ضجيج الأدب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حسين سليمان - هيوستن: تتساوق الظاهرة السياسية بإعتبارها مجموع يحتوي الاقتصاد وتشعباته مع ظاهرة الأدب والفن. أقول ذلك كي لا أفصل بين تردي العمل السياسي في العالم العربي ذلك التردي الذي يلمسه القاصي والداني وبين تردي العمل الفني. بين السيطرة غير المباشرة للأجنبي على السياسة في الشرق وبين السيطرة غير المباشرة له لرؤية الفن عند الأديب العربي. وإن كان العامل السياسي هو عامل حيوي تطبيقي فإن العامل الأدبي هو عامل فكري روحي بالدرجة الأولى وبالتالي فإنه يستشعر الحدث ويعبر عنه تعبيرا لا يستطيعه السياسي. وإن الاستشعار لايمت إلى المستوى الفني بل هو صدى لحالة ربما تكون رفيعة أو ربما تكون متدنية ولا تمت الى روح الفن بصفة.
أي قراءة للأدب- وللنصوص الأدبية، عليها ألا تغفل الطابع الروحي لليومي الذي يعيشه كاتب النص ومتلقيه وبالتالي ألا تغفل مايحصل خلف الباب وفي الشارع... حيث الوعي الذي ينتج ويستقبل النص هو وعي المجموع، عامله الخارج والداخل معا. فذات الكاتب- القارئ كي تصل إلى مصاف المبدع الحقيقي يجب عليها أن تنفتح وتتشظى عن مركزها وبالتالي تلغي عنها كينونة ال self-centered التي تحني النص وتلويه نحو مجاهل ذاتية لا يفقهها سوى الكاتب وأصحابه المقربين. هذا كما أظن "التمركز الذاتي" هو السبب في إطلاق الصفة السلبية عندنا في صدد القراءة والتي تقول "العرب لا تقرأ" بل وربما لا تكتب أيضا.
في واقع الأمر لا أجد في هذه العاهة المنتشرة سوى ذاتا قد فقدت مبكرا سلطانها في مكان ما فقررت أن تذهب نحو سلطان الأدب. سيكون هذا هو الأمر وإلا لكان الأدب الآن في حالة معافاة فالأحداث الجسام التي يشهدها العالم العربي كان يجب أن تساعد على انتاج أدبا خالصا صافيا فالأرض مليئة بالعذاب وبالانكسارات- إنها الحرب التي تدفع عجلة الابداع، لكننا نجد العكس نصوصا مستهلكة يغلب عليها الطابع الذاتي الإنطوائي. لقد انتج غزو العراق على سبيل المثال نصوصا قليلة مقارنة مع حجم الحدث.. اشير الى أسم ابراهيم المصري كمثال.
تتلازم القراءة مع الكتابة وليس العكس والعلاقة بينهما ستكون علاقة جدلية وإن استنكفت القراءة فإن الكتابة ستتراجع وتستكنف أيضا ومانراه من كتابات غزيرة هنا وهناك ليست كتابة بل هي مدونات ويوميات أخذت الصيغة الأدبية التخيلية التي سيطلع عليها الأبناء والمقربون. فالحكي فيها هو عن اليوم الذي يعيشه الكاتب بل هو يوم ذاكرته ذاتية مشبعة بأغراض غير محققة. وهذه الأغراض غير المحققة يظنها الكاتب منشد الحرية والإبداع. يدافع عنها إنما يدافع عن نفسه المخاتلة التي أوقعته في شركها.
متى تحرر الأديب تحرر الأدب وتحرر الانسان العربي. وما دأب أدونيس وكتابته المستمرة عن الحرية إلا استجلاء لتلك الذات المتمركزة. مع أن نظرة أدونيس للحرية ليست نظرة كلية بل هي نظرة لها طابعها السياسي ولهذا لن تعبر عن الحرية الكلية. الحرية الكلية هي حالة عقلية بكل ماتعنيه الحالة من معنى، حالة كاملة وليست حالة مجزأة (ليست حرية دينية أوحرية الشعب تجاه الحاكم أو حرية المرأة - إنها كل لا يتجزأ، إما أن توجد وإما لا) ولا تعطى ولا تدرس وهذه الحرية لا مبدأ لها ولا قوانين، متى بدأ الفكر في وصفها ووضع طرقا لها أخفق حيث سيدور نحو الخلف ويعود إلى مركز الذات. لم تبدأ الحرية الغربية بالفكر بل كانت موجة روحية... مع أنها ليست حرية فما مازال الحاكم المطلق هناك موزعا بين المال والقوة ولهما الباع الطولى في رسم الهيكل الانساني.
