هناء مالله ومها مصطفى ومناوراتهما التشكيلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"غير ان كتب الفلسفة والأعمال الفنية تحتوي بدورها على قدر يصعب تخيله من المعاناة تجعلنا نستشعر مجئ شعب. انها تشترك في المقاومة، مقاومة الموت والعبودية، مقاومة ما هو مرفوض كليا، مقاومة العار والحاضر." (جيل دولوز)
من جيل احدث، لم تبتعد التشكيلية العراقية الأخرى (مها مصطفى) عن مساحة الأداء التجريدي التشكيلي رغم اختلاف مصادرها المعرفية والتعبيرية والتي تعمقت بعد هجرتها العراق اواخر التسعينات. ومنذ نعومة تجربتها لم تجد في الموروث العراقي منفذا ما لتجرتها. وقطيعتها هذه رافقتها لسنواتها القادمة تطلعا لهواجس اغترابية تنأى عن البوح المباشر. وهي في سبيل الأمساك بتلابيب تجربتها الحسية تنصلت عن مخلفات الأرث الشرقي بتفاصيله المكتضة وصولا الى منطقة الكفاف الوجداني بجذور قاطني الشمال الأسكندنافي حيث تقيم.
لقد اختلفت سبل هاتين التشكيلييتين بشكل ملفت، رغم حاضنهم الأول. اختلاف لا يبتعد كثيرا عما نشاهده ضمن جغرافيات العراق المتعددة من حوامل حساسية متعددة (تشكلت كحاضنات نفسية عبر عقود عديدة). فهناء المتلبسة هندسة فضاءات تشكيلية موغلة في القدم، لا تزال تؤكدها بدراسات اثرية مثلما هي مشاعة هي ايضا ذاتية. ولعها الأركولوجي النظري والعملي قادها بعيدا عن اطر التسويق الفني والعابه البهلوانية. في الوقت الذي قادت قطيعة مها (جغرافيا وتاريخيا) اهتماماتها الأستثنائية بجغرافيا حاضنتها الجديدة وثقافتها التسويقية، ثقافة تطلبت منها جهدا واضحا لفهم خصائص المواد التشكيلية الأولية وبما يوازي امكانياتها التعبيرية المتماهية وثقافة حاضنتها الجديدة. وان كانت مادة التشكيل الأولية عند هناء خاضعة لمناورة تفاصيل اعمالها كحاضن لخرائط رموزها البارزة والمطمورة وخاضعة لطوبوغرافيا الأثر. فالمادة عند مها غالبا ما تكتفي بخصائصها الجوهرية ضمن اداء محكم تتحكم فيه حساسية تقليلية واضحة.
المعرفة التشكيلية عند مها مستمدة من محيطها الجديد تفاصيل منتقاة بعناية من حاظن بيئي واسع، ومن فسحة واسعة لممارسة حرية اسلبة اي اثر ملتقط، سواء كان جاهزا او مفكرا به بعيدا عن ضغط وسط محدد برقعة معرفية تشكيلية مؤطرة بظوابط هي بالأساس تعداها الزمن (لكنها لا تزال فاعلة في الوسط التشكيلي العراقي المحلي). وما انتقالاتها او انتقائاتها لأساليب موادها الأولية سواء كانت فلزا او باطونا او نسيجا او ضوءا او غير ذلك، الا شاهدا على حريتها الأدائية المعاصرة. ولا وجود لمساحة التنظير في اعمالها، كونها تختزن حيوات موادها المتشكلة او المصنعة، والصنعة هي الأخرى حكاية، لكنها تبقى تحافظ على حكاياها الأسطورية المعاصرة، وكتميمة هنا فهي غالبا ما ترافق هندسة الأنشاءات المعمارية او فراغاتها. مستمدة شرعيتها من صلب وظائف صلابتها او هشاشاتها المادية. وان اصبحت نصوص مها التشكيلية نصوصا فاعلة، فان فاعليتها كثيرا ما لا تتعدى وظيفتها التشكيلية والمعمارية في ان واحد.
