي يجب أن تتخلى عن محليتها وفكرها السلفي لتواجه عالماً جديداً له أيديولوجية مختلفة عن كل مراحل التاريخ..
ويتساءل د. طه وادي عن دور جامعة الدول العربية ومنظمة التربية والثقافة والعلوم في صياغة رؤية ثقافية عربية يلتف حولها الكيان العربية، ويجيب : لا أحد يعنيه الأمر رغم الظرف التاريخي العصيب الذي تمر به الأمة..
ويرفض د. طه وادي فكرة تطوير المؤسسات الثقافية العربية ويقول : إن شراء ثوب جديد خير من ترقيع عشرة أثواب، لماذا لا نطرح إنشاء مؤسسة ثقافية ذات كيان عربي مستقل في ظل جامعة الدول العربية تستهدف أولاً خلق استراتيجية ثقافية عربية تلتزم بتفعيلها مجموع الدول العربية، وثانيا ًتحديد طبيعة الهوية وثالثاً تحديد طبيعة الثقافة الواحدة والموحدة التي ينبغي أن تسود، إننا لابد أن نعرف بشكل جيد من نحن وما هو الحلم الذي نتمنى أن يتحقق، فدون ذلك لن يصبح لنا صوت مسموع في هذا العالم الذي لا مكان فيه لمتخلف أو ضعيف أو مشتت الرؤى ومتفرق الصفوف..
فلوس الأسلحة والثقافة
أما الكاتب الروائي أحمد الشيخ فيري أن حالات التباين بين الأنظمة العربية تتكشف أول ما تتكشف في توجهاتها نحو المؤسسة الثقافة، هذه المؤسسة التي لا تفي بمتطلبات عصر يعيش فيه الإنسان العربي مأزقاً تاريخياً غير مسبوق في تاريخه القديم والحديث، ربما تنقصها الجسارة أو مسألة الثقة فيمن ينفذون المشروعات والمطامح والأحلام بالنسبة للمبدع الحقيقي الحالم بالخروج من المأزق التاريخي لمجتمعه، لكن هناك قضية أخرى بخلاف ذلك.. ويضيف : إن الأنظمة التي ترى أن الثقافة والإبداع يشكلان خطراً علي وجودها هي أنظمة لا ترغب في الإصلاح وأقل ما توصف به أنها خائفة من قدرة الفعل الثقافي علي التغيير، إننا أمام تحد سافر ومكشوف الأنياب من قبل الإمبريالية العالمية متمثلة في أمريكا الساعية نحو الهيمنة، ولأننا شعوب لا تملك القدرة علي الدفاع عن نفسها، فنحن نسكت، وليس أمامنا غير المعركة الثقافية علي اختلاف نتاجها من إبداع روائي وشعري ومسرحي وفكري.. إلخ، باعتبارها السلاح الوحيد القادر علي تأكيد إنسانيتنا، وعلي ذلك فإننا بحاجة إلى أن تنحي الأنظمة خوفها وتدعم مؤسساتها الثقافية ومثقفيها ومبدعيها لا أن تسعى إلى تهميشهم ومحاربتهم، إنني أدعو الأنظمة العربية أن تلتفت إلى هذه القضية وتدعمها باتجاه ينتصر للكيان العربي في الداخل والخارج، فليس من المعقول أن تظل تضغط بسبيل تغييب المؤسسة الثقافية ودورها وعزل المفكرين والكتاب عن مجتمعاتهم..
ويضيف الشيخ : لو أن مؤسسة الثقافية تعمل بجدية منذ ظهورها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي لحصدنا الآن نهضة حضارية كبري تقدم الوجه الحقيقي لإنتاج العقل العربي وتدفعه وتشجعه علي التواصل، لكي لا يتكرر ما حدث لا بد أن نبدأ بحيادية هذه المؤسسة ولا يتأتى هذا الحياد بإسناد مسئوليتها إلى فرد واحد مهما كانت قدراته وعبقريته، ومن ثم إقترح أن تتولى مسؤوليتها فصائل من المثقفين الجادين الذين لا تشوب تاريخهم شائبة، تتكون منهم لجان لتصفية الحقيقي من الزائف في مشروع يطمح إلي مستقبل مشرع للكيان العربي كله..