ليست النصوص فحسب بل أيضا النقد فهو هابط متوان ٍ فيه تسمع صوت كاتب النص وليس صوت الناقد. فالنصوص النقدية لا تهدف الى نقد ولا استثني هنا النقاد الذين يطرحهم الإعلام كنقاد متميزين، هذا النقد يهدف هدفا واحدا وهو إنشاء قربى مع الكاتب. وهو هنا ليس سوى باطنة وحاشية تدور حول الكاتب.
القصيدة المثلى التي أعتمد عليها في إنشاء هذه المقالة هي قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" حيث جاءت هذه القصيدة بعد أن هشمت الحدود بين اليومي والتاريخي بين الميثولوجي والواقعي فراحت القصيدة تدخل في الهوى والروح بلا استئذان. ربما ستكون آخر قصيدة عربية في الوقت الحالي تعبر عن مطامح ورغائب الوجدان العربي المنكسر وتستنهضه. مع أن التاريخ العربي لم يتغير وكل يوم هزيمة وكل يوم انكسارا لكن وكأن الأدب قد توقف بالفعل عند أمل دنقل. حيث كان نتاج مرحلة زاهية مرحلة أمل وتحقيق أهداف وفرح عارم اجتاح الأمة العربية.
لأن الشعر العالمي- الأوربي والأمريكي- الآن راح ومنذ زمن يهتم بالتفاصيل الذاتية للفرد، تشرق الشمس على عتبة داره وتوزع يومه هنا وهناك، راح الشاعر العربي والذي عالمه في أشد الأختلاف عنه يكرر مايقوله الشاعر الغربي. ولا غبار على ذلك، أن يهتم الشاعر بالتفاصيل لكن أن يستوحي منها مايحدث في الخارج وما يحدث في المطحنة اليومية، تطحن العظام وترميها للبر. لكنه ليس كذلك لقد هيمنت ذاته حتى أنسته العالم الذي يعيش فيه.
هناك من هو منطو على نفسه يكتب ذاته ويظن أنه يكتب العالم فهو في الواقع العملي لا يعيش الحياة بل يعيش خيالا فرديا وجوديا يريد أن يبقى ويستمر متناسيا أسباب الوجود وانسانية الوجود. وهناك كما يعلم الجميع أسباب جعلته بهذه الفردية والبعد عن العالم الخارجي. لقد حاول المثقفون -السوريون مثلا- استنهاض الحرية فأذاقتهم الطغمة الحاكمة سجونا فاقت طاقتهم، في الطرف المقابل يروي التاريخ عن اناس قدموا حياتهم من أجل الحرية وكانوا يحملون طاقة لا تزعزعها السجون. أما نحن فإن القدرة التي نحملها في هذا العصر قد لا تطول يد الحرية. من هؤلاء جاء الشعراء والأدباء من دون قدرة كافية كي تتعاشق مع يد الحرية. بالطبع هناك استثناءات ومنها مثلا الشاعر السوري فرج بيرقدار. لقد ظل الشعراء سجناء ذواتهم وحري القول هنا أن الخروج من مركزية الذات يريد نفسا بطوليا تحرريا فالسجن الأول هو سجن الذات.
قراءة النصوص الشعرية المعاصرة تدلنا على أننا فقدنا الجهات وتشتت أرواحنا في مجاهيل العالم. فما يحدث في أرض العرب لا تجده في النصوص وإن وجدته في النصوص تجده ضعيفا ولا فنية فيه ولا عنفوان. إلى جانب آخر هناك بعض النصوص القليلة التي تعبر عن الانكسار والرضوخ وربما الأمل جاءت بفنية عالية تسمع صوت صاحبها لمرة واحدة ثم يغيب.