اما الزمن عند مها فهو اني. فبحوثها التشكيلية لا تزال بنت زمنها، وهي خلقتها عبر متابعات مستمرة ويقضة لما يستحدث على الساحة التشكيلية العالمية. ومع ذلك فان المتابع لمنجزها لا يستغرب من كون هذه الصرامة التي تعامل بها اعمالها لم تكن متاخرة. فهي رافقتها منذ نظوج تجربتها الأولى في تسعينات العراق، لكنها اغنتها من خلال احتكاكها في السنوات الأخيرة بالوسط التشكيلي الأسكندنافي. ولقصر تجربتها العراقية وديناميكية بحثها التشكيلي خارج اطر التشكيل العربي المألوفة. فقد وجدت نفسها متنصلة من مجمل تأثيرات الوسط التشكيلي العراقي. ولكونها اصلا تدربت على تقنيات السيرامك والتي ابقتها على مبعدة من عادات الرسم والنحت التقليدية. وبالرغم من ان بعض اعمالها ولحد الان لا تزال تحمل بصمة الفورمات السيراميكية (الفخارية) المعاصرة. الا ان تجاربها الذكية على المعادن والخامات المختلفة، خلقت لديها القدرة على تطويعها وبما يخدم افكارها، وخارج ما تختاره من اطر عناوينها. فان اعمالها تندرج ضمن الأساليب او الأشتغالات التقليلية المعاصرة. اساليب المادة التشكيلية الأولية كأنشاءات في حدود اداء ادنى، لكنها تحافظ على جوهر التعبير المادي وكمعادل روحي او بيئي احيانا. فازمنة الأنقطاع عن المنشأ هي التي اوصلت مها لنتائجها المتقدمة هذه. بينما ازمنة التواصل الملتبسة الغير سليمة اوصلت نتاج هناء لتعقيداته الطوباوية.
يعاني التشكيل العراقي الذي يحاول ولوج منطقة التعبير عن محننا المعاصرة وبما رافقها من لا معقولية العنف المبرمج. من قصور واضح في الأداء وما يتبعه من تصورات او افكار محركة، والفكرة باتت الان مهمة في اخراج العمل التشكيلي. والقصور ناتج اولا من الأصرار على اعادة نفس التجارب السابقة في زمن مختلف، زمن العنف الفالت هذا، وثانيا في عدم الألتفات الى التجارب العالمية المعاصرة والتي تناولت بشكل ما ما يوازي هذه الأزمنة المرعبة. والمعاصرة العالمية هي بالأساس تجارب شعوب العالم التشكيلية بدون استثناء، ذلك بعد رفع الغطاء عن عصر الحداثة الأوربي النزعة. وبمعنى ان كان الدم لا يتحول الى ماء فهو الأخر في العمل التشكيلي المعاصر كذلك. وان كانت حوادث التفخيخ المرعبة قاسية لأبعد الحدود، فهي الأخرى كذلك في التشكيل. وان كان التشكيل المعاصر يستمد غالبية عناصرة من البيئة، فبيئتنا الان كوارثية بامتياز. وان كانت هناء في محاولات عديدة لها حاورت هذه الفاجعة، فهي الأخرى لم تحاورها الا بعناد اسلبة نتاجها الأثري. مما افقد الحدث صدمته وحوله الى ارث مخطوطاتي في افضل الأحوال. وليست هي الوحيدة في هكذا منحى. اما مها فهي الأخرى نأات بعيدا عن محنة وطنها الأم بعد ان تمكنت منها هواجس غرائبية تستحضر للذكرى وفي اوقات تحددها هي. فبالرغم من بعض صلة قرابة ولو من بعيد لنتاجها ونتاج التشكيلية الفلسطينية اللندنية منى حاتوم،. الا ان الفرق شاسعا بين مصادر انتاج الأثنتين، حيث ان منجز منى كله تشكل من خلال فهمها الفائق لنكبات وطنها العامة والخاصة، وما اكتسابها لشرعيتها العالمية الا من خلال ذلك.