أيضاً علي الأنظمة العربية أن توفر هامش لائق للصرف عليها وعلي المثقفين وأنا لا أداعب هذه الأنظمة حين أقول إن كل الأسلحة التي أنفقوا عليها مليارات الدولارات لم تستخدم وأنها تستخدم بالتقادم، ولو استخدمت جزءاً هزيلاً من هذا الأموال التي تستخدم قط في تفعيل المؤسسة الثقافية والنهوض بالفنون ومبدعيها لوصلنا إلي قدر كبير من التقارب مع البشر الذين يعيشون هناك في الضفة الغربية من العالم، فما الذي يمنع المؤسسات الثقافية أن تستدعي كتابها ومبدعيها وأن تتيح لهم فرصة تزويد ثقافاتهم بمبالغ بسيطة وأن تمنحهم مقابل مكافآت مجزية عن إبداعاتهم الجادة، وتوسيع رقعة الجوائز، وإحداث تبادل وتنشيط بين أعضاء اتحادات الكتاب العرب الخاملة فلعل المثقفين يفيقون من غفلتهم ويواصلون العطاء..
شعار المثقف
ويضيف الضبع : مما يؤسف له أن الكثير من مؤسسات المجتمع المدنى غير الرسمية وقعت فى الشرك نفسه وليس أدل على ذلك من اتحادات الكتاب العرجاء التى تناست دورها الحقيقى وحادت عن طريقها أو هدفها الأسمى لغياب مشروعها الثقافى ولننظر لنموذج له خطورته، اتحاد كتاب أكبر دولة عربية، مصر ! ماذا قدم اتحاد كتاب مصر ؟؟؟ !!!.( يكفي الإشارة لعجز الاتحاد عن تقديم مشروع ثقافي جاد، أليس من المؤسف أن اتحاد كتاب مصر لا يملك مطبوعة جادة تعبر عن قيمته، وأليس من المحزن أنه ليس قادرًا على أن يواكب العصر عبر موقع يليق به على شبكة الانترنت، ثم تأتي ثالثة الأثافي، أو الكارثة الثالثة ممثلة في وقائع انتخابات اتحاد الكتاب العرب الأخيرة في الجزائر.
على اتحادات الكتاب العرب - إن كان مخلصة فى القيام بدورها - أن تتخلص من الفكر التجاري أولا، من المنتفعين الذين لا هم لهم سوى السعي للمقابل المادي، وراغبي السفر على حساب المؤسسة !!
ويرى د. مصطفى الضبع أن مؤسسة ثقافية ليس بإمكانها أن تقدم فعلها الثقافى لجمهور واسع مستفيدة من آليات العصر لهى مؤسسة أحرى بها أن تتحول لمقهى أو غرزة من النوع البدائى، فلم تعد الثقافة حكرا على النخبة، أو ليس دور المؤسسة أن تقدم ثقافة للنخبة بمعناها الأضيق.
لدينا نموذجان لمؤسستين نجحت الأولى فى جانب واحد وعليها أن تستفيد من تجربتها فى جوانب أخرى، أعني المجلس الأعلى للثقافة في مصر حيث يختزل منجزه الحقيقي في مشروع النشر، وخاصة المشروع القومي للترجمة، مع الوضع في الاعتبار أن المشروع عليه أن يوسع الدائرة بألا يقتصر دوره على الترجمة للعربية، وإنما منها أيضا للغات العالم المختلفة.