أقرأ هنا قصيدتين واحدة من الأردن للشاعر موسى حوامدة "سلالتي الريح وعنواني المطر" التي نال عنها جائزة الريشة وقصيدة "شرفة ليلى مراد" للشاعر المصري حلمي سالم القصيدة التي استفعلت الضجيج وبينت مدى التقهقر الفكري- الفني الذي نعيش فيه.
بنيت قصيدة الشاعر حوامدة من ثمان مقاطع. ولنقف قليلا عند العنوان " سلالتي الريح وعنواني المطر!" عنوان شاعري جميل لا يمت إلى القصيدة بشكل فهو عنوان ثوري فيه خصوبة وإبداع بينما جاءت القصيدة كما سنبين راضخة تطلب وتذكر القوي المهيمن- بشكل باطني غير مباشر- بالوحدة الكلية لبني البشر. أين إذن عنواني المطر وسلالتي الريح؟! تبين القصيدة فكرة "أنا منكم وانتم مني"، كان يجب أن يكون عنوان القصيدة ب "سلالتنا الريح وعنواننا المطر". المقطع الأول في القصيدة مقطع ينفصل عن جسد القصيدة وهذا الانفصال وقف عند الحدود فإما يدني من جمالية القصيدة أو يرفع منها. يبين المقطع الأول ضياع الخلق " قبل أن ترتطم الفكرة بالأرض\ قبل أن تفوح رائحة الطين\ تجولت في سوق الوشايات\ أحمل ضياعي\ أقتل نفسي،\ انا هابيل وقابيل\ آدم أنا وحواء\ نسل الخطيئة\ وزواج السوسن من بيت الطيوب" البيت الأول يشي لي أن زمن الكلام هو زمن ماقبل الخلق قبل أن تفوح رائحة الطين تجولت في سوق الوشايات أقتل نفسي. إلا أن وجود هابيل وقابيل هذا الوجود يسقط صورة ماقبل الخلق ويسحبها إلى مابعد الخلق.. وهذا اللعب بين المابعد والماقبل لعب جريء أشار على أن الخطيئة وجدت مع آدم وحواء قبل نزولهما الأرض. إذن يشير المقطع الأول الى الضياع وعذاب الانسان. المقاطع اللاحقة تقول قول واحد وهو قول الوحدة "لعلي في نسغ الصنوبرة أو الأرزة\ في طمي النيل أو قاع التايمز؟؟" لعلي من سلالة آشورية \ أو من عائلة كردية،\ من بقايا الهنود الحمر...\ لعلي من أمم كثيرة ورجال كثيرون\ لعل لي جدات روسيات وعمات اسبانيات...\ كنت طائرا في زمن الفرس\ صليبا في عهد قسطنطين\ سيفا في يد خالد\ كأسا في يد الخيام\ من يدلني علي؟.. ربما ولد مني مزارع فرنسي\ أو سياسي مخادع في ايطاليا\ ربما جئت من تراب لوس انجلوس\ او من طين أثينا\.. لا أنكر صلتي بزيوس\ ولا أقر بدمه في عروقي\ ولا أطعن في صحة النهر\ ولا أخبئ البحر في خزانتي\ سلالتي الريح وعنواني المطر" هذه هي القصيدة والتي أود أن أشير إلى أنها قصيدة ربما تكون جميلة مؤثرة لكن التعليق الذي أورده هنا لا علاقة له بجمال القصيدة بل بالكينونة الفنية التي سكنت في قلب الشاعر. هذا الكل الذي أخرجه يدل على أن الشاعر مشغول في أمر آخر هو الوحدة العامة لبني لبشر مع أن بلاده تغتصب وتقتل كل يوم. هي قصيدة جميلة يكتبها شاعر افرنسي او انكليزي، لكن إن كتبها عربي وانشغل بالوحدة الكلية فيجب أن يكتبها بشكل مغاير. هذه القصيدة ليست عربية بل هي غربية الطابع والروح. وتدل على انفصال عن الواقع العربي، وإن كان هناك أي اتصال ومحاولة تذكير من الشاعر -بهذه الطريقة- لبني العالم بوحدة البشر وبشكل غير مباشر لوقف نزف الدماء في بلاده فهي ليست قضية الشعر بل قضية الدين الذي يبنى على المحبة والتسامح. إنها من هذه الناحية - والنظرة نظرة عربية - تبدو لي أنها نص بوذي معاد ومكرر! وليست قصيدة عربية.