نقطة أخرى يحتاج المجلس الأعلى للثقافة أن يعيد النظر فيها المؤتمرات التى تنتهى فاعليتها بمجرد انتهاء فعالياتها، وأعود فأكرر أن مؤتمر الرواية في دورتيه لم يحقق أهدافه تمامًا لسبب بسيط أن أسماء من الباحثين شاركت فى الدورة الثانية ولا علاقة لها بالرواية أو نقدها من قريب أو من بعيد، كما أن أبحاث الدورة الأولى لم تنشر بعد ومن ثم لم يعد بإمكان الكثيرين أن يتابعوا نشاط المجلس بكل ما أوتي من إمكانيات بمقدوره إن أحسن استثمارها أن يقدم الكثير، وكان للمجلس عبر موقع على الشبكة الدولية للمعلومات ( الانترنت ) أن يطرح فعاليات المؤتمر، حتى لا تبقى حبيسة جدران القاعات.
النموذج الثاني نموذج المجمع الثقافى ( أبو ظبي ) الذى نجح في الاستفادة من تقنيات العصر ليقدم النموذج الأكمل، والأجدى للمؤسسة القادرة على تطوير إمكانياتها العصرية، يكفي المجمع الثقافي مشروعه الأكثر أهمية " مشروع الموسوعة الشعرية الالكترونية الذي يعد أهم مشروع ثقافي قدمته مؤسسة ثقافية عربية في القرن العشرين، ونتمنى أن تستفيد المؤسسة العربية الثقافية من هذا المشروع فالثقافة العربية في حاجة إلى المزيد والمؤسسة العربية قادرة على تقديم ذلك شريطة أن نكون مخلصين وأن نتخلص من الآليات القديمة ومعها من أرباع المثقفين ومدعى الثقافة .
المؤسسة مصطلح مكروه
ويتساءل د. السيد هل غامت الفكرة ؟ ويجيب : ربما, لكن المؤكد أن هدف "المؤسسة الثقافية" المرجوة هو رفعة شأن الإنسان العربي، فمن الخطأ الاعتقاد بأن "الإبداع" منفصلا عن الإنتاج الزراعي والصناعي للأفراد والدول، ومن الخطأ القول بأن كل ما هو غربي متميز ويناسب شعوبنا،ومن الخطأ جلد الذات والإحساس بالدونية في مواجهة الفكر والمنتج (أيا كانت طبيعته)..نحن شعوب عاشت على أرضها منذ آلاف السنين, وأنتجت ثقافتها, وحضارتها, وأنجزت. وبالتالي قادرة على الإنتاج والإنجاز الآن..والآن هل يمكن أن نقول إن "المؤسسة الثقافية" هي مجموعة من الأفكار الوجودية والتاريخية والفلسفية؟ أظنها كذلك..وهذه هي الخطوة الأولى.
أما الخطوة الثانية فهي آليات توظيف تلك الأفكار..وأراها مجموعة من الأفكار مثل "التسامح", "البعد عن القبلية والعنصرية", "وضوح الهدف الإستراتيجي", "المنهج العلمي في التفكير".. ولا يبقى إلا أن تسعى العقول والسواد-كل في موقعه- بتطبيق البعد الإستراتيجي, بوازع من ذاته, وهو على يقين بجدواه, مهما صغر أو كبر, مع وجود "المثقف" الحقيقي القادر على التقاط الصورة البانورامية, ويسعى إلى تهذيبها بالإضافة والحذف.. والمعنى بالمثقف هنا هو الفنان والكاتب والأديب بل ورجل الدين المتنور.
كمثال عملي أسرده, عن حوار بيني وبين الصديق "د.هيثم الزبيدى" أستاذ علوم الفيزياء بالجامعات البريطانية, أنه في زيارة له مع ابنة (13سنة) لأحد مجال الفيديو, لاحظت الابنة وجود فيلم "البيانو" دوما, وهو ما آثار فضولها (الفيلم يتناول موضوع حرق اليهود في أفران النازي قبل الحرب العالمية الثانية). الجديد أن مخرج هذا الفيلم الذي نال سبع جوائز "أوسكار" أعلن يوم استلام الجائزة..أنه انتج كل أفلامه السابقة الناجحة والتي جلبت ملايين الدولارات, من أجل هذا الفيلم!! بينما أفلامه السابقة تجارية ورابحة, إلا أن الهدف الإستراتيجي في رأس المخطط بشركة الإنتاج يؤهل للمخرج ويرفع من اسمه, حتى يجئ يوم إنتاج هذا الموضوع, وقد جاء وفاز وشاع وانتشر!!، هنا دلالة المؤسسة عندي, الهدف الإستراتيجي واضح, وكل المطلوب هو السعي لتحقيق أكبر نجاح له.. بصرف النظر عن الفترة الزمنية اللازمة , والتكلفة المادية.
ويعود د. السيد نجم ليتساءل : لكن ما مدخلنا لتحقيق هذا المفهوم؟، ويجيب : في عصر المعلوماتية أصبح من الصعب الحد من النشاط الفكري للإنسان. فقد أصبحنا نجد الأعمال الأدبية والفكرية تتسلل الى شبكة "الإنترنت" , لتعلن عن نفسها , بعيدا عن المؤسسات,إذ الإنترنت لا وطن له..
رعاية الثقافة والمثقفين
وترى د. عزة عزت أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة أن المؤسسات الثقافية العربية نشأت قبل عدة عقود، في كنف الحكومات، أو تحديداً وزارات الثقافة في الدول العربية، على اختلاف توجهاتها نحو رعاية الثقافة والمثقفين، ومن ثم اكتسبت طابعًا رسميًا إلى حد كبير.. وتضيف : لكنها مع ذلك لعبت دورًا له أهميته منذ نشأتها، تمثل فيما أصدرت من مجلات ثقافية، كانت متنفسًا للكتاب والباحثين والمثقفين العرب للكتابة فيها، و كما كانت أيضاً منهلا للثقافة الرفيعة بالنسبة للقراء، و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مجلات : العربي و الدوحة و أفاق عربية، و عالم الفكر، و القاهرة قبل تحولها إلى جريدة أسبوعية، بالإضافة إلى المجلات الثقافية التي تخصصت في فروع معينة من الثقافة، مثل مجلات : المسرح، و أدب و نقد.. و غيرها كثير مما توقف عن الصدور، أو مازال يصدر لماماً، ذلك ناهيك عن الدور الذي لعبته هذه المؤسسات الثقافية في مجالات شتى تعنى بالمثقف ذاته، وتقديره أو تكريمه، من خلال الجوائز والمسابقات، على المستويات القطرية أو الإقليمية العربية، و دعمها المادي لاتحادات الكتاب وروابطهم، ورعايتها لمؤتمراتهم و تجمعاتهم..
لكن الحقبة الأخيرة قد شهدت تقلصاً لدور هذه المؤسسات الرسمية من حيث الإصدارات أو الدعم المادي، و الميزانيات المرصودة لدعم التيارات الثقافية على اختلافها، و لعل مرد ذلك إلى انحسار الاهتمام بالكلمة المكتوبة بوجه عام، لحساب عصر الاتصال السمعي و المرئي، و المعلوماتي، و إدراك المؤسسات الثقافية الرسمية لأهمية توجيه ميزانياتها.. أو جل هذه الميزانيات لتوجُّهات أخرى ؛ تخدم مصالح الحكومات أكثر مما تخدم المثقفين، قراءً كانوا أو كتاباً، منتجين للثقافة أو مستهلكين لها.