من آن الى آخر تصعد أصوات مصرية كي تلفت النظر. مصر حاضرة العرب إن كان مازال هناك عرب. مايحدث في هذه المدينة\البلد من آن الى آخر لهو شديد الأهمية وليدل على المكانة التي وصلنا إليها. قصيدة شرفة ليلى مراد!! القصيدة التي باضت رمادا بدل الذهب. وما حدث بعد نشرها يدل إلى شيء واحد أبدا وهو لا قراء بين العرب، والأدباء العرب لا يعرفون القراءة. لايكفي أن تقرأ فهذه ليست قراءة إن لم تعرف الحرية فإنك لن تعرف القراءة. قصيدة "شرفة ليلى مراد" العنوان موغل في الشاعرية ويكاد يغني- لمن يعرف ليلى مراد- لكن الذاتية والمباشرة التي تظهر في المقاطع وسمت هذا النص بالخاطرة وليس بالقصيدة الشعرية. إنها خاطرة كتبت بأسلوب متمرس يتقن صناعة الكلمة. يكتب الشاعر في بعض مقاطع القصيدة لنفسه ولأصحابه للذين يعرفون حوادث شخصية بعينها ولقد كرر هذه الطريقة سابقا في ديوان "سيدة النبع". كأن الشاعر يجلس أمام مرآة ويكتب لطيفه المقابل فهو جمهوره وهمه ونصب وجوده.
"الأزبكية يقسو على نفسه موبخاً: يالطخ، الجميلات لا يصح أن يصعدن السلالم وهن معلقات على ذكرى الأب الذى يظهر خفيفا فى القصص. ظلت دعوة الشاى مؤجلة حتى ماتت التى فى مقام الأم أثناء حمى الطوائف"
في مقطع طائرات نقرأ" البيوت تأكلها الرطوبة\ لذلك يطلقون الطائرات الورقية\ على السطوح\ ليثبتو بها المنازل على الأرض" هذا المقطع الذي يريد أن يبني صورة جديدة مفاجئة يدلنا على مدى انحسار الخيال في القصيدة. فالذات التي دارت وتقوقعت ولم تعرف لهب الابداع الأصيل توهم الكاتب في هذا المقطع بصورة جديدة مبدعة لكن بتأمل قليل نجد أن التخيل منقوص ولا صورة شاعرية فيه. مانتج عن القصيدة مضر للذائقه التي تفعّل تطوير الروح ومضر لاسم مصر الفني. هذه القصيدة التي أحدثت عواصف بركان كان يجب أن تمر كما مر غيرها.
تستطيع أن تلمس تطور وشيك لأمة ما حين تجد شعراءها يأخذون بيد الوعي العام نحو طرف آخر لا يستطيع سوى الشاعر الامساك والتعلق به.
من القصيدتين السابقتين نقرأ روحا غير مؤهلة للإستقلال وللتعبير والحرية. في منظوري الخاص جاءت قصيدة حوامدة كي تؤكد الصغار في نفوسنا فمن سوى الضعيف يذكر الآخر القوي بالتسامح والحب والأب المشترك؟ لو كانت في أرواحنا مؤهلات للقوة لما خطر في بال أي شاعر عربي أن يكتب مثل هذه القصيدة وإن كتبها فهي قصيدة ريح ومطر ستأتي على الظلم والجور. أما قصيدة حلمي سالم فهي قصيدة شخصية كتبها أمام المرآة وهي استشفاف عن الحالة العربية التي لا تستطيع أن تخرج عن ذاتها.