سيطرة رأس المال
وتقول د. عزة عزت : لعل انحسار هذه المؤسسات الرسمية، أو تقلص دورها على الساحة الثقافية هو الذي فتح المجال للمؤسسات الخاصة لدخول الساحة ؛ بحجة دعم الثقافة و المثقفين بما تملك من رؤوس أموال مشكوك في أمر بعضها، إذ إن مصدرها رجال الأعمال من تجار السيراميك و البزنس المشبوه في أسوئها، و لا يخفى ما يمكن أن يمثله ذلك من أثر على نوعية المنتج الثقافي، و على استئناس بعض المثقفين المعارضين لبعض الأنظمة، أو لبعض السياسات الحكومية، أو لتوجهات بعض أصحاب هذه الأموال من الأثرياء العرب.. أو حتى رجال الأعمال المصريين الذين لا يعرف مصدر ثرواتهم، و المعروفة توجهاتهم السياسية، فمن المعروف أن النخبة المثقفة من الكتاب و الشعراء هم أخر حصون الصد العربي للهجمات الصهيونية و الأمريكية، و رياح التغيير و التغريب و التطبيع، و العولمة بكل ما تهدف إليه هذه الهجمات من أهداف مشبوهة، من شأنها تدجين أي معارضة عربية للهيمنة و التبعية، و مقاومة أثارها على الهوية العربية، كما أن من سلبياتها أيضاً أنها ستفرض تيارات بعينها على المستوى الأدبي و الثقافي بوجه عام، أبسط ما يمكن أن توصف به أنها تقليدية أو رجعية، كما أن من شأنها تكريس سيطرة رأس المال على كل مناحي الحياة العربية.. دون الاكتفاء بالمجال الاقتصادي و السياسي، الذي باتت السيطرة عليه ظاهرة للعيان.
هذا و لعل أبرز ملامح ترك الساحة الثقافية للمؤسسات الخاصة، ما أعلن عنه مؤخراً باسم مؤسسة الفكر العربي التي تعلن عن هوية مستقلة، و إن كانت تعمل تحت رعاية رؤساء دول، وبارتباطات مع مؤسسات دينية، وتشير إلى أهداف عامة مطاطة و هلامية.. لا يمكن تحديد كنهها و توجهاتها الحقيقية، وإن كانت تؤكد صراحة كما جاء على لسان رئيسها أنها: " ليست إحياء لفكرة القومية العربية "، كما تعلن عن أن رأس مالها من تبرعات أو اشتراكات بعض الموسرين العرب (مليون دولار من كل عضو )، و يسمح لغير الموسرين للاشتراك مقابل 10 - 100 ألف دولار أميركي !! ولا تخفى هنا رنة التفريق بين الموسرين وغير الموسرين في العضوية، وعدم اشتراط أن يكون المشترك من المثقفين أو المبدعين، أو تحديد حجم إبداعه،أو قيمته الثقافية، والمشروع كله يعود بنا إلى عصر كان المثقف والمبدع من رواد بلاط الحكام الأثرياء، ومن التابعين الذين يأكلون على موائد الموسرين و الحكام.
و الحق يقال أن المثقف أو المبدع العربي في حاجة إلى رأس المال الرسمي أو الأهلي؛ كي يخرج إنتاجه ويرى النور.. ولكن لابد أن يقدم في إطار من الشفافية، وأن يعرف الكثير عن الممول أو المقدر لإبداعه، من هو ؟ و ما هو توجهه السياسي و العقائدي ؟؟ و الأهم معرفة مصدر أمواله ؛ حتى لا يستغل تدعيم المنتج الثقافي في غسيل الأموال و إبراء الذمم الخربة.
فإذا ما تم التعريف بهذه المؤسسات الثقافية و التوجهات التي تتبناها، و أهدافها من دعم المنتج الثقافي، و تقديرها أو تكريمها للمفكرين و المبدعين في شتى المجالات الإبداعية والبحثية، الأدبية و العلمية و الأكاديمية، و منحهم جوائز سخية تصل إلى ملايين الريالات و الدراهم.. فمرحباً بها داعمة للثقافة العربية كبديل للمؤسسات الرسمية التي انحسر دورها.. و لكن ليس قبل إعلان أهدافها الحقيقية من هذا الدعم.
التحديات الخارجية
لقد انعزل المثقف أكثر من ذي قبل، وترك الساحة خالية في معظم الأحوال، بل إن عددًا منهم استملح موقفه وهو في جيب السلطة، يتحدث بلسانها، ويفكر فيما تفكر فيه، وفيما تريده، ليظل في مأمن منها. وكانت السلطة من الذكاء بأن تختار من هؤلاء من يعتلي مناصبها في مجالي الثقافة والإعلام، إلى أن وصل الأمر إلى اختيار الفنانين ولاعبي الكرة في الترويح عن الإنسان المكدود ليتحدثوا في معظم البرامج الثقافية (فهم خفيفو الدم، ويتحدثون بدلع في مسائل تهدهد المشاهد) بدلا من المثقف الحقيقي (الذي هو ثقيل الدم ويتحدث في قضايا كبيرة)، وبرامج شهر رمضان من كل عام خير شاهد على ذلك.
ويضيف أحمد فضل : لقد زد على ذلك غياب استراتيجية ثقافية عربية موحدة، فكل بلد عربي له استراتيجيته الخاصة بما يتناسب وظروفه المادية وتركيبته المجتمعية الخاصة، وله نظرته الخاصة في معالجة الأمور، في ظل غياب الدور الثقافي الحقيقي لجامعة الدول العربية، ولا أدرى ما الذي تفعله منظمة التربية والثقافة والعلوم بالجامعة العربية؟!، وإن كانت تفعل شيئا فصوتها ضعيف جدا، لا يكاد يسمع لدى المثقف العربي.. وفي ظل مواجهة التحديات الخارجية الآن، ومن أجل تفعيل دور المؤسسة الثقافية العربية أو تنشيطها، أرى أن يتم بحث الأمر بين المؤسستين السياسية والثقافية معا، فمعظم المؤتمرات التي تُعقد يتحدث فيها المثقفون عن الثقافة والسلطة، والمثقف والسلطة، يتحدثون في ظل غياب الطرف الآخر، وهو الطرف الذي يمثل السلطة السياسية. أعتقد أنه لو حدث هذا لأصبحت هناك لغة مشتركة بين الطرفين، شريطة توافر عنصر الشفافية وحرية التعبير التي لا تؤذي الطرف الآخر. ذلك أن السياسي بحكم تكوينه وتدريبه، من الممكن ألا يفصح عما يحمله في جعبته، فيحاور ويناور، على عكس المثقف الذي لم يتعلم هذا الفن.. أيضا على المؤسسة الثقافية في بلادنا أن تواكب عصر العلم والتكنولوجيا، وأن تتفاعل مع روح العصر، بعد أن تفاعل معها الأفراد، فلا يصح أن يكون للأفراد مواقع على شبكة الإنترنت مثلا، ومعظم المؤسسات الثقافية، أو معظم من يعملون فيها لم يعرفوا بعد أبجد هوس التعامل مع الكمبيوتر. أيضا على المؤسسة الثقافية أن تعي تماما ما يحدق بمجتمعاتنا من تهديدات، ومحاولات احتوائها تحت دعاوي كثيرة منها العولمة والعالمية.. الخ،وعليها أن تدافع عن تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، وتسهم في نشر الصالح منه لحاضر مجتمعاتنا وألا تفرط فيه، وفي الوقت نفسه عليها الاحتكاك بالثقافات الأخرى، لنرى كيف تعيش الدول الأخرى وكيف تجابه التهديدات التي تتعرض لها هي الأخرى.
وقد كنت سعيدًا بالملتقى الشعري المصري والإسباني الذي نظمه مؤخرا المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ثم امتد إلى الإسكندرية، فهو يمثل النموذج الذي أقصده من تبادل الثقافات، والانفتاح على الحضارات الأخرى، خاصة تلك التي تربطنا بها صلات دم قديم.